logo

رفقًا بالقوارير


بتاريخ : الثلاثاء ، 25 محرّم ، 1441 الموافق 24 سبتمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
رفقًا بالقوارير

المتأمل في كتاب الله يجد أن آيات كثيرة اشتملت على معنى الترفق بالناس والقول اللين، الذي يجذب القلوب، فقال الله تعالى في كتابه العزيز: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَو كُنْتَ فظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَولِكَ} [آل عمران:159]، كما قال تعالى: {وقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيطانَ يَنزَغُ بينَهُم إنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53].

كما دعانا الرسول الكريم إلى نبذ العنف، واتباع منهج اللين والرفق مع كل من حولنا، فعنه صلوات ربي وسلامه عليه قال: «من لا يرحم لا يرحم»(1)، وقال: «لا تنزع الرحمة إلا مِن شَقِيٍّ»(2).

وقد أوضح علماء اللغة معنى الرفق بأنه التلطف في الأمور، والبعد عن العنف والشدة والغلظة.

والقوارير: جمع قارورة، وهي إناء من زجاج، وتطلق القارورة على المرأة؛ لأن الولد يقر في رحمها، أو تشبيهًا لها بآنية الزجاج من حيث ضعفها، فعن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له، فحدا الحادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارفق يا أنجشة، ويحك بالقوارير»(3).

وهي صيغة تأكيد تتدفق بالرقة والحنان، وتفيض بالعذوبة والجمال، وصية وإرشاد نبوي.

وجب على المؤمنين أن يتقوا الله في النساء، وأن يساعدوهن على طاعة الله، بالرفق والحلم والصبر، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأنجشة لما كان يسرع بالإبل التي تركبها النساء: «رفقًا بالقوارير»، وهن فوق الإبل، فكيف بمن تركبن بحرًا متلاطم الأمواج؟

إنها كلمة لو أردنا تصوير المرأة، بما تحمل من رقة الأنوثة وجمال الإنسانية وعذوبة الروح وتألق النفس، بكلمة واحدة لما وجدنا خيرًا من هذه الكلمة النبوية المعجزة, فإنك مهما قلبت فيها وجوه الرأي وجدت لها جمالًا خاصًا، وعذوبة ماتعة، وسرًا بديعًا لا يزال ينفسح على معنى إلى معنى، فمادة الرفق في اللغة تضمر المعاني التالية: اللطف, اللين, السهولة, الاستعانة, التمهل والأناة.

وفي معجم مقاييس اللغة: الراء والفاء والقاف أصلٌ واحدٌ يدلُّ على موافقةٍ ومقاربةٍ بلا عُنْف, فتأمل هذا المعنى اللغوي، ثم ضعه في جهاته النفسية كلها، فلا تلبث أن تحس بروعة الإعجاز النبوي فقط في هذه المفردة: الرفق.

ولو ذهبنا لنختصر معاني هذه المفردة العجيبة ودلالاتها النفسية لقلنا: يجب عليك، أيها الزوج، أن تعامل زوجتك بما يوافق معاني الأنوثة فيها، ويقارب روعة الجمال الإنساني فيها, وليس يتحقق لك هذا، ولا تستشعره الزوجة منك، إلا إن مزجت هذه المعاني المتدفقة بالجمال الساحر والعذوبة اللذيذة في الكلمة, في النظرة, في اللمسة, في الحركة, في الموقف, حتى في العتاب الجميل, وما استعمال النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة بهذه الصيغة: «رفقًا», وهي صيغة تأكيد إلا دلالة على ما قلت لك، فكأن التقدير فيها: أيها الزوج، احرص على الرفق بزوجتك؛ بل بالغ في الرفق بها والليونة معها، والموافقة لها، والمقاربة بها إلى ما تعشقه بحس أنوثتها وصفاء إنسانيتها.

أما كلمة (قوارير) فتلك الكلمة الفارعة والتشبيه البديع، الموحي بجمال وعمق نظرة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الجنس اللطيف (المرأة)، وما عليك لتفهم هذا المعنى إلا أن تطلق العِنان لخيالك لينطلق، وهو يتملى أسرار هذا التشبيه المدهش، إلى فضاءات راقية جدًا لا تزال تتدفق بالرقة والحنان، وتفيض بالعذوبة والجمال, فمعلوم أن القارورة تتخذ من الزجاج، ومن ثَم فهي سهلة الكسر, وبالتالي يكون القاسم المشترك بين القارورة والمرأة هو سهولة كسرها, وما كسر المرأة إلا الكلمة الجارحة, الموقف المؤلم؛ بل ما كسر المرأة في حكم الحقيقة إلا إهمال تفتيق معاني الأنوثة فيها، وإلا عدم تحسيسها بقيمتها الجميلة في حس زوجها، وإلا عدم تنبيهها إلى روعة إنسانيتها الجميلة.

