logo

ويجعل من يشاء عقيمًا


بتاريخ : الثلاثاء ، 9 صفر ، 1441 الموافق 08 أكتوبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
ويجعل من يشاء عقيمًا

لا شك أن الإنجاب قضية لا دخل للبشر فيها، فالذي تكفل بالخلق هو الله؛ وإنما البشر مجرد سبب أو وسيلة لذلك، قال تعالى: {للهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى:49-50].

ففي هذه الآية يقول ابن كثير: «جعل الناس أربعة أقسام، منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورًا وإناثًا، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيمًا لا نسل له ولا يولد له»(1).

وفي قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من الإجمال ما يبعث المتأمل المنصف على تَطَلُّب الحكمة في ذلك، فإن تَطَلَّبها انقادتْ له كما أومأ إلى ذلك تذييل هذه الجملة بقوله: {إِنَّه عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، فكأنه يقول: عليكم بالنظر في الحكمة في مراتب الكائنات وتصرف مبدعها، فكما خلق الملائكة على أكمل الأخلاق في جميع الأحوال، وفطر الدواب على حد لا يقبل كمال الخلق، كذلك خلق الإنسان على أساس الخير والشر، وجعله قابلًا للزيادة منهما على اختلاف مراتب عقول أفراده وما يحيط بها من الاقتداء والتقليد، وخلقه كامل التمييز بين النعمة وضدها؛ ليرتفع درجات وينحط دركات مما يختاره لنفسه، ولا يلائم فَطْرُ الإنسان على فِطْرَةِ الملائكة حالة عَالَمِهِ المادي؛ إذ لا تَأَهُّلَ لهذا العالم لِأَنْ يكون سكانه كالملائكة؛ لعدم الملاءمة بين عالم المادة وعالم الروح.

ولذلك لما تم خلق الفرد الأول من الإنسان، وآن أوان تصرفه مع قرينته بحسب ما بزغ فيهما من القوى، لم يلبث أن نقل من عالم الملائكة إلى عالم المادة، كما أشار إليه قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه:123](2).

والمعنى: أن خلقه ما يشاء ليس خلقًا مهملًا عريًا عن الحكمة؛ لأنه واسع العلم لا يفوته شيء من المعلومات، فخلقه الأشياء يجري على وفق علمه وحكمته، وهو قدير نافذ القدرة، فإذا علم الحكمة في خلق شيء أراده، فجرى على قدره، ولما جمع بين وصفي العلم والقدرة تعين أن هنالك صفة مطوية وهي الإرادة؛ لأنه إنما تتعلق قدرته بعد تعلق إرادته بالكائن.

وتفصيل المعنى: إنه عليم بالأسباب والقوى والمؤثرات التي وضعها في العوالم، وبتوافق آثار بعضها وتخالف بعض، وكيف تتكون الكائنات على نحو ما قدر لها من الأوضاع، وكيف تتظاهر فتأتي الآثار على نسق واحد، وتتمانع فينقص تأثير بعضها في آثاره بسبب ممانعة مؤثرات أخرى، وكل ذلك من مظاهر علمه تعالى في أصل التكوين العالمي، ومظاهر قدرته في الجري على وفاق علمه(3).

وحب الذرية مفطور في النفس الإنسانية، وطلبها والسعي إليها ليس غريبًا على النفس الإنسانية؛ لأن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، كما قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46].

قال القرطبي: «وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالًا ونفعًا، وفي البنين قوة ودفعًا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن مع قرينة الصفة للمال والبنين، لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة، فلا تتبعوها نفوسكم»(4).

وإذا كان الإنسان يحب أن يكون له ذرية فعباد الله المؤمنون من طبيعتهم وصفاتهم أن يبتهلوا إلى الله أن يرزقهم أولادًا مؤمنين صالحين مهديين إلى الإسلام، مطيعين لله، يعملون الخير، ويبتعدون عن الشر، تقر بهم أعينهم، وتسر بهم نفوسهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا}؛ أي: قرنائنا، من أصحاب وأقران وزوجات، {وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}؛ أي: تقر بهم أعيننا، قرة العين: ما يصادف المرء به سرورًا فلا تطمح العين إلى ما سواه، يقال: هو قرة عين أمه: سرورها وسكونها.

قال ابن كثير: «وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له»(5).

وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل:3]؛ أي: قَسَمًا بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من ماء واحد.

