تنظيم الأسرة بين الممنوع والمشروع
النسل من مقاصد الشريعة الإسلامية، والمحافظة عليه من ضرورياتها، والاكثار منه مطلوب بذاته، وبإيجاد النسل يكتمل البناء الأسري، كما يبينه الخالق تبارك وتعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189].
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم»(1).
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: «إني لأتزوج المرأة ومالي فيها حاجة، وأطؤها وما أشتهيها»، قيل له: «وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين؟»، قال: «حتى يُخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة»(2).
فتحديد النسل يتنافى مع المقصد الشرعي؛ وهو تكثير أفراد الأمة، وتكثير الأعضاء العاملين في المجتمع، وتعطيل للطاقة التي خلقها الله سبحانه وتعالى لعمارة هذا الكون، فالنسل مطلوب، وبه تحصل مصالح للأفراد وللجماعات وللأمة.
كثرة النسل وخوف الفقر:
وكثرة النسل يأتي معها الخير؛ لأن الله لا يخلق نفسًا إلا ويخلق رزقها، وييسر ما تقوم به مصالحها، فالذين يشكون أو يهددون بالأزمات الاقتصادية، وأن كثرة السكان يترتب عليها الشح في الأقوات والأرزاق؛ هذا كله من وحي الشيطان وأتباع الشيطان الذين لا يؤمنون بالله وبتقدير الله.
ولما كان المشركون يقتلون أولادهم خشية الفقر نهاهم الله عن ذلك، فقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31]، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]، فدل هذا على أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى وحده.
وهذه الآيات تدل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يستثقل كثرة أولاده خوفًا من الجوع والفقر؛ لأن خالق السماوات والأرض يرزق الجميع، {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فهذه الآيات تدل على أن القائلين بتحديد النسل أنهم شاركوا الكفار في العلة، وإن لم يشاركوهم في الحكم، والعلة تكون واحدة وتكون لها أحكام متعددة، كما تقرر في الأصول(3).
فالسرقة علة واحدة، وقد تتعدد أحكامها؛ لأن من أحكامها ما هو قطع اليد، ومن أحكامها ما هو غرم المال، عند من يقول بغرم المال، فعلة الجميع واحدة، وهي خوف الفقر وضيق المعاش، هذه هي علة الكفار التي قتلوا من أجلها أولادهم، وعلة التابعين لأذناب الإفرنج في تقليلهم عَددهم وعُددهم(4).
والآن قضية المطالبة بتحديد النسل قائمة على قدم وساق، والدافع لهذا هو خشيتهم الفقر، وهذا لأنهم لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولا يؤمنون أن الأرزاق من الله سبحانه وتعالى.
وانخدع بهذه الدعاية بعض المسلمين، فصاروا يكرهون كثرة الأولاد، وبعضهم يحاول تنظيم النسل، وبعضهم يحاول تحديد النسل، وهناك كلام باطل.
وطلب الذرية، وكثرة الذرية، وكثرة الإنجاب أمر مطلوب في الإسلام، لأن هذا فيه تقوية للمسلمين، وتكثير لعدد المسلمين، وأما الرزق فهو على الله سبحانه وتعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}(5).
قدر الله تعالى واقع لا محالة:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن عندي جارية لي وأنا أعزل عنها؟»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك لن يمنع شيئًا أراده الله»، فجاء الرجل [أي بعد مدة] فقال: «يا رسول الله، إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا عبد الله ورسوله»(6).
إن هذا الحديث وأمثاله يعالج مسألة عقديةً مفادها أن قدر الله تعالى واقع لا محالة، وأن ما كتبه الله عز وجل لن يمنعه فعل إنسان، فقد يجامع الرجل زوجته ولا يعزل عنها ولا تحمل، وقد يعزل عنها وتحمل، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الزوج مع العزل قد تفلت منه قطرة تكون سببًا للحمل وهو لا يدري(7).
والذي خلق آدم من دون أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر دون أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، قادر على خلق النفس التي قدر لها أن تكون مع وجود العزل.
وأما عن حكم العزل فقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال صلى الله عليه وسلم: «ذلك الوأد الخفي»(8).
