logo

صانعة الرجال ومعدة الأبطال


بتاريخ : الاثنين ، 22 ذو الحجة ، 1444 الموافق 10 يوليو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
صانعة الرجال ومعدة الأبطال

إن كان الرجال يصنعون في المصانع ويعملون في المعامل، فإن المرأة هي صانعة الرجال، ومربية الأجيال.

يقول القائد محمد الفاتح: لقد كانت أمي تأخذني مرارًا إلى الشاطئ، وتشير بإصبعها إلى أسوار القسطنطينية وتقول لي: أنت فاتح تلك المدينة، ولمثل هذا اليوم أربيك، ثم يضيف: فكنت وأنا صغير أركب الفرس وأقتحم به الموج ناحية القسطنطينية، متخيلًا يومًا أقود فيه الجيوش لفتحها، إلى أن كان.

من الذي زرع هذا الهدف الكبير بقلب السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى؟

إنها كلمات الأم الإيجابية التي حركت مشاعره وألهبت حماسه، وعرفته بنفسه بطلًا منذ أن وعى؛ فصار كذلك.

وها هي الخنساء رحمها الله لما ضرب على المسلمين، البعث والجهاد لافتتاح الأقطار وامتلاك الأمصار، وكانت القادسية المشهورة كيف أقبلت بأولادها تحضهم وتحثهم على القتال، والاستشهاد في سبيل الإسلام، وإعلاء منارة وبأداتهم بقولها النصوح: يا بني أنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين.

والله الذي إلا إله إلا هو، أنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة؛ وما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله تعالى سالمين؛ فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت من ساقها، واضطرمت نارًا على سباقها، وحلت لظى على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالمغنم والكرامة في دار الخلود والمقامة.

نعم القول والتحريض والتعديل، وإن من البيان لسحرًا، ولا بدع أن بادر أبناؤها إلى المعمعة، ويمموا وطيسها، وجالدوا حتى سقطوا في حومتها، ونعم لقول أجابتها عند إبلاغها الخبر: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم مستقر رحمته (1).

إن مسئولية التربية في مرحلة الطفولة المبكرة تقع على الأم؛ فهي المسؤولة عن نظافته النظافة التي تريح أعصابه وتوفر له الاستقرار النفسي، وأنها قدوة متحركة في أرجاء البيت، فهي بسلوكها وحسن خلقها تجعل أطفالها ينشئون على خصال الخير؛ كالصدق والأمانة، فعليها تقع مسئولية عظيمة في ذلك، إذ أن علاقتها تزداد قوة وتنمو يومًا بعد يوم مع طفلها الذي يعتبرها الشخص الوحيد في حياته الذي يتعامل معه، لا سيما في سنواته الأولى.

إن بناءها الجسمي والنفسي مهيأ لتحمل أعباء التربية والحضانة والاعتناء بالطفل، فلا يستطيع الرجل أن يسد مكان الأم ودورها في التربية، لأن دورها لا يقتصر فقط على العناية بمأكله، ومشربه، وملبسه؛ بل إن دورها الأكبر والأعظم هو ذلك الحب المتدفق من قلبها على الولد، وذلك الحنان الذي يشعر الولد فيه بالأمن والسعادة فينمو بدنه وعقله ونفسه نموا متكاملًا (2).

الأم هي أعظمُ هبة في هذه الحياة، وهي الحب إذا ذُكر الحب، وهي الجمال عندما يُذكر الجمال، وهي العطاء إذا ذُكر العطاء؛ فإذا أردت أعظم طريق وأقصر طريق إلى الجنة فهو طريق الأم الغالية والبرّ بها، كيف لا؛ وقد جاء عن محمد بن طلحة بن معاوية السلمي، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: «أمك حية؟» فقلت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الزم رجلها فثم الجنة» (3).

وعن ابن عباس، أنه أتاه رجل فقال: إني خطبت امرأة، فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري، فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا، قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت، فذهبت فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة (4).