وفى هذا دليل على أنه عليم جدّ العلم بدقائق المادة وما فيها؛ إذ لا يعقل أن يكون هذا التخالف بين الذكر والأنثى في الحيوان بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة فيهما، فحدوث هذا التخالف في الجنين دليل على أن واضع هذا النظام عالِم بما يفعل، حكيم فيما يصنع ويضع.

وقصارى ما سلف أن بعض الماء يكون تارة سببًا للحمل، وأخرى يكون غير مستعدّ للتلقيح، والأول يكون من بعضه الذكران، ومن بعضه الإناث، سبحانه ما أعظم قدرته، وأجلّ حكمته، لا إله إلا هو الفعال لما يريد(6).

يقول السعدي: «وهذه الآية فيها الإخبار عن سعة ملكه تعالى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور، حتى إن تدبيره تعالى من عمومه، أنه يتناول المخلوقة عن الأسباب التي يباشرها العباد، فإن النكاح من الأسباب لولادة الأولاد، فالله تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء.

فمن الخلق من يهب له إناثًا، ومنهم من يهب له ذكورًا، ومنهم من يزوجه؛ أي: يجمع له ذكورًا وإناثًا، ومنهم من يجعله عقيمًا لا يولد له.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ} بكل شيء {قَدِيرٌ} على كل شيء، فيتصرف بعلمه وإتقانه الأشياء، وبقدرته في مخلوقاته»(7).

وأخبر الله تعالى عن أدلة قدرته، فهو مالك السماوات والأرض، والمتصرف فيهما بما يريد، وملكه محيط بالخلق، ومشيئته نافذة في جميع المخلوقات، وفي كل أمورهم، فإن الله تعالى وحده يخلق ما يشاء، ويمنع من يشاء، يهب من يشاء البنات فقط، ويرزق من يشاء البنين فقط، ويعطي من يشاء الصنفين معًا ذكورًا وإناثًا، فالتزويج هنا بمعنى الجمع بين البنين والبنات، ويجعل من يشاء عقيمًا لا يولد له؛ لأن الملك ملكه، يتصرف في شئون خلقه على وفق العلم الشامل، والحكمة الدقيقة، والمصلحة الحقيقية، فإنه سبحانه عليم بمن يستحق كل صنف من أصناف الأولاد، تامّ القدرة على منح ما يريد أو منع ما يشاء، فقوله تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرانًا وَإِناثًا} معناه أن يجعل في بطنٍ زوجًا من الذرية، ذكرًا وأنثى، والعقيم: الذي لا يولد له.

وإنما بدأ الله تعالى بذكر الإناث تأنيسًا بهن وتشريفًا لهن، وحملًا على العناية بهن، والإحسان إليهن، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له حجابًا من النار»(8).

وقال واثلة بن الأسقع فيما حكاه الثعلبي عنه: «من يُمْن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر؛ لأن الله تعالى بدأ بالإناث»، وقال إسحاق بن بشر: «نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهم السلام، ثم عممت، فلوط عليه السلام أبو بنات، لم يولد له ذكر، وإبراهيم عليه السلام عكسه، لم يولد له إلا الذكور، ومحمد عليه الصلاة والسلام ولد له الصنفان، ويحيى بن زكريا عليهما السلام عقيم.

وهذا التوزيع الإلهي في رزق الأولاد كقسمة الأرزاق بين العباد، نابع من الحكمة الإلهية لخير الإنسان، أو لما يعلم له من أحوال تناسبه أو لمصالح بعيدة المدى(9).

فالعقم أيضًا هبة إلهية؛ لأن الإنسان إذا ما استقبل العقم برضا الله لَوَجَد في كل رجل يراه ابنًا له؛ لأنه استقبل الهبة في المنع برضا، مثله مثل من استقبل الإناث كاستقبال الذكور.

إذن، ما دامت المسألة هبة من الله فيجب أن تستقبل عطاء الله ومنعه بالرضا(10).

والذرية مظهر من مظاهر المنح والمنع، والعطاء والحرمان، وهي قريبة من نفس الإنسان، والنفس شديدة الحساسية بها، فلمسها من هذا الجانب أقوى وأعمق، وقد سبق في السورة حديث عن الرزق بسطه وقبضه، فهذه تكملة في الرزق بالذرية، وهي رزق من عند الله كالمال.

