logo

وكان أبوهما صالحًا


بتاريخ : الأربعاء ، 15 شعبان ، 1441 الموافق 08 أبريل 2020
بقلم : تيار الاصلاح
وكان أبوهما صالحًا

خلق الله في نفوس عباده محبة الولد، والرغبة في إسعاده، فقلوب الآباء مرهفة الحساسية تجاه أبنائهم، شديدة الشغف بهم، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران:14]، وقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، غير أن كثيرًا من الآباء يقصرون اهتماماتهم على تأمين حياة راغدة ومعيشة هانئة بجمع المال، وكل ذلك حسن إن كان من حِلٍّ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس»(1).

ومن الخطأ أن نظن أن الميراث الذي نتركه لأبنائنا من بعدنا هو المال وحسب، مع أهميته بالطبع، لكن تلك الأهمية تتلاشى أمام ميراث أعظم من ميراث المال، ألا وهو ميراث الأخلاق والصلاح والتربية الحسنة، فهو أعظم ما يورثه الآباء لأبنائهم من بعدهم، هي الثروة الحقيقية التي تستحق أن نبذل الغالي والنفيس من أجل أن نوفرها لهم.

وصلاح الأب هو خير ميراث يمكن أن يرثه الأبناء، فلا تصيبهم نوائب الدهر، ويكفلهم الله بعين رعايته، ويحفظهم بخفي لطفه، ببركة هذا الصلاح، فلم يطعمهم من حرام، ولم تنبت أجسامهم من سحت، لم يرتش، أو يسرق، يرى الله دائمًا أمامه في كل أحواله، لا يغيب عنه في معاملاته، ولا يغفل عن مرضاته.

غير أن القضية الأولى والأهم {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82].

عن ابن عباس قال: حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجل واستحيا وأخذته ذمامة من صاحبه، فقال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:76]، لرأى من صاحبه عجبًا».

قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر نبيًا من الأنبياء بدأ بنفسه فقال: «رحمة الله علينا وعلى أخي صالح، رحمة الله علينا وعلى أخي عاد»، ثم قال: «إن موسى صلى الله عليه وسلم بينما هو يخطب قومه ذات يوم إذ قال لهم: ما في الأرض أعلم مني، فأوحى الله إليه أن في الأرض من هو أعلم منك، وآية ذلك أن تزود حوتًا مالحًا، فإذا فقدته فهو حيث فقدته، فانطلق هو وفتاه حتى بلغ المكان الذي أمروا به، فلما انتهوا إلى الصخرة انطلق موسى صلى الله عليه وسلم يطلب، ووضع فتاه الحوت على الصخرة، فاضطرب فاتخذ سبيله في البحر سربًا.

فقال فتاه: إذا جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثته، فأنساه الشيطان، فانطلقا فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال، ولم يكن يصيبه ما يصيب المسافر من النصب والكلال حتى جاز ما أمر به.

قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا، فقال له فتاه: يا نبي الله، أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت أن أحدثك، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجبًا، قال: ذلك ما كنا نبغي، فرجعا على آثارهما قصصًا، يقصان الأثر حتى انتهيا إلى الصخرة، فأطاف بها موسى، فإذا هو متسج ثوبًا، فسلم فرفع رأسه، فقال: من أنت؟ فقال: موسى، قال: من موسى؟ قال: موسى بني إسرائيل، قال: فما لك؟، قال: أخبرت أن عندك علمًا فأردت أن أصحبك، قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا، قال: ستجدني إن شاء الله صابرًا، ولا أعصي لك أمرًا، قال: كيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا؟، قال: قد أمرت أن أفعله، ستجدني إن شاء الله صابرًا، قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا.

فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة فخرج من كان فيها، وتخلف ليخرقها، فقال له موسى: أتخرقها لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرًا، قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسرًا، فانطلقا حتى إذا أتوا على غلمان يلعبون على ساحل البحر فيهم غلام ليس في الغلمان أحسن ولا أنظف منه فقتله، فنفر موسى صلى الله عليه وسلم عند ذلك وقال: قتلت نفسًا زكية بغير نفس، لقد جئت شيئًا نكرًا، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال: فأخذته ذمامة من صاحبه واستحيا، وقال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، قد بلغت من لدني عذرًا فانطلقا، حتى إذا أتيا أهل قرية لئام، وقد أصاب موسى جهد، فلم يضيفوهما فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض فأقامه، فقال له موسى مما نزل به من الجهد: لو شئت لاتخذت عليه أجرًا، قال: هذا فراق بيني وبينك، فأخذ موسى بطرف ثوبه فقال: حدثني.

