وأصلحنا له زوجه
الزواج حياة مشتركة بين طرفين؛ هما الزوج والزوجة، وهذه الشركة لا يمكن لها الاستقرار والنجاح إلا إذا قام كل طرف بواجبه تُجاه الآخر، وبأن يعرف كل منهما ما له وما عليه.
وهذه الشركة رأس مالها الحب والمودة، وغرسها الإخلاص، وعطاؤها الإيثار والفداء والتضحية، وتُرْبَتها الرضا والقناعة، وشمسها الوضوح والصراحة، وسماؤها السكينة والطمأنينة، وبابها القَبول وحسن الاختيار، وثمرتها رضا الله تعالى، وربحها وكسْبها سعادة الدارين، والفوز بجنات عرضها السموات والأرض.
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»(1).
يعني: مالُ الدنيا خلق لبني آدم لينتفعوا به، وخير ما يَنتفع به الرجلُ المرأةُ الصالحة، فإنه يتلذَّذُ منها، وتكون له سكنًا وأنيسًا، وتحفظ عينه وفرجه من الحرام، وتُعينه على دينه بأن تمنعه عن الكَلِّ في الطاعات، ويحصل له منها أولاد يطيعون الله، وتزيد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأيُّ متاع من أمتعة الدنيا يكون نفعها مثل نفع المرأة الصالحة؟(2).
قال الطيبي: «قيد بالصالحة إيذانًا بأنها شر المتاع لو لم تكن صالحة»، وقال الأكمل: «المراد بالصالحة التقية المصلحة لحال زوجها في بيته المطيعة لأمره، وفيه إيماء إلى أنها أطيب حلال في الدنيا؛ لأنه سبحانه وتعالى زين الدنيا بسبعة أشياء ذكرها بقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14]، الآية، وتلك السبعة هي ملاذها وغاية آمال طلابها، وأعمها رتبة وأعظمها شهوة النساء، ولأنها تحفظ زوجها عن الحرام، وتعينه على القيام بأمور دينه ودنياه، وكل لذة أعانت على لذات الآخرة فهي محبوبة مرضية لله تعالى، فصاحبها يلتذ بها من جهة تنعمه وقرة عينه بها، ومن جهة إيصالها له إلى مرضاة الله تعالى»(3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن المرأة إذا أحسنت معاشرة بَعْلِها كان ذلك موجبًا لرضاء الله وإكرامه لها، من غير أن تعمل ما يختص بالرجل، والله أعلم»(4).
قال تعالى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90]، إن إصلاح الله لزوج زكريا باق على عمومه، فيشمل كل ما ذكره المفسرون بأنها كانت عقيمًا فجعلها ولودًا، وكانت سيئة الخلق فأصلحها الله بأن رزقها حسن الخلق كما يقول إمام المفسرين ابن جرير الطبري، وأهم إصلاح الله لها هو إصلاحها له في دينها كما يقول الرازي في تفسيره: «وفي تفسير قوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} ثلاثة أقوال:
أحدها: أصلحها للولادة بأن أزال عنها المانع بالعادة، وهذا أليق بالقصة.
والثاني: أنه أصلحها في أخلاقها، وقد كانت على طريقة من سوء الخلق وسلاطة اللسان تؤذيه، وجعل ذلك من نعمه عليه.
والثالث: أنه سبحانه جعلها مصلحة في الدين، فإن صلاحها في الدين من أكبر أعوانه في كونه داعيًا إلى الله تعالى، فكأنه عليه السلام سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعًا»(5).
قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين: «إنها كانت عاقرًا فجعلت ولودًا»، وقال ابن عباس وعطاء: «كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان، فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخلق»، قال القرطبي: «ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين؛ فَجُعِلت حسنة الخلق ولودًا»(6).
صلاح المرأة في دينها وخلقها هو أهم أركان صلاحها الذي بيدها، وأما إصلاحها في ولادتها إن كانت عقيمًا فلا دخل لها فيه، ولكنها بدعائها لربها وابتهالها إليه يرزقها الله كما رزق امرأة إبراهيم عليه السلام الولد وهي عجوز: {أَأَلِدُ وَأَنا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عَجِيبٌ} [هود:72]؛ بل إن صلاحها في دينها يتضمن صلاحها في خلقها وولادتها، وإذا أصلح الله المرأة في هذه الثلاث صارت قرة عين لزوجها ولوالديها ولبنيها ولمجتمعها.
علامات صلاح المرأة:
تتمتع المرأة الصالحة بصفات وعلامات ميزها الله سبحانه وتعالى عن غيرها من كثير من النساء.