والتقديم بأن لله ملك السماوات والأرض هو التقديم المناسب لكل جزئية بعد ذلك من توابع هذا الملك العام، وكذلك ذكر: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، فهي توكيد للإيحاء النفسي المطلوب في هذا الموضع، ورد الإنسان، المحب للخير، إلى الله الذي يخلق ما يشاء مما يسرّ وما يسوء ومن عطاء أو حرمان.

ثم يفصل حالات العطاء والحرمان: فهو يهب لمن يشاء إناثًا، وهم كانوا يكرهون الإناث، ويهب لمن يشاء الذكور، ويهب لمن يشاء أزواجًا من هؤلاء وهؤلاء، ويحرم من يشاء فيجعله عقيمًا، والعقم يكرهه كل الناس، وكل هذه الأحوال خاضعة لمشية الله، لا يتدخل فيها أحد سواه، وهو يقدرها وفق علمه وينفذها بقدرته: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}(11).

فالأطفال زينة الحياة الدنيا؛ فلا تكتمل الحياة الأسرية دونهم، وإن توافق الزوجان فيما بينهما يبقى هناك فراغ في نفس كل منهما، يلوذ به حينما يرى كلًا من أقرانه قد أصبح لديه أطفال وعائلة، ويبدأ ذلك الفراغ بالاتساع ليتحول إلى شق كبير، البعض منهم يتجاوز تلك المرحلة ويتقبل حياته ويرضخ لإرادة الله تعالى، وكثيرًا ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فتتحول حياتهم إلى جحيم، حيث توصلهم تلك الرياح إلى طريق مسدود، لينتهي بهم الأمر إلى خلافات من جراء عقم أحدهما، خصوصًا أن مجتمعنا الشرقي كثير التركيز في مسألة الإنجاب في السنة الأولى من الزواج، وإن حصل أي تأخر تبدأ مضايقات الأهل والأقارب.

والأمومة حلم كل أنثى، وغريزة فطر الله الأنثى عليها، تمارس الأنثى دورها كأم بالفطرة وهي طفلة أثناء لعبها مع أقرانها، فتلعب دور الأم التي تحنو على صغارها وتربيهم، وتدبر شئون مطعمهم، وتهذيب سلوكياتهم، تقليدًا لوالديها، وكأن الله عز وجل يهيئها لدورها الفطري في الحياة.

وما إن تكبر الطفلة الصغيرة وتتزوج حتى تبدأ تحن لإشباع غريزة الأمومة لديها؛ فتنتظر شهرًا بعد شهر حدوث الحمل، ولكن قد تتفاجأ بعدم حدوثه؛ مما يضطرها هي وزوجها للبحث عن مسببات تأخره، فيذهبون للطبيب المختص، ويطلب منهم بدوره الفحوصات لكليهما لمعرفة السبب وعلاجه إن وجد، وبعض الأزواج بعد استخراج النتائج يتبين أنهما يحتاجان لرحلة علاج مطولة لتحقيق حلم الأمومة والأبوة.

أثناء مرحلة العلاج تعتري الزوجين تغيراتٌ نفسية، قد تكون أحيانًا ناتجة عن جرعة العلاج، وأحيانًا نتيجة للضغط النفسي والقلق من نتيجة العلاج، أو من البيئة المحيطة بهما من خلال كثرة السؤال عن عدم الإنجاب، بالإضافة إلى أكثر الأسباب أهمية وهو عدم تعاون أحد الزوجين للعلاج؛ مما يشكل عبئًا على الشريك الآخر، فضلًا عن الضغط النفسي الناتج عن العلاج وحدوث الحمل.

ومما لا شك فيه أن سوء الحالة النفسية تؤثر على الإنجاب؛ فالقلق والتوتر والضغوط النفسية والصدمات الانفعالية المتكررة، بالإضافة إلى شدة التعلق بالإنجاب، كل هذه العوامل النفسية قد تؤثر لدى البعض على تأخر الحمل والإنجاب.

والأسوأ من هذا وذاك لهجات العتاب واللوم لأصحاب البلاء كأنهم السبب فيما أصابهم؛ بل كأنهم مقصرون في أن يكونوا السبب في خلق إنسان.

معظم المبتلين بالعقم، ولربما كلهم، لا شك أنهم لم يتركوا وسيلة في البحث عن العلاج، وما تركوا بابًا إلا طرقوه، فمنهم من رُزِق ومنهم من لم يرزق؛ بل لم يشأ الله أن يرزقه.

