logo

وصايا لقمانية في العقيدة والتربية


بتاريخ : السبت ، 8 صفر ، 1447 الموافق 02 أغسطس 2025
بقلم : تيار الإصلاح
وصايا لقمانية في العقيدة والتربية

يتضمن القرآن الكريم مجموعة من الحوارات الراقية بين الآباء والأبناء، وبين الأبناء والآباء، تحمل في طياتها حكمًا عظيمة وأساليب مؤثرة في تربية الأبناء تربية صحيحة متوازنة، ومن هذه الحوارات والوصايا: وصايا لقمان الحكيم لابنه حيث تتضمن الوسائل الصحيحة المؤثرة المفيدة في تربية الأبناء.

 

فهي نصائح جامعة للدين والأخلاق لمن تأملها، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 13- 19].

 

وأبرز هذه الوصايا للأبناء في الآية، وهي قواعد لمن تدبرها نوجزها فيما يلي:

1- الرفق في التربية: حيث ان الأب نادى ابنه بلفظ البنوة المشعر بالشفقة والرحمة، وهكذا تكون النصيحة، فما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه.

 

المربي الرفيق هو الذي ينوِّع الأساليب ويُحسن استثمار الأوقات والمناسبات، ويغض الطرف عن الهنات والعثرات، ويعالج الأخطاء بحكمة ورحمة، ولا يعيِّر أحًدا بلقبِ مكروه، ولا يجْهِز على الغير في حال الضعف أو الفشل، بل يُنهض ويحفز ويواسي ويُعين، المربي حليم كريم، كاظم للغيظ.

 

2- التوحيد وترك الشرك، هو أولى الأولويات ولا بد من تعليم الابن أن الله هو المقصود بالعبادة، ولا بد من إفراده بالعبادة بجميع أنواع العبادات من صلاة وصيام وطواف ونذر ودعاء، فالله هو المستحق لها؛ لأنه الإله وحده فلا رب غيره، وضده هو الشرك؛ وهو صرف العبادة لغير الله، سواء كان حجرًا أو قبرًا أو نبيًا أو وليًا، وهو أخطر ذنب عصي الله به، حيث إن صاحبه مخلد في النار مستحق للعذاب والغضب والعقوبة، ولا يحمل صاحب الشرك بعده أي ذرة من إيمان، ومن تجمل بهذه العقيدة فلا بد من الموالاة لأصحابها والبغض لأعدائها.

 

3- طاعة الوالدين، حيث إنهما سبب وجوده بعد الله عز وجل، والبر بهما من أعظم الأخلاق والأعمال، ومن أوجب الواجبات حتى لوكانا مشركين ويدعوان إلى الشرك، لا بد من صحبتهما بالمعروف، وبالقول الحسن والفعل الكريم الجميل، والتواضع لهما وقضاء حوائجهما، وعدم الكبر والترفع عليهما، ولو أساءا؛ بل لا بد من الصبر، ولا شك أن بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله، ومع ذلك ضاع عند الكثير الأجر الكبير.

 

4- المراقبة والخوف والخشية لله، حيث نصح لقمان ابنه بأن الله مطلع عليه ويعلم السر وأخفى، ويعلم مكان الذرة التي في باطن الأرض أو في وسط الصخور أو في الجو كعلمه ببقية الأمور فمن علم أن الله سميع بصير أغناه ضميره المؤمن اليقظ عن نوازع الشر ولا بد للوالدين من غرس هذا المفهوم بشتى الطرق لأن من أعظم وسائل الرقابة الذاتية في وسط هذا العالم الغارق بالمغريات والمفسدات من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية تفنن بها أصحاب الفساد، وليس لنا من ملجأ إلا بالله وحده.