وفي هذا دلالة كافية على أن تحديد النسل، بأي وسيلة من الوسائل، لا يجوز في ظل الإسلام أن يكون هدفًا عامًا في الدولة تهدف إليه، وتخطط له، وتحمل عليه الناس بتدابير عامة، فلا يزال، ولن يزال، العدد البشري في كل أمة من أهم مقاييس شأنها في الأنظار الدولية، وقابليات قدرتها وقوتها.
إن مسألة تنظيم النسل كلمة مجملة قد تحتمل أنواعًا من التفسير, والذي نفهمه من تنظيم النسل العناية لأسباب الحمل في وقتها على وجه لا يضر المرأة، ولا يسبب لها متاعب كثيرة؛ وذلك بأن تتعاطى بعض الأدوية التي تمنع الحمل في وقت ما لمصلحة الحمل, أو لمصلحة المرأة, أو لمصلحتهما جميعًا, فهذا يسمى تنظيم النسل بتعاطي الأدوية والأسباب التي تعين على تنظيم النسل, وذلك بأن تكون مريضة لا تتحمل الحمل في كل سنة, أو يكون هناك أسباب أخرى، تقتضي عدم حملها في كل سنة، يقررها الأطباء.
أو تكون عادتها أن تحمل هذا على هذا، كلما خرجت من النفاس حملت بإذن الله, فيشق عليها تربية الأطفال والعناية بشئونهم، فتتعاطى بعض الأدوية حتى تؤجل الحمل, كأن تحمل بعد سنتين مثلًا من أجل مراعاة الأطفال وتربيتهم والعناية بشئونهم, وهذا لا حرج فيه حتى تستطيع القيام بالتربية المطلوبة.
أما ما قد يفسر به تنظيم النسل بأنها تتعاطى أدوية تمنع الحمل بعد ولدين, أو بعد ثلاثة, أو بعد أربعة هذا ليس بتنظيم, ولكنه قطع للنسل وحرمان للزوجين من النسل وهذا لا يجوز؛ لأن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالحث على تعاطي أسباب الولادة, وكثرة النسل للأمة كما في الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» (9)، وفي لفظ: «الأنبياء يوم القيامة»(10).
فهذا يدلنا على أن كثرة النسل أمر مطلوب لما فيه من تكثير عباد الله الصالحين, وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وتكثير من يعبد الله ويدعوه, ويستغيث به, ويبادر إلى طاعته...(11).
حث الكنيسة للنصارى على تكثير النسل:
إن الكنيسة تحرم تحريمًا تامًا تحديد النسل أو تنظيمه، وتعد كل من يفعل ذلك خارجًا عن تعليمات الكنيسة، ومطرودًا من رحمة الرب، وقاتلًا لشعب الكنيسة، ومضيعًا لمجده، وذلك باستثناء الحالات التي يقرر فيها الطب والكنيسة خطر الحمل أو الولادة على حياة المرأة، وقد طرح شنودة الثالث، في اجتماعه مع القساوسة والأثرياء بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية، وكان ذلك عام 1973م، عدة قرارات لتحقيق الخطة القاضية بزيادة عددهم، فجاء في هذه القرارات:
1- تحريم تحديد النسل أو تنظيمه بين شعب الكنيسة.
2- تشجيع تحديد النسل وتنظيمه بين المسلمين (خاصة وأن أكثر من 65 % من الأطباء والقائمين على الخدمات الصحية هم من شعب الكنيسة).
3- تشجيع الإكثار من شعبنا، ووضع حوافز ومساعدات مادية ومعنوية للأسر الفقيرة من شعبنا.
4- التنبيه على العاملين بالخدمات الصحية، على المستويين الحكومي وغير الحكومي؛ كي يضاعفوا الخدمات الصحية لشعبنا، وبذل العناية والجهد الوافرين، وذلك من شأنه تقليل الوفيات بين شعبنا (على أن نفعل عكس ذلك مع المسلمين).
5- تشجيع الزواج المبكر وتخفيض تكاليفه، وذلك بتخفيف رسوم فتح الكنائس ورسوم الإكليل بكنائس الأحياء الشعبية(12).