هنا يأتي دور الدعم النفسي الذاتي للزوجين لتخفيف ما يواجهونه من ضغط نفسي، ومن حزن وقلق قبل وأثناء وبعد مرحلة العلاج، وفيما يلي بعض النصائح التي تساعدهما لتخطي هذه المرحلة من حياتهما بنجاح:   

أولًا: دعم ديني، ويتأتى ذلك بصدق التوكل على الله؛ بالدعاء، وحسن الظن به سبحانه، والالتزام بالعبادات مع الأخذ بالأسباب.

ثانيًا: معايشة اللحظة الراهنة للانفعالات، أيًا كان نوعها؛ حزن، ضيق، قلق، رغبة بالبكاء، تفاؤل، اشتياق...، والتعبير عنها وعدم كبتها؛ لأن ذلك من شأنه تخفيف الضغط النفسي، وإعادة التوازن الذاتي.

ثالثًا: النمذجة؛ وذلك بقراءة قصص لشخصيات مروا بنفس الحدث، وكيف أوصلها الصبر والدعاء، مع الأخذ بالأسباب، إلى تحقيق الحلم.

رابعًا: إعادة العزو أو المسئولية، بمعنى ألا يعزو أو يرجع الزوجان سبب تأخر إنجابهما إليهما شخصيًا، ولكن هناك عدة عوامل لا ترجع لهما، فمثلًا يعزوان السبب إلى مشيئة الله في المقام الأول، وأنها قد تكون منحة من الله ليجزل ثوابهما على الصبر، ثم يستشعرا لذة العطاء بعد طول انتظار.

خامسًا: التقبل الكامل لخبرة الوقت الحاضر، بدون تقييم وإطلاق أحكام على هذه الخبرة، وأن يتم التركيز على ما هو (هنا والآن)، مع الالتزام بعمل كل ما هو مهم وفعال في حياة الشخص، وما الذي يرغب الشخص أن يعمله حتى يقود حياة لها قيمة ومعنى.

سادسًا: مخاطبة الذات بأفكار إيجابية، ينتج عنها مشاعر وسلوك إيجابيين.

سابعًا: تخفيف التوتر عن طريق ممارسة تمارين الاسترخاء والتأمل.

ثامنًا: احتواء الزوجين لبعضهما، وتعاونهما الفعال في رحلة العلاج، وما يعتريها من تغيرات نفسية، ومشاركة بعضهما نشاطات مختلفة، لها أكبر الأثر في رحلة العلاج وفي حياتهما بشكل عام.

تاسًعا: التركيز على إيجابيات حدث تأخر الإنجاب، وتذكر أن كل حدث له جانب إيجابي.

عاشرًا: أن يكون هناك عدة أركان للحياة وليس فقط ركن واحد؛ كركن العلاقات الاجتماعية، وركن العمل أو الدراسة، وركن آخر للهوايات والاهتمامات، وركن للاهتمام بالصحة، وهكذا(12).

إن غريزة الأمومة عند الأنثى قوية جدًا، والعاطفة تحتل المراتب الأولى في نفسها، وقد تكون نتيجة تقبل عقم أو ضعف أحد الزوجين متوقفة على عقلية الشريك وإيمانه بقضاء الله وقدره؛ حيث إن الأمر يكون دائمًا صعبًا في البداية، ويشكل صدمة للطرفين، والتقويم النفسي في حالات العقم لدى أحد الزوجين يتطلب جلسات نفسية، تساعد الشخص على تحليل الموضوع بوسائل مختلفة وتدفعه إلى الانشغال بأمور فيها إثبات للذات؛ مما يؤدي إلى تخفيف التوتر الناتج عن العقم، أما الأهل فتختلف ردود فعلهم باختلاف عقلياتهم وتفكيرهم وإيمانهم(13).

إلا أن هناك ظاهرة ليست بالنازلة المستحدثة؛ بل لها جذور متأصلة لا نزال نسمع عنها بين الحين والآخر, ظهرت في كثير من المجتمعات الإسلامية, وانتشرت بين العديد من الأسر المسلمة, واختلفت فيها تصرفات الناس وآراؤهم، وتشعبت فيها أفكارهم وأهواؤهم, وهي ظاهرة الفرقة بسب عدم الإنجاب.