فقال: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، فإذا مر عليها فرآها منخرقة تركها، ورقعها أهلها بقطعة خشبة فانتفعوا بها، وأما الغلام فكان يوم طبع طبع كافرًا، وكان قد ألقي عليه محبة من أبويه، ولو عصياه شيئًا لأرهقهما طغيانًا وكفرًا، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا، فوقع أبوه على أمه فولدت خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا، وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحًا، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك، وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا»(2).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبي بن كعب حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى رسول الله عليه السلام ذكر الناس يومًا، حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل، فقال: يا رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب عليه إذ لم يرد العلم إلى الله عز وجل، فقيل: بلى، قال: يا رب، فأين؟ قال: مجمع البحرين، قال: أي رب، اجعل لي علمًا أعلم ذلك، قال: حيث يفارقك الحوت»، ثم ذكر حديث أبي إسحاق وزاد فيه: «فقال: يا موسى، إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي أن أعلمه، قال: وأخذ طائر بمنقاره من البحر، فقال: والله، ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر»(3).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، قال: «حفظًا لصلاح أبيهما، وما ذكر عنهما صلاحًا»(4).

وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، قال: «كان يؤدي الأمانات والودائع إلى أهلها، فحفظ الله تعالى له كنزه حتى أدرك ولداه فاستخرجا كنزهما»(5).

وفيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به.

اختلفوا في هذا الكنز فقيل: إنه كان مالًا، وهذا هو الصحيح لوجهين:

الأول: أن المفهوم من لفظ الكنز هو المال.

والثاني: أن قوله: {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} يدل على أن ذلك الكنز هو المال، وقيل إنه كان علمًا بدليل أنه قال: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} والرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال؛ إذ كنز المال لا يليق بالصلاح، بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34].

وقيل: كان لوحًا من ذهب مكتوب فيه: (عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله، محمد رسول الله)(6).

فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته، ولم يطلب عليه أجرًا من أهل القرية، وهما جائعان، وأهل القرية لا يضيفونهما، كان يخبئ تحته كنزًا، ويغيب وراءه مالًا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة، ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز؛ فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه، ولما كان أبوهما صالحًا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.

ثم ينفض الرجل يده من الأمر، فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف، وهو أمر الله لا أمره، فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}.

فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يُطْلِع عليه أحدًا إلا من ارتضى.

وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا، لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول، فالقصة تمثل الحكمة الكبرى، وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار، ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار.

وهكذا ترتبط في سياق السورة قصة موسى والعبد الصالح بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله، الذي يدبر الأمر بحكمته، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر، الواقفون وراء الأستار، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار(7).

والابن الصالح ينتفع بسعي أبيه، وكذلك الأب ينتفع بسعي ولده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»(8)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حسنه بعض أهل العلم: «إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك»(9)، فالولد الصالح ينتفع بصلاح أبيه، والأب ينتفع بصلاح الولد(10).

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «كان معاذ بن عفراء لا يدع شيئًا إلا تصدق به، فلما وُلِد له استشفعت إليه امرأته بأخواله فكلموه وقالوا له: (إنك قد أعلت، فلو جمعت لولدك)، قال: (أبت نفسي إلا أن أستتر بكل شيء أجده من النار)، فلما مات ترك أرضًا إلى جنب أرضٍ لرجل»، قال عبد الرحمن وعليه ملاءة صفراء ما تساوي ثلاثة دراهم: «ما يسرني الأرض بملاءتي هذه»، فامتنع وليّ الصبيان، فاحتاج إليها جار الأرض فباعها بثلاثمائة ألف(11).

قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].

قال ابن كثير: «أي: ألحقنا بهم ذرياتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة، وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال؛ بل في أصل الإيمان، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} أي: أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئًا حتى ساويناهم، وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة؛ بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم، بفضله ومنته»(12).

وقوله: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانًا من الله وإحسانًا، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21](13).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إلى الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء»، فالآباء داخلون في اسم الذرية، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41](14).

وقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]. 