غالبًا ما تتصف المرأة الصالحة بالصوت الهادئ المتزن العقلاني، حيث نجدها، باختلاف الظروف أو الضغوط أو المشاكل، لا ترفع صوتها على زوجها أو أهلها.
المرأة الصالحة هي امرأة يتحلّى قولها بالصدق، ويبتعد لسانها عن قول الكذب، ويتزيّن عملها بالأمانة والإخلاص، وتخلص بحب في تربية أولادها، تحفظ زوجها وأهلها في بيتها ومالها.
هي امرأة غالبًا ما تحاول بكل الطرق الابتعاد وتجنب الانفعال والغضب والعصبية غير المبررة، خصوصًا مع زوجها ووسط أبنائها، وأمام الآخرين؛ حيث إنها تتميز وتتصف باتزان كلامها وأفعالها، فهي غالبًا ما تميل إلى أعمال الحكمة وصوت العقل.
المرأة الصالحة هي امرأة متدينة، وسطية، ملتزمة بدينها ومحافظة على أداء الفروض والعبادات، حريصة على طاعة الله، تتميز وتتصف بالحياء والتواضع لله تعالى وليست مغرورة أو متهورة.
المرأة الصالحة هي امرأة نجدها دومًا حريصة على الاستئذان من زوجها، فلا نجدها تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، ولا تصوم النوافل إلا بإذنه، ولا تنفق من ماله إلا بإذنه.
المرأة الصالحة هي امرأة حريصة كل الحرص على تربية أبنائها تربية وتنشئة صالحة، تربيهم على الصدق والإخلاص وقول الحق، واحترام الكبير، والحرص على أداء الصلاة والصوم، والبعد عن أصدقاء السوء، والقول الحسن والمعاملة الحسنة، والتواضع، والولاء والانتماء للوطن.
المرأة الصالحة هي امرأة حريصة على أن تطيع زوجها بما يرضي الله، ولا تطيعه في عصيان الله، لا تفكر في إفشاء أسرار حياتها الزوجية خارج بيتها، تصبر على البلاء وتحمد الله وتشكره في السراء والضراء.
قال الإمام أحمد عن زوجته عباسة بنت الفضل، أم ولده صالح: «أقامت معي أم صالح ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة، ثم ماتت رحمها الله»(7).
قال ابن الجوزي: «وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجًا صالحًا يلائمها أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته أو تعرضت لما يكرهه أوجب ذلك ملالته، وبقي ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها، أو آثر غيرها، فإنه قد يجد، وقد لا تجد هي، ومعلوم أن الملل للمستحسن قد يقع، فكيف للمكروه»(8).
وإن من أكبر الدروس المستوحاة من هذه الجملة {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}: العناية الإلهية والحياطة الربانية بأوليائه وأنبيائه، الذين يبلغون رسالاته ويدعون الناس إليه، ويقودونهم إلى جناته، وعلى كل كيانٍ مسلمٍ أن يهتدي بهذا الهدي الرباني، فتكون له عناية وحياطة بأفراده الدعاة والعاملين.
التربية القرآنية تسلط الضوء على نقطة قد تبدو ثانوية في إطار التشييد الدعوي والتربوي للأفراد، وهي ملاحظة الاحتياجات النفسية والاجتماعية لمن هم يقعون في هذا الإطار، مما لا يرتبط ارتباطًا مباشرًا به.
وما حاجة الأنبياء والرسل الكرام عليهم السلام لمراعاة هذه الجوانب (الثانوية)، وقد حباهم الله تعالى أعظم شيء وأجلَّه وأحسنه: الإيمان، والعلم، والمعجزات، والتأييد! وهل قلوبهم تتوق إلى شيء من حظوظ الدنيا ومتاعها الزائل؟ لكن القرآن يلفت أنظارنا، ونحن نعمل في التشييد الدعوي والتربوي، إلى أنَّ تكميل متطلبات الشخصية واحتياجاتها، والمساندة في صنع الاستقرار النفسي والأسري؛ أن ذلكم جزء مهم من عوامل التشييد وركائز البناء.
استقرار الحياة الزوجية في حياة الدعاة:
يمتن الله سبحانه على نبيه زكريا بأنَّه أصلح له زوجه تكريمًا له وامتنانًا، ولما لصلاح الزوجة لزوجها من كبير الأثر على استقرار نفسه واتزان تفكيره واستقامة وجدانه وسكون وحشته.