حكم الفرقة بسبب عدم الإنجاب:

القول الأول: لكل من الزوجين الحق أن يفارق صاحبه إذا ظهر عقمه بالفسخ:

فعن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلًا على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيمًا، فقال له عمر رضي الله عنه: «أعلمتها أنك عقيم؟»، قال: «لا»، قال: «فانطلق فأعلمها ثم خيرها»(14).

وقال الحسن رحمه الله تعالى: «إذا وجد الآخر عقيمًا يخير»(15).

وذهب إليه من المعاصرين الشيخ محمد بن إبراهيم في عدة فتاوى، مجملها أن العقم عيب يطلب به فسخ النكاح, ما لم تكن المرأة دخلت على بصيرة وعلم بالواقع(16).

 والشيخ سيد سابق رحمه الله تعالى حيث قال: «...أن يتزوج الرجل المرأة وهو عقيم لا يولد له ولم تكن تعلم بعقمه، فلها في هذه الحال حق نقض العقد وفسخه متى علمت، إلا إذا اختارته زوجا لها، ورضيت معاشرته»(17).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى عمن وجدت زوجها عقيمًا: «تنظر للمصلحة، إن رأت المصلحة أن تبقى معه على حاله فهو خير، وإن قالت: إنها تريد الأولاد فلتستسمح منه ولتطلب منه أن يفسخ النكاح أو يطلقها»(18).

وذهب إليه الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله حيث قال: «... إذا لم تعلم به المرأة فلها طلب الفسخ لرغبتها في الذرية، فإن وجدت الحلول الطبية والعلاجات الشرعية التي تعيد إلى الرجل ما نقصه من أسباب الإنجاب فليس لها طلب الفسخ إلا بعد إجراء العمليات وعدم الإفادة منها»(19).

القول الثاني: أن هذا العقم ليس بعيب يرد به النكاح, وليس لأحدهما طلب الفسخ من الآخر إذا كان عقيمًا، وهو قول جماهير أهل العلم, قال الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى: «لا نعلم في هذا خلافًا بين أهل العلم»(20).

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو نكحها وهو يقول أنا عقيم, أو لا يقوله, حتى ملك عقدتها ثم أقر به, لم يكن لها خيار, وذلك أنه لا يعلم أنه عقيم أبدًا حتى يموت؛ لأن ولد الرجل يبطئ شابًا ويولد له شيخًا, وليس له في الولد تخيير, إنما التخيير في فقد الجماع لا الولد»(21).

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى لما سئل عن الرجل يتزوج المرأة وهو عقيم لا يولد له: «أعجب إلي إذا عرف ذا من نفسه أن يبين؛ عسى امرأته تريد الولد»(22).

وقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى محمول على استحباب تبيين حاله إذا كان يعلم أنه عقيم في ابتداء النكاح, أما إذا انعقد النكاح فلا يكون العقم عيبًا يفسخ به النكاح.

وهو ما فهمه الموفق ابن قدامة من كلام الإمام رحمه الله تعالى وعبر عنه بقوله: «وأحب أحمد أن يتبين أمره, وقال: عسى امرأته تريد الولد».

ثم قال ابن قدامة: «وهذا في ابتداء النكاح, فأما في الفسخ فلا يثبت به, ولو ثبت بذلك لثبت في الآيسة, ولأن ذلك لا يعلم, فإن رجالًا لا يولد لأحدهم وهو شاب, ثم يولد له وهو شيخ, ولا يتحقق ذلك منهما»(23).

وقال الشيخ عطية صقر رحمه الله: «لقد تحدث الفقهاء عن العيوب التي تعطي الزوج الحق في فسخ النكاح، ومنها البرص والجذام والجنون والرتق، أي انسداد مدخل الذكر من الفرج، والقرن شيء يبرز في الفرج كقرن الشاة، أو غدة تمنع المخالطة، وقال بذلك الأئمة الثلاثة دون أبى حنيفة.

واتفق الفقهاء على أن عقم المرأة وعدم إنجابها ليس عيبًا فيها يمنع استمتاع الزوج بها، فليس له خيار الفسخ؛ لأن الإنجاب يرجع إلى إرادة الله سبحانه؛ ومن هنا لا ينفسخ العقد بظهور عدم إنجاب الزوجة.