وهناك قاسم آخر، وهو أن الزجاج معلوم أن أدنى شيء ممكن أن يشوه صفاءه ورقته, فكذلك الزوجة؛ بحكم رقة الأنوثة فيها وطبيعة تركيبتها الإنسانية التي تتسم بالضعف في كل شيء، فإن أدنى شيء يمكن أن يشوه جمالها ويكسر إنسانيتها؛ بل انظر لقاسم آخر وهو أن القارورة لا تظهر إلا بما ملئت به من مادة؛ إنْ جمالًا ولذاذة وإنْ قبحًا ومرارة, فكذلك الزوجة؛ مهما ملأها الزوج بشيء من المعاني فاضت به وأظهرته في شتى صور علاقتها مع زوجها.

فانظر وقارن بين هذه الصورة التي رسمها الإعجاز النبوي بكلمتين, وبين تصورات الناس وطبيعة علاقاتهم بزوجاتهم.

عن أنس رضي الله عنه قال: خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها؛ أي: لصفية، وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب عليها(4).

ففيه بلاغة عظيمة في الاحترام، وإن الغرب اليوم يتفاخرون في احترام المرأة، فيفتح لها الرجل باب السيارة، بينما حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وضع ركبته لزوجته، وهو أعظم من تصرفهم وأبلغ.

فحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم يعلم البشرية أسس الاحترام وآدابه، وليس هذا خاصًا بالإنسان؛ بل حتى مع الحيوان، فالاحترام منهج وسلوك يعمل به الشرفاء.

وفي رواية هشام عن قتادة: «رويدك سوقك، ولا تكسر القوارير»(5)، قال أبو قلابة: «يعني ضعفة النساء»، قيل في تفسيره: شبههن بالقوارير لسرعة انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء؛ كالقوارير يسرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبر، وقد استعملت الشعراء ذلك، قال بشار:

ارفق بعمرو إذا حركت نسبته       فإنه عربي من قوارير(6).

عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق»(7)، وإن الرفق لو كان خَلقًا لما رأى الناس خَلقًا أحسن منه، وإن العنف لو كان خَلقًا لما رأى الناس خَلقًا أقبح منه.

عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه سمعها تقول: كنت على بعير صعب فجعلت أضربه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالرفق، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»(8).

هكذا النبي صلى الله عليه وسلم علمنا، سبحان الله! إذا كان الإنسان هادئًا يشيع فيمن حوله الهدوء، وإذا كان صاخبًا عنيفًا يربي من حوله على العنف، الأب العنيف أولاده عنيفون جدًا، تعلَّموا منه العنف، في تعاملهم مع بعضهم عنيفون جدًا، هو يضربهم وهم يضربون بعضهم بعضًا.

وجوب مراعاة نفسية المرأة والتودد إليها:

ربنا عز وجل خلق الرجل على خلقة، وخلق المرأة أيضًا على خلقة، فالمرأة ضعيفة، كثيرة الظنون، فإياك أن تتصور أن المرأة سوف تمشي معك كما تحب على طريقة واحدة.

فكل يوم المرأة لها طريقة، فإذًا ينبغي أن تعلم أن الله عز وجل خلق المرأة على هذا؛ فتعذرها، ولا تعامل المرأة كمعاملة الرجل، لماذا؟ لأن خُلقها دون خُلق الرجل، وخَلقها دون خَلق الرجل، ومزاجها دون مزاج الرجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت هذه سيرته؛ رفق ورحمة وسماحة، ومن ذلك حديث مسابقة النبي صلى الله عليه وسلم عائشة في غزوة من الغزوات(9).

أصناف الرجال:

هناك أصناف كثيرة للرجال، ولكن لنسرد بعضًا من تلك الأصناف:

الصنف الأول: شديد لا يتحاور، عنده التعالي والنظرة الدونية للمرأة، وهذا النوع يرى نفسه الأفضل في كل شيء، فهو لا يتحاور، ولا يأخذ برأي الطرف الآخر، ويرى أن كلامه وأوامره يجب أن تنفذ بدون نقاش، فهو يذعن الطرف الآخر إجباريًا على الاستسلام؛ فيكبت هذه المرأة، وتصبح بدون شخصية، فقط هي تنفذ.

