إيجابية المرأة المسلمة
الإيجابية هي الطاقة التي تشحذ الهمة، وتذكي الطموح، تدفع إلى البذل والعمل، واستثمار الواقع.
الإيجابية دافع نفسي واقتناع عقلي وجهد بدني لا يكتفي بتنفيذ التكليف؛ بل يتجاوز إلى المبادرة في طلبه أو البحث عنه، ويزيد على مجرد الأداء الإتقان فيه، بل يضيف إلى العمل المتقن روحًا وحيوية تعطي للعمل تأثيره وفعاليته، دون أن يخالطه جفاف أو جفاء أو تبرم أو استثقال.
ومعناها في المفهوم المعاصر يتسع ليكون دالًا على إيجاب المرء على نفسه ما ليس بواجب ابتداءً، لما عنده من همة عالية، ورغبة عارمة في البذل.
وللإيجابية –عند المسلم عمومًا– ركائز تقوم عليها، ودعائم تستند إليها، فالمسلم حامل رسالة ومبلغ أمانة، ولا يتصور من حامل رسالة نوم ولا كسل إن أدرك رسالته وعرف مهمته، وتأمل الخطاب الرباني القرآني للمصطفى صلى الله عليه وسلم في أوائل دعوته {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 1- 2]، أي: شمّر عن ساعد العزم وأنذر الناس (1)، إنه النداء العلوي الجليل للأمر العظيم الثقيل، نذارة هذه البشرية وإيقاظها، وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان (2).
إن هذا النداء كان إيذانًا بشحذ العزائم، وتوديعًا لأوقات النوم والراحة، والتلفف بأثواب الهجوع والتلبث.
يقول ابن القيم رحمه الله: إن لم يكن العبد في تقدم فهو في تأخر ولا بد، فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، وإما إلى أمام، وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إما إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ، ومتقدم ومتأخر، وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة المسير، وفي السرعة والبطء، {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [المدثر: 35- 37].
ولم يذكر واقفًا؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار، ولا طريق لسالك غير الدارين البتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة، فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة (3).
فالمسلم لا يقف من الأحداث موقف المتفرج، وإنما يتربى على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وعن الفساد والتسيب والانحراف والظلم، يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
والمسلم لا يقف ساكتًا أمام المنكر، ولكنه يتخذ موقفًا إيجابيًا فعالًا لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110]، ولقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71].
ومن دلائل الإيجابية دعوة الإسلام الحنيف للإصلاح بين الناس وفض المنازعات بينهم، يقول تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
ومن أبرز سمات الإيجابية في الشخصية الإسلامية دعوتها لكي يتحمل صاحبها المسئولية، فلا يقف من الأحداث موقفًا سلبيًا.
فالمسلم مسئول عن نفسه وعن زوجته وأبنائه، وعن مجتمعه ووطنه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» (4).
أهمية الحديث عن إيجابية المرأة:
إن المرأة طاقة عظيمة، وقوة كبيرة في الخير أو في الشر، إن استغلت في الخير أصبحت محضنًا يربي الأجيال ويخرّج الأبطال، فهي مدرسة إيمانية، كما قال حافظ:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
فهي مدرسة إن أُعدت لمهمتها، وإن أهملت إلى تيارات الفساد أصبحت معول هدم للأمة وباب فتنةٍ كبرى ومصيبةٍ عظمى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء» (5).
حاجة الأمة إلى جهود نسائها، وتكاتفها مع الرجال لتكوين الأمة المسلمة القوية، والنساء شقائق للرجال، و{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، فللنساء دور في بناء المجتمع والأسرة لا بد من تفعيله، ليس دور المرأة مقتصرًا على الإرضاع والطبخ، بل هناك دور أهم من ذلك وأعظم وهو تربية النشء ونشر الخير والمشاركة في بناء الأسرة المسلمة المتكاملة.
صور من إيجابية المرأة:
المرأة الإيجابية طالبة للعلم حريصة عليه، ذلك لأنها تعلم أنه حياة القلوب، ورياض العقول، وهو الميزان الذي توزن به الأقوالُ والأعمالُ والأحوال، وهو الحاكم المفرّق بين الغيّ والرشاد، به يُعرف الله ويُعبد، به تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال عن الحرام، وهو إمام والعمل مأموم، وهو قائد والعمل تابع.