ولكن له الحق في طلاقها، وتترتب أحكام الطلاق في هذه الحالة، كأية حالة أخرى، فما دام الزوج قد دخل بها فلو طلقها كان لها مؤخر الصداق، ونفقة العدة، وليس له أن يلزمها بإبرائه أو التنازل عن شيء من حقوقها، إلا إذا طلبت هي الطلاق فيمكن التفاهم على ما تتنازل عنه.

وإذا ظهر أن بالزوج عيبًا يمنع الإنجاب؛ كأن كان مجبوبًا؛ أي مقطوع الذكر، أو عنينًا؛ أي غير قادر على الجماع لضعف خِلقي أو كبر السن مثلًا، أو خصيًا؛ أي مقطوع الخصيتين، فللزوجة أن ترفع الأمر إلى القضاء لطلب التفريق بينه وبينها، وإذا ثبت ذلك عند القاضي بأي طريق من طرق الإثبات أمر الزوج بتطليقها، فإن لم يطلقها ناب عنه القاضي في تطليقها منعًا للضرر الذي يلحقها، وهذا الطلاق يكون بائنًا بينونة صغرى.

لكن التفريق مشروط بعدم علمها بحالته قبل الزواج، وبألا يوجد منها ما يفيد رضاها بالمكث معه بعد الزواج والعلم بحاله.

والتفريق بسبب الجب في الحال لا يحتاج إلى ضرب أجل، وبسبب العنة يمهل الزوج سنة لعله يقوى بالعلاج أو بغيره على الجماع، وبسبب الخصاء يمهل الزوج سنة.

والتفريق بسبب الجب والعنة والخصاء يعتبر طلاقًا عند الحنفية والمالكية وأكثر العلماء.

هذا وإذا فرق بين الزوجة وزوجها العنين أو الخصي وكان قد خلا بها فإنها تستحق جميع المهر؛ لأنها خلوة صحيحة، وعليها العدة للاحتياط، وإذا كان مجبوبًا وخلا بزوجته ثم فرق بينهما كان لها جميع المهر أيضًا عند أبي حنيفة، ولها نصفه عند أبي يوسف ومحمد صاحبيه، وعليها العدة باتفاق الجميع بذلك للاحتياط»(24).

خلاصة الكلام على مسألة الفرقة بسبب عدم الإنجاب:

أن أهل العلم اختلفوا هل يفرق بعيب العقم أم لا؟ فذهب بعض أهل العلم أن الإنسان مخير في هذا بين طلب الفرقة لأن ذلك عيب, ولأن حب الولد مركوز في الفطر.

وذهب جمهور أهل العلم، وهو الأكثر، ألا خيار في ذلك, وهو قول قوي؛ خاصة وأن الإنسان قد يمنع الولد فترة ثم يرزقه الله عز وجل، فليس هناك قطع بالعقم إلا إذا جزم الأطباء وذوي الاختصاص بذلك.

أما عن مسألة الأولاد فإن الله عز وجل قد فتح أمامه الوسائل الطبية الجائزة؛ كطلب العلاج، فإن الله عز وجل ما أنزل داءً إلا أنزل له دواءً، عَلِمَه من علمه وجهله من جهله.

وأيضًا من الحلول مسألة التعدد، فإن الله تعالى أباح له ذلك وأذن فيه, فلا داعي حينئذ لطلب الفرقة أو التطليق، وهذا إذا ما كانت المرأة لا تنجب, أما في حال كون الرجل لا ينجب فإن المرأة تخير، وذلك إذا كانت متضررة بعدم الولد، وأنها تأمل أن يأتيها الولد بالتزوج من غيره، فلها أن تطلب الطلاق والحال هذه.

ومما يلاحظ ويلمس في كثير من المجتمعات الإسلامية أنه أول ما يظهر عند أحد الزوجين يسعون إلى طلب الطلاق, ويبدأ إلحاح الأهل والأقارب, ونسوا أن الله تعالى هو الذي يأتي بهذا الأمر وهو الذي يمنعه, وأنه إذا أعطى أعطى لحكمة، وإذا منعه منعه لحكمة, ولقد اختار الله تعالى للأبوين المؤمنين في سورة الكهف أن يبقيا بدون ولد، وأن يفقداه بعد وجوده, فقال تعالى معللًا ذلك: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80].