إن من أعظم ما حرصت عليه الشريعة الغراء تجاه الأبناء أن يقوم الوالدان على تربيتهم وتعاهدهم بما يصلح لهم أمور دنياهم وآخرتهم، وجاءت النصوص الشرعية ببيان هذه المسؤولية وأنها مشتركة بين الأب والأم معًا، وليست مقتصرة على أحدهما دون الآخر «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»، إلا أنه قد خُصَّت الأم بالجانب الأكبر لأنها أكثر ملازمة للأولاد من الأب الذي في الغالب يكون خارج البيت لطلب الرزق؛ وذلك فيما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها» (5).

وليست وظيفة الأم محصورة في مأكل ومشرب وتنظيف وتزيين لأرجاء البيت فقط؛ بل وظيفتها الأساسية أن تكون مربية الأجيال، وصانعة الرجال، والمدرسة الأساسية في تنمية أخلاق الأطفال:

الأم روض إن تعهده الحيا      بالري أورق أيما إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الألى      شغلت مآثرهم مدى الآفاق

الأم مدرسةٌ إذا أعددتها      أعددت شعبًا طيّب الأعراقِ

إنه لحلمٌ يراود كل أم مسلمة تملّك الإيمان شغاف قلبها، وتربع حب الله تعالى وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على حنايا نفسها، أن ترى ابنها وقد سلك سبل الرشاد، بعيدًا عن متاهات الانحراف، يراقب الله في حركاته وسكناته، أن تجد فلذة كبدها بطلًا يعيد أمجاد أمته، عالمًا متبحرًا في أمور الدين، ومبتكرًا كل مباح يسهّل شأن الدنيا.

إنها أمنية كل أم مسلمة، أن يكون ابنها علمًا من أعلام الإسلام، يتمثل أمر الله تعالى في أمور حياته كلها، يتطلع إلى ما عنده عز وجل من الأجر الجزيل، يعيش بالإسلام وللإسلام.

وسيبقى ذلك مجرد حلم للأم التي تظن أن الأمومة تتمثل في الإنجاب، فتجعل دورها لا يتعدى دور آلة التفريخ؛ أو سيبقى رغبات وأماني لأم تجعل همها إشباع معدة ابنها؛ فكأنها قد رضيت أن تجعل مهمتها أشبه بمهمة من يقوم بتسمين العجول؛ وتلك الأم التي تحيط أبناءها بالحب والحنان والتدليل وتلبية كل ما يريدون من مطالب سواء الصالح منها أو الطالح، فهي أول من يكتوي بنار الأهواء التي قد تلتهم ما في جعبتها من مال، وما في قلبها من قيم، وما في ضميرها من أواصر؛ فإذا بابنها يبعثر ثروتها، ويهزأ بالمثل العليا والأخلاق النبيلة، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل.

والأم المدلّلة أول من يتلقى طعنات الانحراف؛ وأقسى الطعنات تتمثل في عقوق ابنها.

ولنا أن نتساءل عن أهم ما يمكن للأم أن تقدمه لأبنائها.

أولًا: الإخلاص لله وحده: إن عليها قبل كل شيء الإخلاص لله وحده؛ فقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: 5]، فاحتسبي أختي المؤمنة كل جهد تكدحينه لتربية الأولاد، من سهر مضنٍ، أو معاناة في التوجيه المستمر، أو متابعة الدراسة، أو قيام بأعمال منزلية... احتسبي ذلك كله عند الله وحده؛ فهو وحده لا يضيع مثقال ذرة، فقد قال جل شأنه: {وَإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، فلا تجعلي للشيطان سلطانًا إن قال: أما آن لك أن ترتاحي؟! فالرفاهية والراحة الموقوتة ليست هدفاً لمن تجعل هدفها الجنة ونعيمها المقيم.

والمسلمة ذات رسالة تُؤجَر عليها إن أحسنت أداءها، وقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة بخصلتين بقوله: «خير نساء ركبن الإبل نساء قريش: أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» (6).