 

5- الصلاة، حيث أمره بإقامتها بشروطها وواجباتها ومستحباتها وأركانها إقامة كاملة، وذلك لما لها من أثر تربوي عظيم؛ تنهى فيه عن الفحشاء والمنكر، وترزق صاحبها نورًا في الدنيا، وفي الحشر ويوم النشر، ولا بد من تربية الأبناء عليها من سن السابعة، وضرب المتهاونين في سن العاشرة، وأخذهم للمساجد وترهيبهم من تركها؛ لأنه تركها كفر والعياذ بالله.

 

6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا بد أن يعرف بوجوب هذه الفريضة، فيكون جنديًا حاميًا لحمى الإسلام، نافعًا لأمته، لا يرى الحق فيسكت عن تبليغه، ويرى الباطل فيتلجلج عن قمعه، حتى تكون له شخصية قوية تبتعد عن الباطل وأهله وتقترب من أهل الخير، فلا تجالس أهل المنكرات ولا تصاحبهم وإنما تصاحب أصحاب الحق.

 

7- الصبر، حيث إن البلاء شقيق للمؤمن لا ينفك عنه، والمؤمنون سنة الله بهم أنهم مبتلون للتمحيص والرفعة وللاختبار ولتكفير سيئاتهم، وجاء الصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا الداعي لا بد له أن يبتلى ويضطهد كما هو الحال مع الأنبياء والصالحين ولن تجد الطريق دائمًا مفروشًا بالورود.

 

8- النهي عن التكبر، حيث أن الكبر أشرس السيئات الأخلاقية الانحرافية، ويتولد منها بقية الأخلاق الردية الباطلة، ويترك بسببها كثير من الدين القويم والخلق الكريم، فنهى لقمان عن تصعير الخد تكبرًا وغرورًا، وحث على التوسط في الكلام والمشي، حيث أن المشي بكبر من صفات أهل الدناءة والشر، ورفع الصوت من الصفات البهيمية التي يوصف بها الحمار؛ فهذا مستنكر مستقبح من أهل الإيمان، وفيها إزعاج حسي للسامع وبغض لها، ويدل على كبره والعياذ بالله (1).

 

وقفات مهمة من خلال الوصايا:

هناك ملاحظات أساسية لا بد من إبدائها مرتبطة بالشكل الذي قدم بها لقمان نصائحه الغالية لابنه منها:

 

- مبدأ الحوار بين الأب والابن بطريقة سلسة دون إثارة مشكلة عدم التواصل بين جيل الآباء مع جيل الأبناء، وهي القضية التي تعاني منها كثير من الأسر في واقعنا اليوم، لقمان كان يخاطب ابنه بأسلوب كله حوار راقي وحضاري، فالأب يسدي النصائح والمواعظ والابن ينصت أحسن الإنصات، وتمر الأمور في هدوء وروية بين الطرفين.

 

- وسيلة الإقناع بحيث أن لقمان الحكيم كان يورد الأمر أو النهي ويُتبعه بالشرح والتبرير، مثلًا يعظ ابنه بأن لا يصعر خده للناس وبأن لا يتكبر، فيفسر له للتو بأن ذلك السلوك يكرهه الله تعالى بالقول: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، ولما أمره باللين بأن لا يرفع من صوته وأن يقصد فيه، أردف ذلك بالقول:" إن أنكر الأصوات لصوت الحمير.

 

- بدء الخطاب بالرفق والأسلوب الذي كله رقة وعذوبة: {يَا بُنَيَّ} وهي لفظة تصغير لكلمة "ابني" من أجل التحبب والتقرب بغية إيصال الخطاب بطريقة سليمة وكاملة ولفت الانتباه للمُخاطَب.

 

- تقديم البديل: حين قال لقمان لابنه بأن لا يمشي في الأرض مرحًا أتى له بالبديل وهو أن يقصد في مشيه، وهكذا دواليك تتأسس التربية الإسلامية السليمة للأبناء.