فلا داعي لأن يقوم الزوج إلى التطليق لمجرد أن يظهر عقم زوجته؛ ذلك أن هذا الأمر له أثر كبير على حال المرأة, وكم يتألم القلب حينما يسمع مثل هذا الأمر، وكأن فاعل ذلك نسي البر والمودة والحب لأمر كتبه الله عليهما, وليس لها ولا له فيه سبب, ولو أن الإنسان احتسب في ذلك وصبر لأعقبه الله تعالى عنه خيرًا.

وهناك حلول ومخارج كثيرة بإذن الله تعالى.

1- الدعاء والاستغفار والتماس أوقات الإجابة, وقد حكى الله تعالى عن نبيه زكريا عليه السلام دعاءه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]؛ أي رب إني لم أدعك قط فخيبتني فيما مضى فتخيبني فيما بقي، فكما لم أَشْقَ بدعائي فيما مضى فكذلك لا أشقى فيما بقي، عودتني الإجابة من نفسك.

وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح:10-12].

قال ابن صبيح: «شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: (استغفر الله)، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: (استغفر الله)، وقال له آخر: (ادع الله أن يرزقني ولدًا)، فقال له: (استغفر الله)، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: (استغفر الله)، فقلنا له في ذلك؟ فقال: (ما قلت من عندي شيئًا، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)})».

وقال الشاعر:

أتهــــــــــــزأ بالدعـــــاء وتزدريـــــه       وتنسى ما فعل الدعاء

سهام الليل لا تخطي ولكن       لها أمد وللأمد انقضاء

2- التعدد لالتماس الذرية, وقد أباحه الله تعالى في كتابه, ولا جرم في ذلك, ويحرص على العدل بينهن, ويستحسن له بسط الأسباب لزوجته الأولى، وإشعارها بأنه لن يتخلى عنها ولن يقصر في حقها، وأن ما فعله أمر مشروع.

ويتنبه إلى مسألة عدم الاستعجال في طلاق الأولى، خاصة مع ضغط الأقارب، فربما كانت الزوجة الثانية مفتاحًا للإنجاب، وغالبًا يكون الإنجاب للأولى والثانية، وهذا مجرب.

3- طلب العلاج النافع والكشف الطبي لدى المتخصصين، فربما كان السبب شيئًا بسيطًا، وبعد علاج يسير يبدأ الإنجاب بإذن الله تعالى.

ومن العلاج النافع أيضًا الرقية الشرعية بقراءة القرآن واستعمال الأدوية النبوية المذكورة في الطب النبوي.

ويتنبه في هذا إلى أن بعض الناس يلجئه طلب الأولاد إلى الذهاب إلى السحرة والكهان, وهذا قد انتشر في بعض الأوساط, وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد»، وفي رواية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافًا فصدقه بما يقول لم يقبل له صلاةٌ أربعين يومًا»(25)، وعلى المسلم أن يلجأ إلى الله ويدعوه كما دعاه زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38](26).

***

______________

(1) تفسير ابن كثير (7/ 216).

(2) التحرير والتنوير (25/ 137).

(3) المصدر السابق (25/ 139).

(4) تفسير القرطبي (10/ 414).

(5) تفسير ابن كثير (1/ 442).

(6) تفسير المراغي (30/ 174).

(7) تفسير السعدي، ص762.

(8) أخرجه البخاري (1418).

(9) التفسير الوسيط، للزحيلي (3/ 2348).

(10) تفسير الشعراوي (8/ 5036).

(11) في ظلال القرآن (5/ 3169).

(12) الدعم النفسي لتأخر الإنجاب، موقع: نفسي.

(13) تأخر الإنجاب يلقي بظلاله على الاستقرار الأسري، موقع: بشرى حياة.

(14) سنن سعيد بن منصور (2/ 81).

(15) المغني (10/ 59).

(16) انظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.

(17) فقه السنة (2/ 61).

(18) اللقاء الشهري (50/ 15).

(19) انظر الفتوى رقم (8483) من موقع الشيخ رحمه الله تعالى.

(20) المغني (10/ 59).

(21) الأم (6/ 111-112).

(22) مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه (4/ 1887-1888).

(23) المغني (10/ 59-60).

(24) الأحوال الشخصية، للشيخ عبد الرحمن تاج، ص347-350.

(25) أخرجه أحمد (9536).

(26) ظاهرة الفرقة بسبب عدم الإنجاب، أرشيف ملتقى أهل الحديث-3، الموسوعة الشاملة.