ثانيًا: العلم: والأم المسلمة بعد أن تحيط بالحلال والحرام تتعرف على أصول التربية، وتنمي معلوماتها باستمرار، قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فهذا ديننا دين يدعو إلى العلم، فلماذا نحمّل الإسلام قصور تفكيرنا وتخلفنا عن التعلم، ليقال: إن الإسلام لا يريد تعليم المرأة، وإن الإسلام يكرس جهل المرأة؟! لا إن تاريخنا الإسلامي يزخر بالعالمات من مفسرات ومحدثات وفقيهات وشاعرات وأديبات.

كل ذلك حسب هدي الإسلام؛ فلا اختلاط ولا تبجح باسم العلم والتحصيل، فالعلم حصانة عن التردي والانحراف وراء تيارات قد تبهر أضواؤها من لا تعرف السبيل الحق، فتنجرف إلى الهاوية باسم التجديد والتحضر الزائف، والتعليم اللازم للمرأة، تفقهًا وأساليب دعوية، مبثوث في الكتاب والسنة.

ومما تحتاج إليه المرأة في أمور حياتها ليس مجاله التعلم في المدارس فحسب، وإنما يمكن تحصيله بكل الطرق المشروعة في المساجد، وفي البيوت، وعن طريق الجيران، وفي الزيارات المختلفة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام لا يفقّهون جيرانهم ولا يعلّمونهم ولا يعظونهم ولا يفهمونهم؟! ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون؟ والله لَيُعلّمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وَلَيتَعلّمنّ أقوام من جيرانهم ويتعظون أو لأعاجلنهم بالعقوبة» (7).

فهيا ننهل من كل علم نافع حسب ما نستطيع، ولنجعل لنا في مكتبة البيت نصيبًا؛ ولنا بذلك الأجر إن شاء الله.

ثالثًا: الشعور بالمسؤولية: لا بد للمرأة من الشعور بالمسؤولية في تربية أولادها وعدم الغفلة والتساهل في توجيههم كسلًا أو تسويفًا أو لا مبالاة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، فلنجنب أنفسنا وأهلينا ما يستوجب النار.

فالمحاسبة عسيرة، والهول جسيم، وجهنم تقول: هل من مزيد؟! وما علينا إلا كما قال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر.

ولن ينجي المرأة أنها ربت ابنها لكونها طاهية طعامه وغاسلة ثيابه؛ إذ لا بد من إحسان التنشئة، ولا بد من تربية أبنائها على عقيدة سليمة وتوحيد صافٍ وعبادة مستقيمة وأخلاق سوية وعلم نافع.

ولتسأل الأم نفسها: كم من الوقت خصّصتْ لمتابعة أولادها؟ وكم حَبَتهم من جميل رعايتها، ورحابة صدرها، وحسن توجيهاتها؟! علمًا بأن النصائح لن تجدي إن لم تكن الأم قدوة حسنة! فيجب ألا يُدْعى الابن لمكرمة، والأم تعمل بخلافها.

وإلا فكيف تطلب منه لسانًا عفيفًا وهو لا يسمع إلا الشتائم والكلمات النابية تنهال عليه؟! وكيف تطلب منه احترام الوقت، وهي أي أمه تمضي معظم وقتها في ارتياد الأسواق والثرثرة في الهاتف أو خلال الزيارات؟! كيف.. وكيف؟

إن ابنك وديعة في يديك، فعليك رعايتها، وتقدير المسؤولية؛ فأنت صاحبة رسالة ستُسألين عنها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}

[التحريم: 6].

أما متى نبدأ بتوجيه الصغير؟! فذلك إذا أحس الطفل بالقبيح وتجنبه، وخاف أن يظهر منه أو فيه، فهذا يعني أن نفسه أصبحت مستعدة للتأديب صالحة للعناية؛ ولهذا يجب أن لا تُهمل أو تُترك؛ بل يكون التوجيه المناسب للحدث بلا مبالغة، وإلا فقدَ التوجيهُ قيمته.