فالمرأة الإيجابية حريصةٌ على طلب العلم مجاهدةٌ في الحصول عليه والزيادة منه، تدعو بما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
والمرأة الإيجابية ذات لسان سؤول لا يمنعها حياؤها عن تعلم شيء تجهله، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على نساء الأنصار، أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، فطالما سألن عن الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض والاستحاضة.
عن عائشة، أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض؟ فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها» فقالت أسماء: وكيف تطهر بها؟ فقال: «سبحان الله، تطهرين بها»، فقالت عائشة: كأنها تخفي ذلك تتبعين أثر الدم، وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: «تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء». فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (6).
وهذه عائشة رضي الله عنها كانت تراجع النبي صلى الله عليه وسلم في أمور لم تعرفها، قال ابن أبي مليكة: إن عائشة كانت لا تسمعُ شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ حُوسب عُذِّب»، قالت عائشة فقلت: أو ليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]، فقال: «إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك» (7).
إن كتب التراجم والتاريخ قد حفظت لنا أخبار كثير من النساء الإيجابيات في مجال العلم؛ ومن هؤلاء: معلمة أمير الحفاظ: الحافظ ابن حجر رحمه الله كان إذا ذكر أخته ستّ الركب -اسمُها ستُ الركب- قال: هي أمي بعد أمي، فقد ربته وحدبت عليه وعلمته.
كانت قارئة كاتبة، أعجوبة في الذكاء، أثنى عليها، وذكر شيوخها وإجازاتها من مكة ودمشق وبعلبك ومصر، وقال: تعلمت الخط، وحفظت الكثير من القرآن، وأكثرت من مطالعة الكتب، فمهرت في ذلك جدًا، وكان لها أثر حسن عليه، وقد رثاها بقصيدة عنها موتها.
كما أن الحافظ بن حجر قد تعلم على جماعةٍ من النساء يشار إليهن بالبنان في العلم حتى إن الحافظ رحمه الله قد قرأ على نيف وخمسين امرأة، كلهن شيوخه في العلم؛ فمنهن: فاطمة الدمشقية أم الحسن، وكذلك في مشايخه فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي المقدسية أم يوسف، قال ابن حجر رحمه الله: ونعم الشيخة كانت، وكذلك خديجة بنت إبراهيم وسارة بنت تقي الدين علي السبكي.
وأكثر من الحافظ ابن حجر شيوخًا من النساء الحافظ بن عساكر رحمه الله، فقد ذكر شيوخه من النساء فكنّ بضعًا وثمانين شيخة، وست الركب بالمناسبة ماتت ولم تبلغ الثامنة والعشرين من عمرها، ولكن الإيجابية ترفع صاحبها وتعلي منزلته في الدنيا والآخرة. ويكفيها فخرًا أن من تلاميذها الحافظ ابن حجر رحمه الله.
قال الأستاذ عبد لله عفيفي: وأكثر ما عرف به الممتازات من نساء المغرب الأقصى حفظ القرآن الكريم بقراءاته جميعًا ورواية الحديث ودرس الفقه والأصول وما إلى هذه من علوم الدين، ويذكر أهل ذلك الإقليم ثمانين امرأة من نساء المغرب جمعن إلى النفاذ في ذلك كله حفظ مدونة الإمام مالك بن أنس، وهي أكبر المطولات الجامعة في الحديث والفقه.
وذكر من النسوة اللاتي تخرجن في العلوم الدينية السيدة الشريفة فاطمة الزهراء ابنة السيد محمد بن أحمد الإدريسي، تحفظ القرآن الكريم بقراءاته وتحفظ كثيراً من كتب الفقه والحديث، ولها فوق ذلك صلة وثيقة بالعلوم العصرية، ولم تبارح دار أبيها قط، وتخرجت على أبيها وجدها
المرأة الإيجابية تدرك أن العمل لهذا الدين مسئولية الجميع ذكرهم وأنثاهم؛ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} فلم يخص الحق عز وجل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الرجال دون النساء، وهذا ما تدركه المرأة الإيجابية، ولذلك فهي تستشعر مسئولياتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، سواء في محيط بيتها أو خارجه.
فقد روى الإمام القرطبي ردّ المرأة على عمر في المسجد في قضية المهور، ورجوعه إلى رأيها علنًا، قال القرطبي: وخطب عمر رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية.
فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر، وفي رواية فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر، وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ (8).
ومراجعة عائشة للكثير من الصحابة في فتاويهم واجتهاداتهم واستدراكها على بعضهم هو من الدعوة التي كانت تقوم بها النساء.
وأبواب الدعوة إلى الخير عند المرأة الإيجابية كثيرة يحثها إليها قول الخالق عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
ومن أهم مجالات الدعوة؛ العناية بدعوة زوجها وأولادها إلى الخير، وسعيها لتطهير بيتها من المنكرات وإشاعة الفضائل والمكرمات، وقد كانت بعض نساء السلف يقلن لأزواجهن: اتقوا الله فينا ولا تطعمونا الحرام، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
المرأة الإيجابية ملتزمة بشرع الله، فهو نهج حياتها، فالله مبدؤها، والله غايتها، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162- 163].
إن إيجابية المرأة المسلمة تعني المبادرة إلى التطبيق، والمسارعة في الاستجابة دون تلكؤٍ أو تأخير مهما خالف الأمر رغباتها وأهوائها وما اعتادت عليه.
تروي لنا عائشة رضي الله عنها كيف استقبلت نساء المهاجرين والأنصار أمر الله لهنَّ بالحجاب والذي يتعلق بتغيير شيء هام في حياة المرأة درجن عليه في الجاهلية وفي بداية الإسلام أيضًا.
قالت عائشة وقد اجتمع حولها بعض النساء، فذكرن نساء قريش وفضلهن، فقالت: إن لنساء قريش لفضلًا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقًا لكتاب الله، ولا إيمانًا بالتنزيل.
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] شققن مروطهن فاختمرن بها (9).
هذا هو الموقف من أمر طالما اعتدن عليه، المسارعة إلى التنفيذ، بفعل ما أمر واجتناب ما نهى بلا تردد، ولا توقف ولا انتظار، لم ينتظرن يومًا أو يومين أو أكثر حتى يشترين أو يخِطْنَ أكسية جديدة تلائم غطاء الرؤوس؛ بل سارعن إلى الالتزام، بأي كساء وجد، وأي لون تيسر ما دام فيه طاعة الله والتزامٌ بأمره، فإن لم يوجد الكساء شققن مروطهن وشددنها على رؤوسهن، غير مباليات بمظهرهن الذي يبدو كأن على رؤوس الغربان – كما وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
المرأة الإيجابية ترفض التبعيّة، والتقليد للأفكار والمتعلقات الغربية؛ إذا كانت مخالفة لهدي الإسلام، ترفض التقليد والتبعية لأنها تستظل تحت شجرة مباركة وارفةٍ ظلالها وطيبٍ ثمرها {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]، وتحذر من الانحدار في مستنقع التقليد الأعمى والتشبه بأهل الزيغ والهوى، قائلةً ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (10)، قدوتها عائشة وفاطمة، وليست فنانة ولا مطربة، فهي متميزة في شخصيتها كتميّز دينها الذي تنتمي إليه وتؤمن به، بل وكتميّز الأمة التي هي فرد منها {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].
وهي تسأل الله عز وجل أن يجعلها على هذا الصراط المتميّز الذي هداها الله إليه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم (7)} [الفاتحة: 6- 7]، وهم اليهود ومن أقتفى أثرهم، {وَلَا الضَّآلِّينَ} وهم النصارى ومن اتبع سبيلهم في الضلال.
وهي مع تميّزها واستقلاليتها، لا تعبأ باستهزاء المستهزئين من المضيّعات لدينهن وضعيفات الإيمان والدين، ثابتة على دينها رغم المعوّقات والمخذّلات، ترجو رضى خالق الأرض والسموات همّها رضى الله.
ولتتذكر أن الاستهزاء بأهل الأيمان قديمٌ {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُون (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـؤُلاَءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)} [المطففين: 29- 33]، فلا تبالي المرأة المسلمة باستهزاء السفهاء بها ما دامت طائعةً لربها ملتزمة بشرعه.
المرأة الإيجابية ابنة وقتها؛ لها في كل وقت وظيفة ومن كل خير سهمٌ وغنيمة، تعرف أهمية وقتها، وتدرك مسئولياتها عن عمرها، وأنها مسئولة محاسبة عن أيام حياتها «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (11).