لاحِظ التعبير القرآني الذي عدَّى إصلاح الزوجة إلى ذات زكريا {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي: أن الله تعالى أصلح لزكريا ما كانت زوجه تحتاجه من إصلاح؛ لمصلحة زكريا ذاته، ومن نافلة القول أنَّها ستنتفع أيضًا هي بذلك، قال السعدي رحمه الله: «وهذا من فوائد الجليس والقرين الصالح؛ أنه مبارك على قرينه»(9).
إنَّ استقرار الحياة الزوجية يفضي، بشكل مباشر، إلى السكن، وهو أحد أهم مقاصد الزواج، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} [الأعراف:189]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، والسكن ضد الاضطراب، وهو الراحة والهدوء النفسي، لكنه لا يتم إلا مع زوجة صالحة لزوجها؛ ولذلك عدَّى الله تعالى الفعل «يسكن» إلى الزوجة، قال تعالى: {لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا} فالسكون والاستقرار لا يتم إلا مقترنًا بها.
وفي حال استقرت النفس وسكنت الروح واعتدل المزاج فإن العطاء الدعوي والتربوي لهذا الرجل سيتأثر إيجابيًا، وسيكون ذلك رافدًا مهمًا من روافد العمل.
إن الاستقرار في الحياة الزوجية أيضًا يدل بوضوح على تلبية الحاجة الغريزية في المعاشرة والوصول إلى حدِّ الاكتفاء أو مقاربته، والحاجات الغريزية يجب تلبيتها، وإلا ستبقى حاجة ظاهرة يسعى الإنسان إلى تلبيتها، ولو بشكل غير مشروع، وتلتقي الرؤية الشرعية مع الرؤية الغربية في كونها حاجة أساسية، مع الاختلاف بينهما في طرائق تلبيتها.
والمقصود أن الاستقرار في الحياة الزوجية مؤثر جدًا في تلبية هذه الحاجة، وحين تلبى الحاجات فإن الإنسان ينتقل من مرحلة تكميل ذاته والانشغال بتلبية احتياجاته إلى مرحلة العطاء والنفع وعمارة الأرض.
لقد كان القرآن الكريم واضحًا في الاهتمام باستقرار بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المهمة الملقاة على عاتقه صلى الله عليه وسلم تتطلب ذلك، تأمل ما ورد بهذا الشأن في سورة التحريم، فحين تظاهرت بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم عليه غيرةً، وحصل له الأذى بسبب ذلك؛ نزلت الآية صريحة واضحة في تهديدهما، وأنَّ الله تعالى سيتولاه وكذلك الملائكة من بعده وخيار المؤمنين: {إِنْ تَتُوبَا إلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)} [التحريم:٤-٥].
الحفاظ على استقرار بيوت المبلغين ليست مهمة المبلغين وحدهم؛ فيُتركون يصارعون الأمواج العاتية بمفردهم؛ كلُّ فرد له معركته الخاصة به في بيته! إنه كذلك من مهام الكيان الحاضن لهم، والمجتمع الذي يرتبطون به، وهكذا يعلمنا القرآن، ولذلك لَمَّا اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه رضي الله عنهن دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول عمر: «وأنا أرى الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله، ما شق عليك من شأن النساء، فلئن طلقتهن فإن الله معك، وملائكته وجبرائيل وميكائيل وأنا وأبو بكر معك، فنزلت هذه الآية»(10).
وعن أنس عن عمر قال: «بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله وأذاهن إياه، فاستقريتهن امرأة امرأة، أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله، وأقول: إنْ أبيتُنَّ أبدله الله خيرًا منكن، حتى أتيت، حسبت أنه قال: على زينب، فقالت: يا ابن الخطاب، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأمسكتُ، فأنزل الله الآية»(11).
لقد كان واضحًا في تصور عمر بن الخطاب أنه يجب عليه أن يعمل شيئًا ما تجاه أيِّ اضطراب يكتنف بيت النبوة! وأن عليه مسئولية ما تجاه استقرار هذا البيت النبوي.
نعم، حريٌ ببيت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحتفي به الآيات الكريمات لمكانة نبينا صلى الله عليه وسلم عند الله؛ لكن القرآن يربينا على الاحتفاء ببيوت المبلغين عن الله رسالته، من ورثة النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاة والمربين والعلماء.
قال تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ الْنِّسَاءِ إَنْ اْتَقَيْتُنَّ} [الأحزاب:٢٣]، إنَّ هذا الخطاب يشير إشارة جليَّة إلى ما ينبغي أن تكون عليه حال نساء المبلغين عن الله والداعين إليه، وما ينبغي أن تكون عليه حال نساء القدوات في المجتمع؛ من تفرُّدِهن وسموِّهن عن سائر النساء في المجتمع، ولهذا أعقب الله تعالى هذا الخطاب بجملة من التوجيهات الكريمة الدالة على الشرف والرفعة، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «هذه آدابٌ أمر الله بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبعٌ لهن في ذلك»(12).