وفي كل تصرف من تصرفات المربية، وكل كلمة من كلماتها عليها أن تراقب ربها وتحاسب نفسها؛ لئلا تفوتها الحكمة والموعظة الحسنة، وأن تراعي خصائص النمو في الفترة التي يمر فيها ابنها، فلا تعامله وهو شاب كما كان يعامل في الطفولة لئلا يتعرض للانحراف، وحتى لا تُوقِع أخطاءُ التربية أبناءنا في متاهات المبادئ في المستقبل يتخبطون بين اللهو والتفاهة، أو الشطط والغلو؛ وما ذاك إلا للبعد عن التربية الرشيدة التي تسير على هدي تعاليم الإسلام الحنيف؛ لذلك كان تأكيدنا على تنمية معلومات المرأة التربوية لتتمكن من معرفة: لماذا توجه ابنها؟ ومتى توجهه؟ وما الطريقة المثلى لذلك؟

رابعًا: لا بد من التفاهم بين الأبوين: فإن أخطأ أحدهما فليغضّ الآخر الطرف عن هذا الخطأ، وليتعاونا على الخير بعيدًا عن الخصام والشجار، خاصة أمام الأبناء؛ لئلا يؤدي ذلك إلى قلق الأبناء، ومن ثم عدم استجابتهم لنصح الأبوين.

خامسًا: إفشاء روح التدين داخل البيت: إن الطفل الذي ينشأ في أسرة متدينة سيتفاعل مع الجو الروحي الذي يشيع في أرجائها، والسلوك النظيف بين أفرادها، والنزعات الدينية والخلقية إن أُرسيت قواعدها في الطفولة فسوف تستمر في فترة المراهقة ثم مرحلة الرشد عند أكثر الشباب، وإذا قصّر البيت في التربية الإيمانية، فسوف يتوجه الأبناء نحو فلسفات ترضي عواطفهم وتشبع نزواتهم ليس إلا.

فالواجب زرع الوازع الديني في نفوس الأبناء، ومن ثَمّ مساعدتهم على حسن اختيار الأصدقاء؛ وذلك بتهيئة الأجواء المناسبة لاختيار الصحبة الصالحة من الجوار الصالح والمدرسة الصالحة، وإعطائهم مناعة تقيهم من مصاحبة الأشرار.

سادسًا: الدعاء للولد بالهداية وعدم الدعاء عليه بالسوء: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم»(8).

وينبغي ربط قلب الولد بالله عز وجل لتكون غايته مرضاة الله والفوز بثوابه {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94].

وهذا الربط يمكن أن تبثه الأمهات بالقدوة الطيبة، والكلمة المسؤولة، والمتابعة الحكيمة، والتوجيه الحسن، وتهيئة البيئة المعينة على الخير، حتى إذا كبر الشاب المؤمن تعهد نفسه: فيتوب عن خطئه إن أخطأ ويلتزم جادة الصواب، ويبتعد عن الدنايا، فتزكو نفسه ويرقى بها إلى مصافِّ نفوس المهتدين بعقيدة صلبة وعبادة خاشعة ونفسية مستقرة وعقل متفتح واعٍ وجسم قوي البنية، فيحيا بالإسلام وللإسلام، يستسهل الصعاب، ويستعذب المر، ويتفلت من جواذب الدنيا متطلعاً إلى ما أعده الله للمؤمنين المستقيمين على شريعته: {إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [ فصلت:30] (9).

ولقد حفظ لنا التاريخ الإسلامي أروع الأمثلة في قيام أمهات أميات لم يمتلكن أي شهادة علمية بل لم يتعلمن لكنهن أبدعن في التربية فأخرجنَ لهذه الأمة قادة عظماءَ، وعلماءَ أجِلاءَ، وعبَّادًا أتقياءَ.