منع الحمل على نوعين:
أحدهما: أن يكون الغرض منه تحديد النسل؛ بمعنى أن الإنسان لا يتجاوز أولاده من ذكور أو إناث هذا القدر؛ فهذا لا يجوز؛ لأن الأمر بيد الله عز وجل، ولا يدري هذا المحدد لنسله فلعل من عنده من الأولاد يموتون فيبقى ولا أولاد له.
والنوع الثاني: منع الحمل لتنظيم النسل؛ بمعنى أن تكون المرأة كثيرة الإنجاب وتتضرر في بدنها أو في شئون بيتها، وتحب أن تقلل من هذا الحمل لمدة معينة؛ مثل أن تنظم حملها في كل سنتين مرة، فهذا لا بأس به بإذن الزوج؛ لأن هذا يشبه العزل الذي كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه، ولم ينه عنه الله ولا رسوله.
كثرة النسل من نعم الله عز وجل:
إن كثرة الأمة وكثرة النسل من نعم الله عز وجل, ولهذا فإن شعيبًا عليه الصلاة والسلام ذكَّر قومه بهذه النعمة فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف:86]، وكذلك منَّ الله بها على بني إسرائيل حيث قال: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:6].
فكثرة الأمة لا شك أنه سبب لعزتها، وقيامها بنفسها، واكتفائها بما لديها عن غيرها، وربما لكثرتها تكون سببًا لفتح مصادر كثيرة من الرزق كما أشرنا إليه أولًا بأنه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، ونحن نعلم أن بعض الدول غزت دولًا أكبر منها وأشد منها قوة بسبب كثرة أفرادها؛ لأنهم صاروا يفتحون معامل ومصانع، وينتجون إنتاجًا بالغًا، لهذا يجب على الأمة الإسلامية أن تعرف أن محاولة تحديد النسل أو تنظيمه إنما هو من كيد أعدائنا بنا، وهو مخالف لما يرمي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولما يود من تكثير هذه الأمة، وتحقيق المباهاة بهذه الكثرة يوم القيامة.
المجمع الفقهي الإسلامي ومسألة تحديد النسل:
لقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النسل، وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي:
نظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة منَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده.
ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة؛ حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية، وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها.
لذلك كله فإن المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعًا.
أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق؛ لكون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين، فإنه لا مانع من ذلك شرعًا، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه؛ إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين.
أما الدعوة إلى تحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة فلا تجوز شرعًا؛ للأسباب المتقدم ذكرها، وأشد من ذلك في الإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها، في الوقت الذي تنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العالمي للسيطرة والتدمير، بدلًا من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب، والله أعلم(13).
شروط وضوابط العزل وتنظيم أو تحديد النسل:
1- رضا الزوجين: يشترط لجواز العزل رضا الطرفين، فلا يجوز للزوجة استخدام مانع حمل بدون إخبار الزوج، ولا يجوز للزوج العزل عن زوجته إلا برضاها، على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو ما ذهب إليه الحنفية والمالكية، وهو الأولى عند الحنابلة، وفي وجه عند الشافعية؛ لأن لها حقًا في الولد، وحقًا في الاستمتاع، وكل ذلك لا يكون إلا بالإنزال(14).
2- يمنع استخدام أي طريقة من طرق العزل إذا ثبت أنها تسبب العقم: قال ابن حجر الهيتمي: «ويحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله كما صرح به كثيرون»(15)، ولا يجوز استئصال الرحم أو المبايض، وكذا لا يجوز للرجل استئصال البروستات؛ لأنه وإن جاز للزوجين تحديد النسل وتنظيمه إلا أنه لا يجوز لهما أن يتلفا عضوًا أعطاهما الله إياه؛ لأن الإنسان مؤتمن على هذه الأعضاء لا مالكًا لها.
3- يمنع استخدام أي طريقة من طرق العزل إذا ثبت أنها تضر بأحد الطرفين أو كليهما؛ ومن الإضرار المعتبر أن أحد الطرفين لا تكتمل لذته بالعزل؛ لأن إحصان النفس وإعفافها هو المقصد الأسمى من مقاصد الزواج، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضِرار»(16).
4- مراعاة حق المجتمع وانتفاء التأثير الحكومي أو الإعلامي، فمن حرَّم تنظيم النسل من العلماء إنما يقررون حق المجتمع المسلم في زيادة عدده، وعدم الاستجابة للدعوات الهادفة إلى إقلال عدد المسلمين، مع ازدياد الأمم الأخرى؛ ليسهل القضاء عليهم بعد ضعف شوكتهم وقلة عددهم(17).
