التغافل بين الأزواج
عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه
وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمكم»، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت(1).
كلما قرأتُ هذا الحديث، وتخيلت هذا الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيت ردة فعله من فعل أم المؤمنين نتيجة للغيرة الطبيعية في داخل كل زوجة وامرأة، يتملكني شعور وإعجاب بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن وإحسان تصرفه صلى الله عليه وسلم؛ فهو لم يوجه كلمة واحدة إلى أم المؤمنين، ولا حتى نظرة واحدة إليها، وإنما سعى إلى التعامل مع الموقف مباشرة، فقام بجمع القطع المتناثرة من الصحفة، ثم جعل فيها الطعام، ثم إني لأتخيل ابتسامة لطيفة على شفتي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: «غارت أمكم».
إن النبي صلى الله عليه وسلم تغافل عن هذا الخطأ وهذه الهفوة من أم المؤمنين، ولو حدث مثل هذا الموقف بين الأزواج، في أيامنا هذه، لكانت نسبة كبيرة منهم ستحول الموقف إلى مشكلة ومعضلة كبيرة، قد ترقى في بعض الأحيان إلى الانفصال، وذلك بسبب أن كلًا من الزوج والزوجة يعاتب كل منهما الآخر على كل صغيرة وكبيرة، ونسيا أن التغافل بين الزوجين من أهم الأسباب للسعادة الزوجية.
لا شك أن الحياة الزوجية تمر بكثير من المشكلات والمنغصات، وهذا أمر بديهي وطبيعي، ولو تعاتب الزوجان في كل أمر اختلفا فيه أو لا يُعجب أحدهما، ووقفا يناقشا هذا الأمر، فإنه بكل تأكيد لن يمر يوم إلا وتحدث فيه مشادة كلامية بين الزوجين، وقد يحدث خصام، ويتكدر صفو الحياة الزوجية كثيرًا.
لذا كان لا بد من التغافل عن مثل تلك الهفوات والأخطاء، التي لا ترقى إلى مستوى يستحق الوقوف عنده، وبيان خطأه؛ حتى تسير الحياة الزوجية في مسارها الطبيعي الصافي الخالي من الكدر والنكد.
ثم إن التغافل عن سفاسف الأمور ومحقراتها من صفات العقلاء النجباء، وما أجمل قول الإمام الشافعي رحمه الله: «الكيس العاقل هو الفطن المتغافل»(2)، الذي يتغافل عن هفوات شريكه الآخر، الذي يغمض عينيه عن بعض أخطاء شريكه الآخر، وهذا ليس إضاعة للحقوق الزوجية، كما يتخيل بعض الأزواج، حيث يرى بعض الأزواج أنه لو لم ينبه على كل خطأ يقع لضاعت حقوقه الزوجية، وهذا فهم خاطئ في غير محله؛ ذلك أن الطرف الآخر حين يعلم أنك تغافلت عن هذا الخطأ، رغم علمك به ومشاهدتك لهذا الخطأ، فإنه ولا بد سَيُكِن لك احترامًا وتقديرًا ورفعة في قلبه، فضلًا عن أنه سيحاول بكل قوة عدم تكرار هذا الخطأ، وهذا من قبيل رد الإحسان، وكما قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما ملك الإنسانَ إحسانُ
وما أجمل هذا الموقف الذي تحكيه الزوجة قائلة: بعد مضي ثمانية عشر عامًا من الزواج وطهي الطعام، أعددت أخيرًا أسوأ عشاء في حياتي، كان الخضارُ قد نضَج أكثر مما يجب، واللحمُ قد احترق، والسلطةُ كثيرةُ الملح، وظل زوجي صامتًا طوال تناول الطعام، ولكني ما كدت أبدأ في غسل الأطباق حتى وجدته يحتضنني بين ذراعيه، ويطبع قبلة على جبيني، فسألته: لماذا هذه القبلة؟ فقال: لقد كان طهيك الليلة أشبه بطهي العروس الجديدة، ومن ثم رأيت أن أعاملك معاملة العروس الجديدة.