ولقد كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم على قدر عالٍ من المسئولية، ولقد ارتقت بهنَّ التوجيهات الربانية الكريمة، فأصبحن خير القدوات من النساء، والمطالع لسيرهن قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده يدرك ذلك جيدًا.
وهذا من جملة العناية الربانية ببيوت الأنبياء الكرام عليهم السلام، وهكذا ينبغي على من يعنيهم الأمر أن يعتنوا ببيوت المبلغين عن الله تعالى؛ لتكون بيوتًا قدوة في المجتمع، ولتكون بيوتًا مستقرة يعود نفعها على حركة البلاغ والعطاء، ولئلا تبقى ثغرة تعوق أو تثبط المصلحين والمبلغين عن أدوارهم الريادية في المجتمع.
وكيف يستقيم، في تصورات الناس، أن يطالَبوا بإصلاح أنفسهم وبيوتهم، بينما هم يرون هاتيك البيوت عاجزة عن إصلاح نفسها! أو يرونها ممزقة الحبال.
إنها رسالة لنساء هذه الثلة المباركة، من المبلغين والمصلحين والدعاة والمربين، تقول لهم: لستن كأحد من النساء! فأنتن أولى بالتقوى، وأنتن أولى بإصلاح حالكن، وأنتن أولى من يعين أزواجكن على رسالتهم بحفظهم في أنفسهم وأموالهم ورعاية أولادهم وحسن التبعل لهم، لكي ينطلقوا، دون تردد ولا تلكؤ ولا تراجع، في نشر الدعوة وإصلاح المجتمعات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريلٌ النبيَ فقال: «يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك، معها إناءٌ فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومني، وبشِّرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب»(13).
كافأ الله تعالى هذه الزوجة (الصالحة لزوجها) مكافأة غارت منها عائشة! إنها التي وقفت معه وأيدته وشدت من أزره وأراحته، وكانت له سكنًا حين تلتهب الظروف وتَدْلَهِّم الأمور.
قال السهيلي: «مناسبة نفي هاتين الصفتين، أعني المنازعة والتعب، أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعًا، فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك؛ بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهوَّنت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها»(14).
أفلا ترجو زوجة الداعية أن يؤتيها الله كأجر خديجة، بطواعيتها وتتبعها لمراضي زوجها، وإعانتها له في منعطفات حياته.
كما أن القرآن اعتنى في صور متعددة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله الخاصة، فكذلك كان عليه الصلاة والسلام يعتني بأصحابه في أحوالهم الأسرية والزوجية وشئون حياتهم الخاصة، لقد كان صلى الله عليه وسلم يشعر أنَّ ذلك واجب عليه لأصحابه الذين انضووا تحت رايته، وعملوا تحت طاعته، كما كان صلى الله عليه وسلم يدرك الأثر المترتب على مدى استقرار الجانب الأسري، من عطاء وبذل أو ضدهما.
وفي قصة تزويج حفصة، وذلك بعد وفاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجة عثمان بن عفان، ما يدلُّ على الاهتمام النبوي بالشأن الأسري لأصحابه، حيث لقي عمر بن الخطاب عثمانَ بن عفان فعرض عليه حفصة، وقد توفي عنها زوجها خنيس بن حذافة، قال عمر: «إن شئت أنكحتك حفصة»، فقال عثمان: «سأنظر في أمري»، قال عمر: «فمكثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألَّا أتزوج يومي هذا.
فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئتَ زوَّجتك حفصة، فصَمَت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئًا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فمكثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئًا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها»(15).
كما زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ابنته الأخرى أم كلثوم؛ بل في القصة ما يشير إلى أنَّ هذا المعنى قد يندرج ضمن استحقاقات الانتماء؛ حيث غضب عمر رضي الله عنه ووجد في نفسه على أبي بكر وعثمان أنهما لم يقبلا الزواج من ابنته الأرملة، فتأمل.