فالتربية بالقدوة لها أثرها الكبير في إصلاح الولد أو إفساده، روى أبو نعيم في الحلية قال: «أدخل الشافعي يومًا إلى بعض حجر هارون الرشيد ليستأذن على أمير المؤمنين، ومعه سراج الخادم، فأقعده عند أبي عبد الصمد مؤدب أولاد الرشيد، فقال سراج للشافعي: (يا أبا عبد الله، هؤلاء أولاد أمير المؤمنين وهو مؤدبهم، فلو أوصيته بهم)، فأقبل الشافعي على أبي عبد الصمد فقال له: (ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تركته، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجنهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم)»(15).

كان أبو المعالي الجويني ينسخ بالأجرة، ويتكسب وينفق على زوجته الصالحة وابنه الرضيع، وكان قد أوصى زوجته ألا تمكّن أحدًا من إرضاعه، فدخل مرّة وقد أخذته إحدى الجارات فرضع قليلًا، فما كان منه إلا أن أدخل إصبعه في فيه ولم يزل يفعل ذلك حتى قاء جميع ما شربه وهو يقول: «يسهل عليّ أن يموت ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه»، وانظر كيف لقمة واحدة قد تفسد صاحبها.

وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما أُتي بتمر الصدقة، فأخذ سبطه الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة منها وجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كخ كخ» ليطرحها، ثم قال: «أما شعرت أنَّا لا نأكل الصدقة»(16).

فيا ليت أولياء الأمور يحولون بين أولادهم الصغار وبين ما حرّم الله على عباده، فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استخرج تمر الصدقة من فم الحسن وهو طفل لا تلزمه الفرائض ولم تجر عليه الأقلام؛ فاعتنِ بابنك أن يصله شيء من الحرام حتى لو لم يجر عليه القلم، هكذا فهم الصالحون منطق {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82](17).

قد يحرم الأب صلاح الأبناء بسبب ذنب خفي داوم عليه، أو كسب، أو عقوق للوالدين؛ فصلاح الأبناء وحسن تربيتهم ليس في التلقين والتعليم فقط، أو تميز في اختيار المدارس والمحاضن التربوية المناسبة، أو بذل للجهد والمال فقط، إنما هناك أسباب عبادية عظيمة يقوم بها الأب نفسه، من أهمها: الخوف من الله، ومراقبته سبحانه وتعالى، أو بذل وسع في عمل دعوي، أو عمل صالح خفيّ، أو بر والدين، أو قيام الليل.

فهذا ابن المبارك؛ أبوه مبارك مولى من الموالي، دخل بلاد الإسلام واعتنق هذا الدين وشرف به، وكان يعمل حارسًا على بستان، يحرس الرمان والتفاح والليمون أن يعتدي عليه سراق أو لصوص بأجرة بسيطة، فكان يبدأ من الصباح في عمله، وكان يتخلل عمله بركعات يركعها في البستان، ولا يفتر لسانه من ذكر الله عز وجل، فإذا استلم راتبه من سيده تصدق بثلث الراتب، وأنفق عليه وعلى أهله ثلثه وخزن ثلثه لما سوف يعرض له.

دخل سيده ومعه ضيف يزور البستان، قال: «يا مبارك، ائتنا برمان»، فأتى برمان حامض ووضعه بين يديه، قال: «هذا حامض، ائتنا بغيره»، فأتى برمان حامض، قال: «أنت لا تفهم ولا تعي؟! هذا حامض»، قال: «والله، لا أعرف الحامض من الحلو»، قال: «أما ذقته وأنت في البستان من كذا وكذا سنة؟»، قال مبارك: «أنت لم تأذن لي أن أذوق ما في البستان».

من هنا نعرف لأي أبٍ ينتمي عبد الله، إنه ينتمي لأب صالح، ولصلاح الأب جائزة عظمى يجدها عند لقاء ربه، ويبقى أثرها في ولده، وهو ما نجده في القصص القرآني الحكيم من قصة الغلامين اليتيمين، قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82].

فكان صلاح الأب سببًا في استخراج الكنز، وكذلك كان الحال مع عبد الله بن المبارك، فسنة الله لا تتخلف، كان الأب صالحًا فاستخرج عبد الله كنزًا تمثل في مال صار على يديه وابلًا ثجاجًا، وحصّل علما وأدبًا وفقهًا ما زالت تتوارثه الأجيال!

فانظر بعين الاعتبار وتفكر جليًا وتأمل مليًا كيف كان ثمرة صلاح الأب أن أنتج عالمًا جليلًا مثل ابن المبارك، الذي ملأ الدنيا علمًا وورعًا وزهدًا، رحمه الله تعالى، فقد قَلَّدَه أقرانه من العلماء في أفعاله فعجزوا، وقلده الأغنياء في كرمه وجوده وسخائه فلم يفلحوا!! فهو السخي الجواد، وقبل ذلك العالم العامل، العابد الشجاع المجاهد، قالوا عنه: الزاهد العابد، الفقيه المجاهد، ثم قالوا عنه: شيخ الإسلام(18).