تصرف رائع من زوج استطاع أن يتغاضى ويتغافل عما فعلته زوجته؛ بل حوَّل الموقف إلى فرصة رائعة لتطييب خاطر زوجته، ورفع مكانته في قلبها، ولم يفكر أبدًا بطريقة أنه لو لم يحدثها عن بشاعة الطعام فإن الأمر سيستمر، ثم بعدها تهمل كي ملابسه، ثم تهمل تنظيف المنزل، ثم تهمل الاهتمام به شخصيًا، لا، لم يفكر أبدًا بهذه الطريقة، وإنما كان التغافل والمعاملة بالحسنى، فكانت النتيجة الأروع أن زاد حبها له في قلبها.
من الطبيعي والبديهي أن تكون هناك أخطاء واختلافات وتصرفات لا يستسيغها الزوج في زوجته، فقد تربت في غير البيت الذي تربى فيه، ونشأت على طباع غير تلك الطباع التي نشأ عليها الزوج، فقد يرى تصرفًا لا يقبله ولا يرضاه، وقد يكون هذا التصرف في طباع الزوجة وفي عرف أهلها مقبولًا مستساغًا، وكذلك بالنسبة للمرأة؛ فقد يكون زوجُها يتصرف أحيانًا بشكل يستفزها وتضيق به ذرعًا، خاصةً أن الزوجين في بيتهما يتصرّفان بعفوية ودون تكلّف، وهنا طبعًا لا بد من المصارحة بأسلوب لبق، وفي الوقت المناسب، باحترام ودون غضب ٍأو ثورة، ولكن إن استطاع الشريك أن يتغاضى عن بعض الأخطاء أو التصرفات في شريكه؛ لكي لا يُشعِره أنه تحت المجهر طوال الوقت، أو أنه يترصّد له السقطات، فهذا من شأنه أن يعزِّز العلاقة أكثر، وأن يجعل كل طرف عظيمًا في عين الطرف الآخر، فلا مشكلة أن يغضَ الزوجُ الطرفَ عن أمور بسيطة في البيت، ولا ضير في أن تتناسى الزوجة تقصيرًا أو نقصًا في زوجها، وإلّا يفعلا تصبح الحياة جحيمًا لا يُطاق!
وليس معنى التغاضي أن الزوجَ أو الزوجة أصبح غبيًا؛ بل على العكس، فليس الغبي بسيّد في قومه، ولكن سيّد قومه المتغابي(3).
إن المتغافل بفعله هذا يُظهِر خلقًا كريمًا حين يترفع عن أمور لمصلحة الأسرة العليا، وليحفظ قلبه وحبه في قلب الشريك، ولا بد أن يتعلّم منه الشريك، وأن يقدِّر فيه مشاعرَه، فليست البطولة أن ينقِّب الزوج عن الأخطاء ليبدأ حربًا ضروسًا، وليست الحصافة أن تحاسِبَ الزوجة زوجها على صغائر أمور تتعمد ملاحقتَها لتسفيهه، إنما البطولة وسمو الأخلاق تكون في التغاضي والترفّع والتغافل، والتركيز على الإيجابيات والخِصال الجميلة في الشريك، حينها فقط سيشعر الطرف الآخر بمحبة وتقدير شريكِه له.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: «ما زال التغافل من فعل الكرام»(4).
إن الأزواج إذا ما تغافلوا عن أمثال تلك الأمور، وترفعوا عن سفاسف الأمور، فإنهما ولا شك سيعيشان حياة سعيدة هانئة، مليئة بالأفراح، بعيدة عن الأحزان والأتراح.
ــــــــــ
(1) صحيح البخاري (5225).
(2) شعب الإيمان للبيهقي(10/575).
(3) من قصيدة لأبي تمام بعنوان "لوْأنَّ دهرًا ردَّ رجعَ جوابِ".
(4) تفسير الزمخشري (4/565).