وظائف الأسرة في الإسلام
منذ نشأت الأسرة في بداياتها الأولى مع خلق آدم عليه السلام وحتى يومنا هذا وهي تقوم بمهمة لا ينكرها أحد، سواء في مجال التربية، أو مجال التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية، أو مجال الحد من الانحراف والجريمة، وخصوصًا انحراف الأحداث وجرائمهم، وقامت بأثر كبير في مجال رعاية الناشئة، وحمايتهم من التطرف والانحراف.
وقد تعرضت الأسرة، وخصوصًا في النصف الثاني من القرن الماضي، إلى موجة من الهجمات الشرسة التي تريد القضاء عليها، غير أن الثابت أن الأسرة ستظل قائمة حتى وإن كانت في شكلها الصغير جدًا.
إن وظيفة الأسرة مرتبطة بمبدأ تكوينها، ومدى اتساعها وشمولها لأفرادها، وهي بهذا تتطور وتتغير، فمثلًا عندما كانت الأسرة تطلق على العشيرة الكبيرة كانت وظيفتها كبيرة واسعة، تشبه وظيفة شيخ القبيلة، أو حاكم الشعب في نشاطها الاقتصادي والاجتماعي والقضائي وغيره، فهي أسرة تشبه الدولة المستقلة القائمة بجميع شئونها، وكذلك الأسرة الرومانية القديمة كانت تقريبًا على هذا المنوال، فقد منحت النظم الرومانية مثلًا عمداء الأسر سلطة قضائية واسعة، حتى استطاع أن يحكم العميد بالإعدام على أحد أفرادها، كما كان لهم وضع النظم الدينية والثقافية، كل في محيطه.
ولما طغى سلطان المجتمع على سلطان الأسرة سلبها بعض وظائفها، وكذلك لما قامت الأديان العالمية اختفت معها بعض النظم الدينية والقضائية والتشريعية والتنفيذية وما إليها.
ومع كل هذا السلطان، الذى شارك الأسرة في وظائفها، وانتزع كثيرًا من خصائصها، فما يزال لها دور كبير في التربية الخاصة والعامة، وأثر واضح في نظام المجتمع العام(1).
وليس من شك أن الأسرة لها الأثر الذاتي والتكوين النفسي في تقويم السلوك الفردي، وبعث الحياة، والطمأنينة في نفس الطفل، فمنها يتعلم اللغة، ويكتسب بعض القيم، والاتجاهات، وقد ساهمت الأسرة بطريق مباشر في بناء الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات التعاونية بين الناس، ولها يرجع الفضل في تعلّم الإنسان لأصول الاجتماع، وقواعد الآداب والأخلاق، كما أنها السبب في حفظ كثير من الحِرف والصناعات التي توارثها الأبناء عن آبائهم.
قال علماء الإسلام: إن الزواج، وهو أصل تكوين الأسرة، له مهام رئيسية ثلاثة، هي، بحسب الترتيب:
(أ) الولد، وهو ما يراد به في كلام المحدثين من التناسل.
(ب) التعاون، وهو واضح من تعاون الزوجين بعضهما مع بعض لرخاء عيشهما ورعاية النسل الناتج منهما.
(ج) قضاء الشهوة الجنسية، ذلك أن هذه الشهوة لا بد أن يكون لها منفذ طبيعي، وإلا أضرت البدن؛ كفضلات الطعام وما يتخلف عن العمليات الكيماوية العضوية في الجسم، والرجل والمرأة في ذلك سواء، وهذا المعنى وإن كان يوجد بوسيلة أخرى غير الزواج، إلا أن له أخطاء لا تخفى على أي إنسان، فقضاؤها في ظل أسرة شرعية يمنع هذه الأخطاء(2).
ومن ذلك نستطيع أن نحدد فوائد الزواج، وهي كما يلي:
أولًا: التناسل والتكاثر: إن المقصد الأسمى، في الشرع وعند أهل الفكر والنظر، من الزواج هو التناسل وحفظ النوع الإنساني، ويزكي هذا قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وعن معقل بن يسار قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها)، قال: (لا)، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)»(3).
يقول أبو حامد الغزالي: «الولد هو الأصل، وله وُضِع النكاح، والمقصود إبقاء النسل، وألا يخلو العالم من جنس الإنسان، وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة وتلطفًا في السياق إلى الولد، وكانت القدرة الإلهية غير قاصرة على اختراع الأشخاص ابتداءً من غير حراثة ولا زواج، ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب مع الاستغناء عنها؛ إظهارًا للقدرة وإتمامًا لعجائب الصنعة».