قال يحيى بن إسماعيل بن سلمة بن كُهيل: «كان لي أخت أسنَّ مني فاختلطَتْ وذهب عقلها وتوحشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحنا، فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، فبينما أنا نائم ذات ليلة إذا باب يدق نصف الليل، فقلت: (من هذا؟)، قالت: (كجه)، فقلت: (أختي؟!)، قالت: (أختك)، ففتحتُ الباب فدخلَتْ ولا عهد لها بالبيت أكثر من عشر سنين.

فقالت: (أتيت الليلة في منامي فقيل لي: إن الله قد حفظ أباك إسماعيل لسلمة جدك، وحفظك لأبيك إسماعيل؛ فإن شئت دعوت الله فذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة؛ فإن أبا بكر وعمر قد شفعا فيك إلى الله عز وجل بحب أبيك وجدك إياهما، فقلت: فإذا كان لا بد من اختيار أحدهما فالصبر على ما أنا فيه والجنة، وإن الله عز وجل لواسع بخلقه، لا يتعاظمه شيء، إن شاء أن يجمعهما لي فعل.

فقيل لي: فإن الله قد جمعهما لك، ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قومي فانزلي، فأذهب الله تعالى ما كان بها)»(19).

وسعيد النوّرسي، الذي كان أُعجوبةً في الحفظ، ويُذكَر أنه حفِظ جَمْع الجوامع جميعه في جمعة، تعجّب مُعلموه من فِطنته وقُدرته على التصرف في المواقف، فقال أحد الأساتذة بأنه لا بد من وجود سر في تربيته، وانتدب نفسه للذهاب إلى قرية سعيد، ويزور أهله في بيته، فجلس في مجلس والديه وسأل أمه عن السبب؛ فذكرتْ له بأنه منذ أن حملت بسعيد دائمًا ما كانت على وضوء،  فعرف أنها امرأة صالحة عابدة، ترجو لابنها الصلاح، وانتظر والده حتى عاد، فلما دخل والد سعيد ومعه أبقار مُكمّمة الأفواه، تعجب الأستاذ من ذلك وسأله عن السبب، فقال: «هذه الأبقار في عودتها إلى الحقل تأكل من أطراف الطريق، وأريد أن يَنبُت ابني نباتًا حسنًا».

ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى، كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى الأسد، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه(20).

‏ فيجب على كل أبٍ ومربٍ أن يتيقن تمام اليقين أن كل ما يعمله من عمل صالح أو غيره سيبقى أثره أول ما يبقى في أولاده وذريته، وإذا ما أصابنا القلق والخوف على أولادنا من بعدنا فما علينا إلا أن نخلص العمل، ونحسن التقوى والمراقبة، وألا نفعل ولا نقول إلا ما يرضي الله تعالى.

وليَحذر الآباء أشد الحذر من التقصير في تعليم فلذات أكبادهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم؛ لأن مآل ذلك خطير وضرره كبير، يقول الإمام ابن القيم: «فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدًى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا»(21).

___________________

(1) أخرجه البخاري (6733).

(2) أخرجه النسائي (5813)، وأحمد (21118).

(3) أخرجه الطبراني في الأحاديث الطوال (41).

(4) أخرجه الحاكم في المستدرك (3395).

(5) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 287).

(6) تفسير الرازي (21/ 492).

(7) في ظلال القرآن (4/ 2282).

(8) أخرجه الترمذي (1376).

(9) أخرجه ابن ماجه (3660).

(10) سلسلة التفسير، لمصطفى العدوي (40/ 15) بتصرف.

(11) صفة الصفوة (1/ 178).

(12) تفسير ابن كثير (3/ 384).

(13) المصدر السابق (4/ 451).

(14) تفسير القرطبي (17/ 67).

(15) حلية الأولياء (9/ 147).

(16) أخرجه البخاري (1491).

(17) وكان أبوهما صالحًا ابتغاء نجابة الولد، موقع: صيد الفوائد.

(18) فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب (1/ 903، بترقيم الشاملة آليًا).

(19) مجموع رسائل ابن رجب (3/ 101).

(20) جامع العلوم والحكم (1/ 468).

(21) تحفة المودود بأحكام المولود، ص229.