النتائج السيئة لحركة تحديد النسل:
1- إمكانية ضعف الأسرة أو انقراضها:
هل يضمن الذي لا يريد أن يزيد أولاده عن طفلين مثلًا أن يتوفى هذان الطفلان، أو أن يصاب بعاهة، أو أن يصابا بعاهة، أو أن يكونا غير صالحين في مجتمعنا، ولا ينفع عندئذ عض أصابع الندم.
2- كثرة وقائع الطلاق:
إن زهد الزوجين بالإنجاب واكتفاءهما بالملذات، يعرض الرابطة الزوجية للتفكك بالطلاق حتى في الخصومات الصغيرة، وذلك لسهولة الانفصال وفقدان أو ضعف أقوى رابطة تربط بين الزوجين وهي رابطة الأطفال.
يقول (تالكون بارسن)، بعد أن قدم في هذا الشأن الأرقام الواضحة: «إن وقائع الطلاق إنما تحصل أكثر ما تحصل في السنوات الأولى بعد الزواج أو بين الأزواج الذين لا تكون لهم ذرية»(18).
3- ضعف الأمة اقتصاديًا:
حيث تنخفض نسبة المواليد؛ فتقل نسبة الشبان إلى المسنين، والشباب هم عنصر الإنتاج، وعليهم يبنى الأمل، أما المُسِنون العجائز فأغلبهم مستهلكون، ولا يرجى منهم الإنتاج، خصوصًا بعد تقدم السن.
ولذا فإن قلة المواليد تقود حتمًا إلى التدهور الاقتصادي، وخاصة إذا كانت خيرات البلاد بحاجة إلى المزيد من العاملين ودعم اقتصاد الأمة.
إن تحديد النسل إذا عم مجتمعًا ما فإنه يقوض بنيان الجماعة التي يتفشى بين أفرادها، ويجعلها دون منافسيها في كل شيء.
4- ضعف الأمة عسكريًا:
وذلك لتدني عدد السكان بانخفاض نسبة المواليد إلى الوفيات، ولانخفاض نسبة الشباب إلى المسنين.
والمسنون غالبًا أقل حماسة وصلابة وقوة وعزيمة وصمودًا في وجه الأخطار والشدائد، وتجاه المخاطر التي تحف الوطن.
أما الشباب فهم غالبًا أكثر جرأة وحماسة واندفاعًا في بذل النفوس والمهج في سبيل مبدأ من المبادئ النبيلة.
ويقول الرئيس روزفلت: «إن أمة لا يريد رجالها الحرب ولا تريد نساؤها الحمل هي أمة قد أصيبت في صميم قلبها».
نحن أمة شاء المستعمر أن يغتصبوا من أوسط بقاعها بقعة بقعة، اصطنعوا فيها دولة هي رأس حربة لهم، من سياستها التوسع، فيكفينا الجهاد في سبيل الله تعالى طريقًا لتحديد نسلنا، فلا نغفل عن هذا فننقص مواليدنا وننقص شبابنا الذين هم حماة ديننا ووطننا.
5- ضمور الأمة وزوال كيانها:
إن تحديد النسل إذا عم مجتمعًا ما، أو شعبًا أو أمة، فإنه سيؤدي بها إلى الضمور والانتكاس أو الفناء بانخفاض نسبة المواليد إلى الوفيات، ويعجل لها ذلك تعرضها لحرب أو إصابتها بقحط أو جائحة وباء كما تقدم(19).
يقول المؤرخ سوروكن: «إن من قانون الفطرة أن الأمة إذا لبت نداء الشهوات النفسية وانقطعت إلى التشرد والجنس، فإنها تغفل عن إنجاب الذرية، وتحسب أن الأطفال يشكلون عقبة في سبيل حريتها ولذاتها ورخائها الاقتصادي، وهذا السلوك؛ أي تحديد النسل، المعادي للفطرة، يرغب العاكفين على عبودية الشهوات الجنسية إلى استخدام الوسائل المتنوعة لمنع الحمل وإسقاط الجنين، ويكون نتيجة ذلك انحطاط الأمة وتناقضها، وهكذا هو الانتحار»(20).