ثم يقول: «إن الله سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان جعل الغرض من خلقه أن يكون خليفته في الأرض، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّك لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
ومن حكمة الإسلام أن جعل الإنسان مطبوعًا على حب البقاء والاستمرار في الحياة، وليس هناك من سبيل إلى ذلك البقاء إلا عن طريق الزواج المنظم للفطرة، المحقق لما طبع عليه من محبة استمرار وجوده، الذي يراه في نسله من بنين وأحفاد، قال تعالى: {واللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكم مِّن أَزْوَاجِكم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمَ مِّن الطَّيِّبَاتِ} [النحل:72].
وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة أوجه، هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة، حتى لم يحب أحدُهم أن يلقى الله عزبًا.
الأول: موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان.
والثاني: طلب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التكثير من مباهاته.
والثالث: طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده.
والرابع: طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله(4).
والذي يهمنا في هذا المقام تنبيه المسلمين إلى أن هذه الدعوة إلى تحديد أو تنظيم النسل منشؤها من اليهود، وتشجيعها في الشرق من دول الغرب، وكثير من الدول الغربية تبذل المال الطائل لتفشي هذا الأمر في دول الشرق الأوسط، وخاصة الإسلامية والعربية.
الفائدة الثانية: التحصن من الشيطان، وكسر التوقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر، وحفظ الفرج...، وهذا المعنى دون الأول؛ لأن الشهوة موكلة بتقاضي تحصيل الولد، فالنكاح كاف لشغله، دافع لجعله، وصارف لشر سطوته...، والولد هو المقصود بالفطرة والحكمة، والشهوة باعثة عليه، ولعمري في الشهوة حكمة أخرى سوى الإرهاق إلى الإيلاد؛ وهو ما في قضائها من اللذة، التي لا توازيها لذة، لو دامت فهي منبهة على اللذات الموعودة في الجنان؛ إذ الترغيب في لذة لم يجد لها ذواقًا لا ينفع.
ولما كانت الشهوة أغلب على مزاج العرب كان استكثار الصالحين منهم للنكاح أشد.
الفائدة الثالثة: ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر والملاعبة، وفي ذلك إراحة للقلب وتقوية له على العبادة، فإن النفس ملول، وهي عن الحق نفور؛ لأنه على خلاف طبعها، فلو كلفت المداومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت وثابت، وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت، وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القلب، وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات؛ ولذلك قال الله تعالى {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.
الفائدة الرابعة: تفريغ القلب عن تدبير المنزل، والتكفل بشغل الطبخ والكنس والفرش، وتنظيف الأواني، وتهيئة أسباب المعيشة، فإن الإنسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتعذر عليه العيش في منزله وحده؛ إذ لو تكفل بجميع أشغال المنزل لضاع أكثر أوقاته، ولم يتفرغ للعلم والعمل، فالمرأة الصالحة للمنزل عون على الدين بهذه الطريق، واختلال هذه الأسباب شواغل ومشوشات للقلب ومنغصات للعيش.
الفائدة الخامسة: مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية، والقيام بحقوق الأهل، والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهن، والسعي في إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن، والقيام بتربيته لأولاده، فكل هذه أعمال عظيمة الفضل؛ فإنها رعاية وولاية والأهل والولد رعية، وفضل الرعاية عظيم، إنما يحترز منها من يحترز خيفة من القصور عن القيام بحقها(5).
وظائف الأسرة:
لقد أجمل سيد قطب هذه الوظيفة في أمرين اثنين لا ثالث لهما، فقال: «ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولًا: في توفير السكن، والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها، وثانيًا: في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي»(6).
ثم بيَّن رحمه الله ما أودعه الله في قطبي الأسرة (الزوج والزوجة) لأداء هذه الوظيفة، والمُسَلَّم به ابتداءً أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله، وأن الله سبحانه لا يريد أن يظلم أحدًا من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة! وقد خلق الله الناس ذكرًا وأنثى، زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون.
وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل، وهي وظائف ضخمة أولًا، وخطيرة ثانيًا، وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدَّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى! فكان عدلًا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني (الرجل) توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة، ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل، ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد! وكان عدلًا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه، وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك.