من هذه النماذج:

1) أم الزبير صفية بنت عبد المطلب، فقد ربت الزبير بن العوام رضي الله عنه وأحسنت تربيته، وأدَّبته فأحسنت تأديبه، حتى إنها في بعض الأحيان كانت تضربه ضربًا شديدًا؛ فيقال لها: قتلته، أهلكته، فتقول:

إنما أضرِبه لكي يدب            ويجر الجيش ذا الجلب

وصدقت في حسها وحسن تربيتها فقد صار الزبير بعد ذلك قائدًا من القادة الكبار الذين يشار إليهم بالبنان، بل هو أول من سل سيفه في سبيل الله.

2) أم ربيعة الرأي: فقد جاء أن والده فروخ التيمي، خرج في البعوث إلى خراسان، أيام بني أمية غازيًا، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرس، في يده رمح، فنزل عن فرسه، ثم دفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، فقال: يا عدو الله! أتهجم على منزلي؟ وقال فروخ: يا عدو الله! أنت رجل دخلت على حرمتي، فتواثبا، وتلبث كل واحد منهما بصاحبه، حتى اجتمع الجيران.

فبلغ مالك بن أنس والمشيخة، فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول كذلك، وكثر الضجيج، فلما أبصروا بمالك، سكت الناس كلهم.

فقال مالك: أيها الشيخ! لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري، وأنا فروخ مولى بني فلان، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت، فقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفته وأنا حامل به، فاعتنقا جميعًا، وبكيا، فدخل فروخ المنزل، وقال: هذا ابني؟ قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي عندك، وهذه معي أربعة آلاف دينار، قالت: المال قد دفنته، وأنا أخرجه بعد أيام.

فخرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، وأتاه مالك بن أنس، والحسن بن زيد، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به.

فقالت امرأته: اخرج صل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.

فخرج، فصلى، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاه، فوقف عليه، ففرجوا له قليلًا، ونكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه طويلة، فشك فيه أبو عبد الرحمن، فقال: من هذا الرجل؟ قالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال: لقد رفع الله ابني، فرجع إلى منزله، فقال لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار، أو هذا الذي هو فيه من الجاه؟ قال: لا والله، إلا هذا، قالت: فإني قد أنفقت المال كله عليه، قال: فوالله ما ضيعته (10).

3) أم الإمام أحمد بن حنبل، صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك: مات زوجها محمد بن حنبل شابًا في الثلاثين، وهي كانت دون الثلاثين، حزنت على فراق زوجها، لكنها تصبرت واستعانت بالله، وامتنعت عن الزواج مع وجود الدواعي لذلك وكثرة الخطاب؛ إلا أنها فضلت الاشتغال بتربية ابنها الوحيد وتنشئته النشأة الحسنة.

ويبين الإمام أحمد كيف تفرغت أمه لرعايته وتنشئته علي حب العلم بعد وفاة والده محمد بن حنبل فيقول: حفظتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات، وكانت توقظني لصلاة الفجر وتُحمي لي ماء الوضوء في ليالي بغداد الباردة، وتُلبسني ملابسي، ثم تتخمر وتتغطى بحجابها، وتذهب معي إلى المسجد وتنتظر عند باب المسجد حتى أنتهي من الصلاة ثم أعود معها، فلما بلغت السادسة عشرة من عمري قالت لي: اذهب في طلب الحديث؛ فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلي الله الواحد الأحد، وودعته عند السفر قائلة : يا بني، إن الله إذا استودع شيئًا لا يضيعه، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.

وما هي إلا سنوات، ويصبح الابن الصغير علمًا من أعلام الأمة الإسلامية؛ بل إمام أهل السنة والجماعة، ولم ينس الإمام أحمد ما فعلته له أمه، فكان يجلس يحدث الناس بفضل أمه عليه وما قامت به لتربيته وإعداده ليكون عالمًا من علماء المسلمين.

4) أم محمد الفاتح هما خاتون: محمد الفاتح سابع سلاطين الدولة العثمانية، ابن السلطان مراد الثاني، قضى على الإمبراطورية البيزنطية، وفتح القسطنطينية ليكون البشارة التي بشر بها رسولنا الكريم بقوله: «لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»، قال عبيد الله: فدعاني مسلمة بن عبد الملك فسألني عن هذا الحديث، فحدثته فغزا القسطنطينية (11).