 

وقفات تربوية:

أولًا: ان الله تعالى أراد أن يبين أنه قد أعطى الحكمة للقمان، ومن هنا فكل ما يقوله في هذا الصدد حكمة، ولذلك سجل الله تعالى تلك الوصايا وخلدها في القرآن الكريم، فالحكمة هي العقل والفطنة والعلم مع الإصابة في القول، وقال بعض العلماء: هي وضع الشيء المناسب في المكان المناسب، ولا يختلف هذا التفسير عن التفسير السابق، فالحكمة هي العلوم النافعة، والتجارب الناجحة التي ترتب عليها الخير الكثير للإنسانية.

 

والحكمة في أن الله تعالى قال قبل ذكر سرد الوصايا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]، أي: الفهم والعلم والتعبير، وهذا بيان أن هذه الوصايا مزكاة من قبل الله تعالى، وأنها ترجع إلى مشكاة نور الله تعالى.

 

فالحكمة أخص من العلم، هي العلم بالشيء على حقيقته وبما فيه من الفائدة والمنفعة الباعثة على العمل، فهي بمعنى الفلسفة العملية كعلم النفس والأخلاق وأسرار الخلق، ويدل عليه قوله تعالى بعد وصايا سورة الإسراء: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39]، ولولا اقتران تلك الوصايا بحكمها وعللها ومنافعها لما سميت حكمة (2).

 

فالحكمة إذن في حقيقتها تتضمن معاني العلم الصائب والإيمان بالحق والإذعان له وطلبه، والعمل على وفق ما علم، وإرشاد الناس إلى المنهاج المستقيم؛ ولذا قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 126]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (3).

 

ويستفاد من هذه الآية من الجانب التربوي ما يأتي:

أ- ضرورة التعريف بالمربي قبل أن يبدأ بالتربية، فالتربية ليست مجرد نقل معلومات أو إعطاء أوامر؛ بل هي عملية تواصل وبناء ثقة بين المربي والمتربي، لذلك من الضروري أن يُعرّف المربي بنفسه وأسلوبه وقيمه قبل أن يبدأ بالتربية، سواء كان والدًا، معلمًا، أو موجّهًا روحيًا.

 

ب- ضرورة اختيار الشخص المزكى للتربية، وليس أي شخص، فالمهمة صعبة وخطيرة وكبيرة، وهنا تلقى مسؤولية عظيمة على الآباء وأولياء الأمور في اختيار المربين والمعلمين، حيث يتحملون مسؤولية عظيمة أمام الله تعالى وأمام هؤلاء الأطفال والتلاميذ إذا لم يبذلوا جهودًا عظيمة للاختيار والانتقاء؛ بل لا ينبغي لهم الاختيار إلا بعد البحث والتزكية من قبل الثقات.

 

المُرَبِّي ليس مجرد معلم، بل هو صانع أجيال، وأي خطأ منه قد يؤدي إلى تشويه المفاهيم والقيم لدى المتربي، وعندما يكون المربي شخصًا موثوقًا وناجحًا، فإن العملية التربوية تصبح أكثر تأثيرًا واستدامة.

 

ج- ضرورة تعظيم المربي في نفوس المتربين، والنظرة إليهم نظرة تقدير واحترام، من خلال تقديمه من قبل الوالد، أو ولي الأمر، أو مسؤولي وزارة التربية والتعليم، وذلك بأن يقدم المربي إلى المتربين بشكل يستشعر فيه المتربون والمتعلمون بأن مربيهم له مكانة عظيمة وأنه كذا وكذا.

 

وهذه النظرة من المتربي أو المتعلم إلى المربي لها دور كبير في قبول وصاياه وتقبل نصائحه، واحترام أقواله وآرائه، وهي تقتضي أن تعطي للمربين والمدرسين والمعلمين مكانة لائقة بهم أدبيًا ومعنويًا وماديًا، وأن لا ينظر الى الجانب الاقتصادي في اختيار المربين بحيث لا تكون النظرة قاصرة على التوفير، بل ينظر إلى أن المربي أو المعلم الذي أعطيت له مكانته اللائقة يكون له التأثير على المتربين أكثر من غيره.