ومن ثم زودت المرأة، فيما زودت به من الخصائص، بالرقة والعطف، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة، بغير وعي ولا سابق تفكير؛ لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها، حتى في الفرد الواحد، لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه؛ بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية! لتسهل تلبيتها فورًا وفيما يشبه أن يكون قسرًا، ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج، ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك؛ لتكون الاستجابة سريعة من جهة، ومريحة من جهة أخرى، مهما يكن فيها من المشقة والتضحية! صنع الله الذي أتقن كل شيء.
وهذه الخصائص ليست سطحية؛ بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة(7).
ومن ذلك يمكننا القول بأن وظيفة الأسرة تتمثل فيما يلي:
1- الوظيفة الأخلاقية للأسرة:
يعتبر الدافع الجنسي من الحاجات الإنسانية التي تكمل المحافظة على بقاء النوع، وهو
فطرة إنسانية وطبيعة بشرية لدى الذكر والأنثى.
وطريق إشباع هذه الغريزة هو الزواج المشروع، وكل ما عداه نوع من أنواع الزنا لا يحل.
وقد عبر الله سبحانه عن الزواج بلفظ الإحصان، فالحصن هو القلعة، والمتزوج يقال له:
محصن، والمتزوجة يقال لها: محصنة، وجمعها محصنات؛ أي: إنهما دخلا في حماية هذا الحصن المعد لحماية أخلاقهما وصون نفسيهما، قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِن الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصنَاتُ مِن الذَّين أُوتوُا الْكِتاَبَ مِن قَبْلِكُم إِذَا آتَيْتُمُوهُن أُجُورَهُن مُحْصِنِين غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَان} [المائدة:5].
وتظهر هذه الوظيفة من خلال ناحيتين:
الأولى: الإمتاع النفسي والجسدي:
حيث يهيئ الزواج لكل من النساء والرجال متعة من أعظم متع الدنيا، وهذه المتعة تنقسم
إلى قسمين: سكن وراحة نفسية، وإمتاع ولذة جسدية.
يقول تعالى: {وَمِن آيَاتِه أَنْ خَلَق لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُم أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَل بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إن فِي ذَلِك لَآيَات لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، والسكن يشمل سكن الجسم وسكن النفس، فالمودة والرحمة من أجمل المشاعر التي خلقها الله تعالى، فإذا وجدت مع الشعور بالحل، والهداية إلى الفطرة، ومرضاة الله سبحانه، كملت هذه النعمة ولم ينقصها شيء.
الثانية: لقاء الزوجين عبادة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا يا رسول الله:
«أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟»، قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر, فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر»(8).
2- الوظيفة التربوية والاجتماعية للأسرة:
المجتمع بناء كبير يتكون من لبنات، والوحدة الأولى من وحدات المجتمع هي الفرد، رجلًا
كان أو امرأة، ولا يستطيع أي منهما العيش مستقلًا عن الآخر؛ بل كل منهما محتاج إلى الآخر حاجة شق النواة إلى الشق الثاني؛ بل حاجة الشيء إلى نفسه(9).
والحياة الزوجية عقد يشابه عقد الشركة من حيث المشاركة في بناء الحياة وتحمل أعبائها،
فطابع الأسرة هو الاستقرار والسكن، والله تعالى يقول: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً} [الروم:21].
واللام في لتسكنوا هنا للتعليل؛ أي إن مقصد الزواج السكن والاستقرار، والحياة تغدو
مستحيلة بدون هذا الاستقرار.
فالرجل يكد ويكدح، ويسافر ويحارب، ويهادن ويسالم، ولا يمكن أن يفعل شيئًا من هذا على الوجه الصحيح دون أن يكون معه ومن خلفه زوجة صالحة، تساعده وتشاركه أفراحه وأتراحه، وتخفف عنه همومه، وتعتني ببيتها وأولادها(10).
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»(11).
ويبين عليه الصلاة والسلام صفات المرأة الصالحة؛ حيث يقول: «ما استفاد المؤمن بعد
تقوى الله خيرًا له من زوجةٍ صالحةٍ؛ إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليه أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله»(12).
ويقول عليه أفضل الصلاة والتسليم: «كلكم راع وكلكم مسئول، فالإمام راع وهو مسئول، والرجل راع على أهله وهو مسئول، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول»(13).