ومن أهم المجالات التي ينبغي على المؤسسات الدعوية أن تلتفت إليها في حقِّ أفرادها والعاملين فيها ما يلي:
حلُّ المشكلات الزوجية:
بيوت الدعاة والعاملين ليست بمنأى عن وقوع الأخطاء والمشكلات التي تسبب الهجر والجفاف، وربما تقترب من الطلاق والفراق، والقيادات الفذَّة هي تلك التي تشارك الأفراد هذه الهموم فتقوم معهم وتصلح ذات بينهم، بشكلٍ أو بآخر، كما تعتني بتدريبهم على تجاوز هذه الإشكالات، وإلا فسينكفئ الفرد على ذاته، وسيصاب تفكيره بالشلل، وربما عاد الأثر سلبيًا على مستوى إيمانه وعلاقته بالله تعالى.
وكما قد اتضح جليًا العناية باستقرار بيوت المبلغين لرسالة الله؛ فإنه ينبغي على القيادات الاهتمام بهذه المسألة في حق هؤلاء، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاهتمام بأصحابه.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: هلك أبي وترك سبع بنات، أو تسع بنات، فتزوجتُ امرأة ثيبًا، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوجتَ يا جابر؟»، فقلت: «نعم»، فقال: «بكرًا أم ثيبًا؟»، قلت: «ثيبًا»، قال: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟»، قلت: «إن عبد الله هلك وترك بنات، وإني كرهتُ أنْ أجيئهن بمثلهن، فتزوجتُ امرأة تقوم عليهن وتصلحهن»، فقال: «بارك الله لك» أو قال: «خيرًا»(16).
قال ابن حجر رحمه الله: «وفيه سؤال الإمام أصحابه عن أمورهم، وتفقده أحوالهم، وإرشاده إلى مصالحهم، وتنبيههم على وجه المصلحة، ولو كان في باب النكاح وفيما يُستحيا من ذكره»(17).
واجب الفرد في إصلاح زوجه:
لم يغفل القرآن الكريم ما ينبغي على الرجل من مسئولية في إصلاح زوجه وأسرته، فهو رب البيت وولي المرأة وأولادها، وهو القائم على أمورهم، وهو من تقع عليه المسئولية الأولى في إصلاح بيته، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦].
قال قتادة: «يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، وأن يقوم عليهم بأمر الله، ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها وزجرتهم عنها»(18).
واجب محتم على رب الأسرة: تربيتهم على دين الله، وتعليمهم أحكام الشريعة، ليتقوا بها عذاب الله تعالى، إنَّ المؤمن مكلف هداية أهله، وإصلاح بيته، كما هو مكلف هداية نفسه وإصلاح قلبه، وواجب المؤمن أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله، واجبه أن يُؤَمِّن هذه القلعة من داخلها، واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيدًا، هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام وأن يدركوه جيدًا، إنَّ أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت، إلى الزوجة، إلى الأم، ثم الأولاد؛ وإلى الأهل بعامة، ويجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم، وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولًا عن الزوجة المسلمة، وإلا فسيتأخر طويلًا بناء الجماعة الإسلامية، وسيظل البنيان متخاذلًا كثير الثغرات(19).
ومن بلاغة القرآن أن جاءت هذه الآية، بعد موعظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتنبيه المؤمنين لعدم الغفلة عن موعظة أنفسهم وموعظة أهليهم، وألَّا يصدهم استبقاء الود بينهم عن إسداء النصح لهم، وإن كان في ذلك بعض الأذى(20).
وحين لا توفق الزوجة للهداية والصلاح، أو حين تكون عائقًا في طريق زوجها الدعوي والإصلاحي، أو قد تكون مشغلة له عن واجبات الإيمان؛ فإنها، في الحقيقة، أحد أعدائه ولو أحبها وأحبته، وعليه أن يلتفت إلى ذلك تيقظًا وإصلاحًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن:14](21).
____________
(1) أخرجه مسلم (1467).
(2) المفاتيح شرح المصابيح (4/ 9).
(3) التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 142).
(4) مجموع الفتاوى (32/ 275).
(5) مفاتيح الغيب للرازي (22/ 182).
(6) تفسير القرطبي (11/ 336).
(7) تاريخ الإسلام (18/ 94).
(8) أحكام النساء، ص78.
(9) تيسير الكريم الرحمن، ص129.
(10) تفسير ابن جرير (28/ 162).
(11) المصدر السابق (28/ 164).
(12) تفسير ابن كثير (6/ 408).
(13) أخرجه البخاري (3820)، ومسلم (2432).
(14) فتح الباري (7/ 172).
(15) أخرجه البخاري (5122).
(16) أخرجه البخاري (5367).
(17) فتح الباري (9/ 26).
(18) تفسير ابن جرير (28/ 166).
(19) في ظلال القرآن (6/ 3619).
(20) التحرير والتنوير (28/ 365).
(21) وأصلحنا له زوجه، مجلة البيان (العدد:347).