 

ثانيًا: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان: 13]، يدل على ضرورة أن يجلس الأب مع ابنه دائمًا أو كثيرًا للوعظ والتوجيه والتربية، ذلك أن جملة «وهو يعظه» جملة اسمية تدل على الثبوت والدوام والاستقرار، وهي جملة حالية عن «لقمان» الوالد.

 

ومن جانب آخر أن الطريق إلى التربية والتوجيه والتقويم يمر عبر الوعظ ووسائله المشوقة ووسائل الترغيب، والحكمة، والثواب والعقاب، والتعبير القرآني يدل على إعطاء أولوية كبيرة للجلوس مع الأولاد ذكورًا وإناثًا للوعظ والنصح والتربية، فهي مهمة ليست سهلة، وهي تستحق كل العناية والاهتمام، لأنها تتعلق ببناء الإنسان، وبناء الجيل القادم، وبناء القيادة للأمة.

 

والموعظة الجيدة تخاطب القلب والعقل، فتجعل المتربي يتأمل ويتأثر ويغير سلوكه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرًا، أو: إن بعض البيان لسحر» (4)، أي أن الكلام المؤثر له قوة كبيرة.

 

ثالثًا: قوله تعالى حكاية عن لقمان: {يَا بُنَيَ} يدل أنه على المربي أن يختار الألفاظ المحببة والمشوقة لدى المتربي، وأن يشعره بأنه يحبه، وأنه لا ينصحه إلا من باب حبه الكثير، وأنه حتى لو تشدد معه فهو كالطبيب المعالج الذي تقتضي مصلحة مريضه أن يقوم باللازم، حيث استعمل القرآن الكريم في البداية لفظ {يَا بُنَيَ} الذي كما يقول العلماء يدل على نداء المحبة والإشفاق وأن تصغير بني للتحبب ولبيان زيادة الحب والعطف، ومن هنا فعلى المربين والمعلمين حتى ولو كانوا آباء للمتربين أن لا يستعملوا الألفاظ الجارحة، أو حتى الألفاظ العادية، بل يتفننوا في استعمال الكلمات الجميلة الراقية التي تدل على الاحترام والمحبة والإشفاق.

 

رابعًا: استعمال الأشياء المفهومة للأولاد، والألفاظ الواضحة، وبعبارة أخرى أن يكون خطابهم باللغة التي يفهمونها هم وليس بلغة الكبار، وهذا ما فعله سيدنا لقمان في وعظه لابنه حينما تحدث عن الأصوات المرتفعة الكريهة شبهها بأصوات الحمير، وذلك لأن أصوات الحمير مفهومة جدًا للأطفال وكريهة كذلك ومزعجة، فاستعمل وسيلة التقبيح المفهومة لديهم، وكذلك حينما نصحه بأن لا يشرك بالله تعالى ذكر بأن الشرك لظلم عظيم، والظلم مفهوم بالفطرة ومستقبح لدى الجميع، ثم بين بأن الشرك ليس ظلمًا عاديًا؛ بل هو ظلم عظيم، وذلك لأن الظلم اعتداء على الحقوق، وتجاوز عن الحدود، وصرف الحق عن أهله، وأن الشرك هو اعتداء على حق الخالق، ومساواة ظالمة بين المخلوق والخالق، وإعطاء حق العبادة للشريك الذي لا يستحقها، وإخضاع للنفس الإنسانية المكرمة لعبادة الخسيس، بدل الخضوع لخالقها وباريها.

 

خامسًا: عدم الاكتفاء بسرد الأشياء المجردة عن أدلتها وحكمها وأسبابها، وعن التعليل والبيان، حيث لم يكتف لقمان الحكيم بمجرد النهي؛ بل بين السبب وأوضح العلة وشرح الحكمة فقال: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وقال أيضًا: {أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، وقال أيضًا: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} ثم بين السبب بقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

 

وهذا منهج تربوي رصين قوي يدل على أنه يعطي القيمة لعقول الأولاد والمتربين والتلاميذ حيث لا يفرض عليهم المعلومات، بل تشرح لهم مع أسبابها وحكمها، فيكون ذلك أدعى للقبول.