فالإنسان لا يبلغ كماله الإنساني إلا في ظل الزواج الشرعي، الذي تتوزع فيه الحقوق
والواجبات توزيعًا ربانيًا قائمًا على العدل والإحسان والرحمة، لا توزيعًا عشوائيًا قائمًا على
الأثرة وحب الذات، وافتعال المعارك بين الرجال والنساء، وأخذ الحقوق والتنصل من الواجبات(14).
والدور الاجتماعي للأسرة يكون في إرشاد المجتمع بنشر دعوة الخير، وفيه محاربة
الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بالفكرة الإسلامية(15).
والأسرة بهذا الاعتبار هي مصدر العادات والتقاليد؛ فالأدب والنظام والتعاون والأمانة، والتكسب والادخار والإيثار، أول ما يصنع ذلك يصنع في الأسرة، ويتلقاه الوليد مع لبن أمه وفى غنائها له وخدمته، ويخرج إلى المجتمع مزودًا بكل التأثرات والانطباعات التي تلقاها في مجتمعه الأول تحت إشراف الوالدين.
والأسرة وسيلة لخلق صفات جديدة في الطفل، أو الإسراع في خلقها عن طريق القدوة والتقليد؛ كالنطق مثلًا، وهو القوة الكامنة تبرزها الأسرة أو تسرع في إبرازها، بخلاف ما لو عالق في غابة أو غير مجتمع إنساني يشبه مجتمع الأسرة المحدود.
الأسرة هي المدرسة الأولى، أو المصنع الأول لتخريج جيل أو نسل صالح لمتابعة التطور البشري، ولا يجاريها أي تنظيم في هذه الأولية(16).
الأسرة مؤسسة تعاونية، أقيمت، في أحد أشكالها وفى أحد عصورها، على أساس التعاون بين الرجل والمرأة في كسب العيش وتوفير الخدمة والاستقرار، وفي العصور البدائية كانت كل أسرة مستقلة بمطالبها، ليست في حاجة قوية إلى أسر أخرى تساعدها، فالرجل يصطاد الغذاء ويجلب الماء، والمرأة تساعد على طهوه وتقديمه له، يكفيها هو هم تحصيل القوت، وتكفيه هي إعداده وحراسة متاعه وتهيئة سبل الراحة له؛ بل إن المرأة في بعض المجتمعات كانت هي التي تتولى الأعمال التي تحصل منها قوت الأسرة، والرجل يقتصر عمله على الحراسة والحماية، ويكيف ذلك وضعهم البدائي.
والأسرة هي العامل الأول الذى يُشعِر الإنسان بالانتماء؛ أي أنه منتسب إلى المجتمع وليس مضيعًا مهملًا، لا حق له ولا واجب عليه، وهذا الشعور هو أساس المعنى الاجتماعي الذي لا يستغنى الإنسان عنه، فإن إدراك الطفل أنه محتاج لأمه في تغذيته وحمايته يشعره بوجوب الانتماء، أو خلق الشعور الاجتماعي، ولا يترك الشعور الفردي الأناني يستبد به، وهذا ما يشير إليه كُتَّاب الاجتماع بقولهم: الإنسان مدني بطبعه، كما يلاحظ في شعور الانتماء إلى المجتمع، الذي يقوى في محيط الأسرة، أن الالتزام بقوانين الأسرة أقوى وأشد من الالتزام بقوانين الدولة العامة؛ نظرًا لعوامل كثيرة، منها أن قوانين الأسرة تنفذ مع عامل الاحترام لها، وأنها أول ما عرف من قوانين تلتزم، وأن الرقابة فيها أقوى وفرص التفلت منها أقل، وأن الآثار الاجتماعية والأدبية المترتبة على مخالفتها أصعب على النفس من مخالفة القوانين العامة(17).
***
_____________
(1) موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام (1/ 44).
(2) المصدر السابق (1/ 48).
(3) أخرجه أبو داود (2050).
(4) إحياء علوم الدين (2/ 24).
(5) المصدر السابق (2/ 31)، وما قبلها باختصار شديد.
(6) في ظلال القرآن (2/ 649).
(7) المصدر السابق (2/ 650).
(8) أخرجه مسلم (1006).
(9) الزواج في ظل الإسلام، ص26.
(10) أضواء على نظام الأسرة في الإسلام (19/ 20).
(11) أخرجه مسلم (1467).
(12) أخرجه ابن ماجه (1857).
(13) أخرجه البخاري (4892).
(14) الزواج في ظل الإسلام، ص24.
(15) قواعد تكوين البيت المسلم، ص132.
(16) الأسرة في الإسلام، أحمد فواقة.
(17) موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام (1/ 45-46).