الصنف الآخر: وهو ما يطلق عليه لفظ (ذكور) وليس لفظ (الرجال)، فهناك فرق، نحن لا نريد فقط وجود الذكور بالبيت، بمعنى أن هذا يكون بالبيت كعدمه، فقط اسمه رجل؛ حيث تكون المرأة هي التي تأخذ دور الرجل؛ وذلك لأن هذا الصنف السلبي من الرجال أعطاها أو جعلها هي المسيطرة، وتأخذ زمام الأمور بيدها دون الرجوع إليه.

وهذا ليس يعني أن المرأة هنا مسترجلة، ولست أدافع عنها؛ بل بالعكس، قد تكون الظروف هي التي جعلت منها تقوم بهذا الدور لسلبية الرجل في البيت، وهذا الصنف من الرجال قد تعود منذ الصغر الاتكال على والدته في جميع الأمور، وحتى لا أظلمه قد تكون المرأة هي من النوع المسيطر، لكن عليك كرجل أن تتعاون معها .

الصنف الأخير: وهذا الصنف وهو صاحب الدين والخلق، الذي إذا أحب زوجته أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها؛ لأنه تسلح بدرع الدين والاستقامة، فمع هذا قد تهنأ النفس بقربه، وتسعد الزوجة به، فيعينها على نفسها، وتعينه على نفسه، وتنشأ به ومعه خير أسرة صالحة، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»(10).

صور الرفق بالمرأة:

- أن تعتذر إليها إذا صدر منك الخطأ، كما تحب أنت أن تعتذر إليك إذا أخطأت في حقك، وهذا لا يغض من شخصك أبدًا؛ بل يزيدك مكانة ومحبة عندها.

- ومنها: أن تكرمها بما يرضيها، ومن ذلك أن تكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم بحقٍ أمامها، ومبادلتهم الزيارات، ودعوتهم في المناسبات.

- ومنها أن تمازحها وتلاطفها، وتدع لها فرصًا لما يحلو لها من مرح ومزاح، وأن يكون وجهك طلقًا بشوشًا، وأن تمدحها وتبين لها إعجابك بها، فإن النساء يعجبهن المدح.

- ومنها التغاضي وعدم تعقب الأمور صغيرها وكبيرها، وعدم التوبيخ والتعنيف في كل شيء، يصف أنس رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «ما قال لي أفًّا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟»(11).

 -ومنها أن تتزين لها كما تحب أن تتزين لك، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228].

ومن صور الرِّفق بالزوجة: مُداراتُها، قال صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع، وإنك إن ترد إقامة الضلع تكسرها، فدارها تعش بها»(12).

المُداراة: هو بغير همز، بمعنى المجاملة والمُلاينة، والمُداراة باعتبارها لونًا من ألوان الرِّفق مطلوبة، وهي في حق الأهل مطلوبة بالأولى.

ومن صور الرِّفق بالزوجة: خِدْمتُها، وتخفيف الأعباء عنها، عن الأسود قال: سألت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة(13).

ومن صور الرِّفق بالزوجة: الإغضاء عن هفواتها، ومسامحتها: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «شِدَّة الوطأة على النساء مذموم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بسيرة الأنصار في نسائهم، وترك سيرة قومه»(14).

من صور الرفق بالزوجة: التلطُّف معها: ففي حادثة الإفك تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرًا، والناس يُفِيضون من قول أصحاب الإفك، ويَريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنت أرى منه حين أمرض»(15).

وفي لفظ آخر: «وهو يَريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللُّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي»(16).

قال ابن حجر: «اللطف: بضم أوله وسكون ثانيه، وبفتحهما، لغتان، والمراد: الرِّفق، ووقع في رواية ابن إسحاق: أنكرت بعض لطفه»(17).

ومن صور الرِّفق بالزوجة: التَّرفيهُ عنها، وتحقيق رغبتها، وإعطاؤها ما تحب من الأمور المباحة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تُغَنِّيان بغناء بُعَاث، فاضطجع على الفراش وحَوَّل وجهَه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟! فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال: «دعهما»، فلما غفل غمزتهما فخرجتا.

وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وإما قال: «تشتهينَ تنظرين؟»، فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خَدِّي على خدِّه، وهو يقول: «دونكم يا بني أرفدة»، حتى إذا مللت قال: «حسبك؟»، قلتُ: نعم، قال: «فاذهبي»(18).

قال ابن حجر: «فيه الرفق بالمرأة، واستجلاب مودتها»(19).

ومن صور الرفق بالزوجة: مجاراتُها، والسماع لها، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله؟ قال: «عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب».

قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك»(20).

فرضي الله تبارك وتعالى عن عمر الفاروق، فيه شدة وقوة زائدتان جعلت الشيطان يهرب من طريقه ويتحاشاه.

قال ابن حجر: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدًا بما يكره، إلا في حق من حقوق الله، وكان عمر يبالغ في الزجر عن المكروهات مطلقًا وطلب المندوبات، فلهذا قال النسوة له ذلك»(21).

ومن صور الرفق بالزوجة: التدرج في تأديبها حال نشوزها، الأصل في العلاقة بين الزوجين أن تكون قائمة على المودة والرحمة، لكن إذا بدَر من المرأة ما يوجب تأديبها، فالتدرج في التأديب هو ما أرشد إليه القرآن الكريم، قال سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34].

وهذا الترتيب؛ موعظة فهجر فضرب، يفيد أنه لا يُلْجأ إلى الأشد إذا كان ينفع الأخف، ليكون الضرب هو أقسى الجزاءات على الإطلاق، فهو آخر علاج، علمًا أنه عليه الصلاة والسلام ما ضرب امرأةً من نسائه قط.

ومن صور الرفق بها: عدم مواجهتها بالطلاق، أكد الإسلام على الرفق بالمرأة حتى في أصعب المواقف عليها وأكثرها جفاءً، وهو الطلاق، فقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].

ومن الإحسان في الطلاق عدم مواجهتها به؛ لما في ذلك من جرحٍ لمشاعرها.

وقد عقد البخاري في كتاب الطلاق بابًا سماه: مَن طَلَّق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟، وأورد تحته أحاديث تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه من طلقها بذلك.

وعلَّق ابن حجر على هذا بقوله: «وأما المواجهة فأشار إلى أنها خلاف الأولى؛ لأن ترك المواجهة أرفق وألطف، إلا إن احتيج إلى ذكر ذلك»(22).

وأختم الحديث بتنبيه السنة النبوية على رقة النساء ولطافتهن عمومًا، والحث على الرفق بهن في عامة الأحوال.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له فحَدَا الحادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارفق يا أنجشة، ويحك، بالقوارير»(23).

قال أبو محمد الرّامَهُرْمُزِي: «يقول صلى الله عليه وسلم: «اجعل سيرك على مهل؛ فإنك تسير بالقوارير، فكنى عن ذكر النساء بالقوارير، شبههن بها لرقتهن وضعفهن عن الحركة، وسميت النساء قوارير: لأنهن أشبهنها بالرقة واللطافة وضعف البنية»(24).

وقال ابن بطّال: «القوارير هنا كناية عن النساء الذين على الإبل، أمره بالرفق في الحِداء والإنشاد؛ لأن الحداء يحث الإبل حتى تسرع السير، فإذا مشت الإبل رويدًا أُمِن على النساء من السقوط»(25).

***

_____________

(1) رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318).

(2) رواه الترمذي (1923).

(3) أخرجه البخاري (6209).

(4) أخرجه البخاري (2235).

(5) أخرجه النسائي (10283).

(6) فتح الباري (10/ 561).

(7) أخرجه أحمد (24427).

(8) أخرجه مسلم (2594).

(9) التعامل مع النساء، أبو إسحاق الحويني.

(10) أخرجه الترمذي (1084).

(11) أخرجه مسلم (4269).

(12) أخرجه أحمد (20093).

(13) أخرجه البخاري (676).

(14) فتح الباري (9/ 291).

(15) أخرجه البخاري (2661).

(16) أخرجه البخاري (4141)، ومسلم (2770).

(17) فتح الباري (8/ 320).

(18) رواه البخاري (949-950)، ومسلم (892).

(19) فتح الباري (2/ 514).

(20) أخرجه البخاري (3294)، ومسلم (2396).

(21) فتح الباري (7/ 58).

(22) فتح الباري (9/ 269).

(23) أخرجه البخاري (6209)، ومسلم (2323).

(24) أمثال الحديث، ص127-128.

(25) شرح صحيح البخاري (9/ 324).