 

سادسًا: التربية عن طريق السؤال والجواب، وانتهاز فرصة حاجة المتربي لذلك، حيث ورد أن ابن لقمان سأل أباه حينما رأى البحر المتلاطم الأمواج فقال: يا أبتاه: لو وقعت حبة في هذا البحر أيعلمها الله تعالى؟ فأجاب لقمان بقوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، فأجاب إجابة دقيقة فذكر بدل الحبة مثقال حبة من خردل وهي غاية في المبالغة في الصغر، كما ذكر بما يدل عليه بطريق أولى فقال: {يَأْتِ بِهَا اللهُ} أي قادر على أن يأتي بها.

 

ومن الطبيعي جدًا أسئلة الأولاد الكثيرة فلا ينبغي للمربي أن ينزعج منها بل يستفيد منها، ويبني عليها، ومن الجانب النفسي فإن الأطفال يملون من العرض والإلقاء فلا بد إذن من إيصال المعلومات عن طريق الأسئلة والأجوبة وغيرها من وسائل التشويق.

 

سابعًا: التربية عن طريق قاعدتي الثواب والعقاب والتخويف، والترغيب والترهيب، حيث تضمنت الوصايا الأجزية على تلك الأفعال، وما يترتب عليها من ثواب وعقاب وجنة ونار، ومن محبة للناس أو بغضهم أو نحو ذلك، حيث وصف الالتزام بالقيم الأخلاقية والعبادات فإنها من مكارم الأخلاق وعزائم أهل العزم.

 

ثامنًا: ضرورة الإتيان بالبدائل عند النهي عن أي شيء، حيث بعدما نهى لقمان عن الخلق الذميم من التكبر ونحوه رسم له الخلق الكريم فقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19]، بعدما قال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18]، فعلى المربين أن يوجدوا البدائل المقبولة لكل المنهيات المستهجنة، ومن فضل الله تعالى أن ديننا يقوم على ذلك.

 

تاسعًا: أن الوعظ الذي يقدمه الوالد، أو المربي ينبغي أن يكون شاملًا لجميع ما يحتاج إليه المتربي من خلال خطة زمنية ومن خلال فقه الأوليات، ولذلك شملت وصايا لقمان لابنه الجانب العقدي، والجانب الأخلاقي، والجانب العملي، كما أنها راعت فقه الأوليات حيث بدأ الحديث والتركيز على العقيدة الصحيحة، وعلى زرع التقوى والخوف من الله في قلوب المتربين، ثم التركيز على أداء الصلاة وإقامتها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر، ثم التركيز على الجوانب الأخلاقية القولية والسلوكية (5).

 

يقول الإمام الرازي في تفسيره: والذي يظهره وجوده الأول هو أن الإنسان لما كان شريفًا تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطرًا فأقدر الله الإنسان على تحصيلها بالمشي فإن عجز فبإبلاغ كلامه إليه، والثاني: هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء: عمل بالجوارح تشاركه فيه الحيوانات، فإنه حركة وسكون، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره، وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلا لله، وقد أشار إليه بقوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، أي أصلح ضميرك فإن الله خبير، بقي الأمران فقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال، الثالث: هو أن لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الانسانية والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه، والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه، فقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17]، إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان دون الملك، فإن الملك لا يأمر مالكًا آخر بشيء ولا ينهاه، وقوله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18]، إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة من عدم التكبر، وقوله {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]، إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان، ولكن الإنسان يهذب هذه الصفات (6).

-------------

(1) وصية لقمان من أعظم وسائل التربية على الإطلاق/ الفرقان.

(2) تفسير المنار (11/ 205).

(3) أخرجه البخاري (1352).

(4) أخرجه البخاري (5767).

(5) دروس تربوية من خلال وصايا لقمان الحكيم/ الحوار اليوم.

(6) مفاتيح الغيب (25/ 123).