ومن أراد أن يعرف الأضرار والأخطار الناجمة عن تحديد النسل فليراجع كتاب «حركة تحديد النسل»، للأستاذ أبي الأعلى المودودي، ومما أورده في هذا الكتاب النفيس رأيان لغربيين؛ أحدهما عالم اقتصاد، والآخر مؤرخ.
يقول أولهما: «إننا إذا كنا نرتكب حماقة المحافظة على قلة السكان فلنعلم، أحسن العلم، أن ليست قلة السكان حلًا لمشكلة البطالة في بلادنا، كما أنه من المحال أن يرتفع بها مستوى معيشة بقية السكان.
إن مؤثراتها الاقتصادية لا بد أن تكون سيئة للغاية؛ إذ لا بد، بسببها، أن ترتفع عندنا نسبة العجائز، وبذلك يضطر المنتجون أن يظلوا يشغلون المتقاعدين.
وأما إذا وجدت بين المنتجين أنفسهم طبقة كبيرة مشتملة على العجائز، فإنه من المحال عندئذ أن تبقى في نظامنا للإنتاج تلك المرونة، التي لا بد منها لتحقيق مقتضيات الظروف المتبدلة، والوسائل المتجددة، فعلينا، لكل ذلك، أن نستعين بكل طريق ممكن للقيام في وجه خطر قلة السكان».
ويقول ثانيهما: «إن طريقًا آخر يوضع به الحد لحياة أمة مسرفة سافلة، هو أن يعمل على إهباط نسبتها للمواليد؛ إذ من قانون الفطرة أن أية أمة إذا لبت نداء الشهوات النفسية، وانقطعت إلى التشرد والجنس غفلت عن إنجاب الذرية، وتخليد النسل، وحسبت الأطفال عرقلةً في سبيل حريتها ولذاتها، ورخائها الاقتصادي.
وهذا السلوك المعادي لقانون الفطرة يرغب العاكفين على عبودية الشهوات الجنسية في استخدام الوسائل المتنوعة لمنع الحمل، وإسقاط الجنين، ويكون من نتيجة ذلك أن عدد أفراد تلك الأمة يصبح ثابتًا، لا يتقدم ولا يتأخر في بدء الأمر، ثم يأخذ في الانحطاط والتردي، حتى يبلغ بها حيث لا تقدر على قضاء حاجاتها الأساسية اللازمة، فلا هي تقدر أن تحتفظ بشخصيتها المستقلة، ولا أن تدفع عن نفسها أعداءها من جانب الفطرة، أو من جانب البشر.
وهذا هو الانتحار، وغذاؤه ذلك العقم الذي هو نتيجة فطرية للتشرد وارتكاب المنكرات الجنسية.
ثم إن من نتيجة هذا وذاك يختصر الزمن المقدر لحياة تلك الأمة، وهذا الطريق للانتحار قد أودى بحياة كثير من البيوتات الملكية، والطبقات الغنية الراقية، والجماعات الإنسانية من الوجهة الحياتية والعمرانية، وبه قد ذهبت كثير من الأمم والشعوب القوية ضحية الفناء والزوال في التاريخ الإنساني»(21).
مُسَوِّغات العزل أو تنظيم أو تحديد النسل:
1- الخشية على حياة الأم أو صحتها من الحمل أو الولادة، كما لو كان الحمل يمرضها أو يزيد في مرضها، إذا عرف ذلك بتجربة أو إخبار طبيب ثقة.
2- الخشية من وقوع حرج دنيوي قد يفضي به إلى حرج في دينه، فيقبل الحرام، ويرتكب المحظور من أجل الأولاد.
3- الخشية على الأولاد من أن تسوء صحبتهم أو تضطرب تربيتهم، ويستدل بذلك من قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني أعزل عن امرأتي»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تفعل ذلك؟»، فقال الرجل: «أشفق على ولدها، أو على أولادها»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان ذلك ضارًا ضر فارس والروم»، وقال زهير في روايته: «إن كان لذلك فلا، ما ضار ذلك فارس ولا الروم»(22).
وكأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن هذه الحالات الفردية لا تضر الأمة في مجموعها، بدليل أنها لم تضر الأمة في مجموعها، بدليل أنها لم تضر فارس والروم، وهما أقوى دول الأرض حينذاك.
4- الخشية على الرضيع من حمل جديد ووليد جديد، إن كان الحمل الجديد يؤثر على الرضيع، وإن كنت أرى أن هذا ممتنع في زماننا لوجود الحليب المجفف للرضع، إلا إن كان الزوج معسرًا ولا يستطيع تحمل نفقات هذا الحليب(23).
5- إذا كانت الزوجة في دار الحرب وتخشى على الولد الكفر، ومثل ذلك ما لو كانوا في بلد غير إسلامي، والمسلمون فيه قلة، ولا يستطيعون نشر إسلامهم وثقافتهم؛ بل يغلب على ظن الوالدين أن الولد أو البنت سيفسدان في ذلك المجتمع، وقد يتخليا عن دينهما.
6- إذا فسد الزمان وخشي فساد ذريته، وعلم أنه لن يستطيع القيام بتربيتهم؛ فإنه يجب عليه العزل، قياسًا على تحريم الزواج على من علم أنه لن يقوم بحقوق الزوجة ولن يعاملها بالمعروف(24).
وقد قال العلامة مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى: «تحديد النسل بأي وسيلة من الوسائل لا يجوز في ظل الإسلام أن يكون هدفًا عامًا في الدولة، تهدف إليه وتخطط له، وتحمل عليه الناس بتدابير عامة، ولا يوجد مانع شرعي في الإسلام من اتخاذ تدابير شخصية من كل فرد بحسب ظروفه الخاصة وقدرته المالية، بتحديد نسله بطرق منع الحمل، دون طرق الإجهاض التي فيها عدوان على جنين متكون؛ إلا في حالات الضرورات التي تصل إلى درجة المحظورات، كضرورة إنقاذ حياة الأم إذا توقف الإنقاذ على إسقاط حملها.
هذا ما تدل عليه نصوص الشريعة وعموماتها وكلام الفقهاء، وهو الموقف الذي استقر عليه رأي علماء الشريعة المعاصرين في عدة مناسبات وحلقات اجتماعية»(25).
ويقول أبو الأعلى المودودي: «ومما لا مجال فيه لأدنى شك أن تحديد النسل ظلم صريح للمرأة، فهو ينشب الحرب بينها وبين فطرتها نتيجة لذلك، يختل فيها نظامها الجسدي، وينهار عليها جهازها العصبي».
إن تحديد النسل في حد ذاته خروج سافر على نظام الإنسان الفطري، وفوق هذا فإن الطرق التي تستخدم لمنع الحمل تترك على الرجل والمرأة، ولا سيما المرأة، مؤثرات تنغص عليهما حياتهما، وتهدم عليهما شخصيتهما(26).
***
___________________
(1) أخرجه أبو داود (2050).
(2) تفسير القرطبي (9/ 328).
(3) نثر الورود (2/ 473).
(4) العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/ 473).
(5) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 34).
(6) أخرجه مسلم (1439).
(7) الحلال والحرام في الإسلام، ص257.
(8) أخرجه مسلم (1442).
(9) أخرجه أبو داود (2050).
(10) أخرجه ابن حبان (4028).
(11) حكم تحديد النسل، موقع الشيخ ابن باز.
(12) قذائف الحق، ص72.
(13) حول تنظيم النسل وتحديده، مجلة مجمع الفقه الإسلامي (العدد:164).
(14) الموسوعة الفقهية الكويتية (3/ 156).
(15) تحفة المحتاج بشرح المنهاج (8/ 241).
(16) أخرجه ابن ماجه (2340).
(17) تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه، ص155.
(18) كتاب استقرار النظام العائلي في أمريكا.
(19) موقف العلم والإسلام من تحديد نسل الأمة، منتديات أتباع المرسلين.
(20) الثورة الجنسية في أمريكا، ص78-79.
(21) حركة تحديد النسل، ص46-47.
(22) أخرجه مسلم (1443).
(23) الحلال والحرام في الإسلام، ص259.
(24) الموسوعة الفقهية الكويتية (30/ 82).
(25) فتاوى مصطفى الزرقا، ص287-288.
(26) حركة تحديد النسل، ص80.