فما السر الذي أهله لينال هذا الشرف، إن السر يكمن في أمه، فقد وهبه الله لأمٍّ فاضلة ربته على مكارم الأخلاق وأعدته للمهمة الصعبة التي كانت تراود أحلام المسلمين من أمراء وقادة، بدأت البناء والتأسيس في طفولته المبكرة، تأخذه لصلاة الفجر، وتقول له في ثقة: "يا محمد، أنت القائد الذي ستفتح هذه أسوار القسطنطينية، وكان الطفل الصغير ينظر في عيني أمه ويردُّ مستغربًا: كيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة؟!

فترد عليه الأم: بالقرآن والقوة والسلاح وحب الناس، وتمسك يديه وترفعهما إلى السماء داعية: يا رب، يا عظيم، يا مجيب الدعوات، يا قادر على كل شيء، اجعل ابني هذا الأمير الذي يفتح القسطنطينية، اجعل البركة في هاتين اليدين، واجعل نصر المسلمين يأتي من خلالهما.

يقول القائد محمد الفاتح: لقد كانت أمي تأخذني مرارًا إلى الشاطئ، وتشير بإصبعها إلى أسوار القسطنطينية وتقول لي: أنت فاتح تلك المدينة، ولمثل هذا اليوم أربيك. ثم يضيف: فكنت وأنا صغير أركب الفرس وأقتحم به الموج ناحية القسطنطينية، متخيلًا يومًا أقود فيه الجيوش لفتحها .. إلى أن كان.

هذه نماذج قليلة من نماذج كثيرة مرّت منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، نماذج لأمهات أدركن بقوّة إيمانهن وحسن إسلامهن ما لم يدركه كثيرون من الباحثين التربويين والمربّين المتحضّرين، وهذا لأن الأم المسلمة امرأة ولادة تُعِدُّ قادة، وتربي سادة، إنها امرأة خُلِقت كي يخرج من رحمها من يقود هذا العالم إلى رحاب الإسلام، وضياء الإيمان، ونور القرآن، فهي بحق صانعة الرجال (12).

وتاريخنا الإسلامي مليء بالنماذج والأمثلة والشواهد على دور الأمهات في صناعة الأجيال، وصدق من قال: وراء كل رجل عظيم امرأة.

فهيا يا أمهات هذا الزمن أحرصن على حسن التربية والتعليم، وليكن همكن إخراج جيل حافظ للقرآن الكريم والسنة النبوية، جيل كجيل الصحابة والسلف الصالح.

ومع حسن التربية لنكثر من الدعاء لأبنائنا: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]، قال جمال الدين القاسمي: أي أولادًا وحفدة، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس، لحيازتهم الفضائل، واتصافهم بأحسن الشمائل (13).

وكذلك عليها أن تعلم أنها نصف الأمة وحصنها الحصين فهي صانعة الرجال ومربية الأجيال وحاملة الأمانة في أحضانها، فهي الأم والأخت والزوجة الصالحة التي إن فسد فسد معها نصف المجتمع وأغوت النصف الآخر، لذا تنبه أعداء الإسلام لدورها فحاولوا الولوج من خلالها ولكن هيهات هيهات، فالله متم دينه ومعز أولياءه ورافع منهج رسله.

_______________

(1) الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 112- 113).

(2) من الهدي النبوي في تربية البنات (ص: 388- 389).

(3) أخرجه الطبراني (8162).

(4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (4).

(5) أخرجه البخاري (893).

(6) أخرجه البخاري (5082).

(7) كنز العمال (8457).

(8) أخرجه مسلم (3009).

(9) دور المرأة المسلمة في تنشئة الجيل الصالح/ طريق الإسلام.

(10) صفة الصفوة (1/ 383).

(11) أخرجه الحاكم (8300).

(12) صانعة الرجال ومُعدّة الأبطال/ طريق الإسلام.

(13) محاسن التأويل (7/ 445).