فقد خلق الله كل إنسان وعنده طاقة وموهبة وأودعه من الملكات والمقدرات الشيء الكثير لكن كثير من الناس من يموت ولم يستغل جلّ هذه الطاقات والمواهب، أو استغلها في غير طاعة.
ولذلك فالإيجابية تستغل وقتها بما يقربها إلى خالقها، وتوظف طاقاتها في خدمة دينها ودعوتها، لا تسرف في إضاعة الوقت في فنون الرشاقة والماكياج، وتحذر من مزهقات الأوقات، ومضيعات الساعات.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد لفت نظر أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها في أهمية استثمار الوقت، حتى ولو كان في طاعة باستبدالها بطاعة أعظم منها.
عن جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بُكرةً حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟!» قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحانه الله وبحمده عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (12)، بضع كلمات تساوي أضعاف مضاعفة من أجور التسبيح، إنها والله فُرَصٌ كم تغيب عنا، وكم نحن مقصّرون في استغلالها.
واستثمار الوقت له صوره الكثيرة:
- الاستثمار بأداء الفرائض وهو من أجلّ ما يستثمر به الوقت، ومن أحب الأعمال إلى الله، ثم الإكثار من النوافل، المحافظة على الأوراد.
- الاستثمار الخدمي وتقديم الخدمة لأفراد الأسرة مثل القيام بحق الأهل سواء الأم أم الزوج أو الإخوة والأخوات.
الاستثمار المنزلي: وهي عبادة جليلة؛ كانت أسماء بنت أبي بكر تعلف فرس زوجها الزبير بن العوام رضي الله عنه، وتكفيه مؤونته وتسوسه وتدقّ النوى، وتعجن.
عن علي، أن فاطمة عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن، فبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسبي، فأتته تسأله خادما، فلم توافقه، فذكرت لعائشة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا، وقد دخلنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: «على مكانكما».
حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: «ألا أدلكما على خير مما سألتماه، إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين، فإن ذلك خير لكما مما سألتماه» (13).
وفي هذا جواز أن تشتكي البنت لأبيها ما تلقاه من الشدة والتعب، إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على ابنته فاطمة رضي الله عنها أنها اشتكت، ومن ثم فلو اشتكت البنت لأبيها أو أمها تعبها من أعمال بيتها، أو مشقة وأعباء تربية أطفالها، أو مشكلة في حياتها، فعليهما أن يقوما بدور الناصح الموجه، وأن يواصلا الاعتناء ببنتهما حتى بعد زواجها، فمسئوليتهما عنها لم تنته بتزويجها، وإنما هي مستمرة في التسديد والإصلاح والنصيحة وتخفيف ما يصيبها من أعباء جديدة نتيجة زواجها.
لقد علمت فاطمة رضي الله عنها أنها بنت أفضل النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك رضيت بالقليل، وضُرب بها المثل في زواجها اليسير المهر، القليل المؤنة، وعاشت في بيتها حياة بسيطة متواضعة خشنة، فهي تطحن وتعجن خبزها بيديها، مع إدارة كافة شئون بيتها الأخرى، إضافة إلى حقوق زوجها عليها، وفي ذلك تسلية لكل من اشتدت حاله من تعب أو فقر، أنَّ مَنْ هو أفضل منه -كفاطمة رضي الله عنها- لاقى مثله أو ما هو أشد، فلعل أن يكون في ذلك عبرة ودافعًا له على الصبر والرضا (14).
استثمار المواهب والطاقات: خلق الله كل إنسان وعنده طاقة وموهبة وأودعه من الملكات والمقدرات الشيء الكثير، لكن كثير من الناس من يموت ولم يستغل جلّ هذه الطاقات والمواهب، أو استغلها في غير طاعة.
المرأة الإيجابية لها دور في محاربة أعداء الإسلام وفضح مخططاتهم.
تدرك مخططات أعدائها، فلا تنخدع بالأفكار العلمانية المنحرفة، ولا تنطلي عليها ضلالاتهم المزخرفة، ولا تتأثر بشبهاتهم، ولا تلتفت إلى باطلهم وافتراءاتهم.
ترفض الجاهلية مهما كان رداؤها ومن أي مكان كان مصدرها شرقية أم غربية..
تحذرُ دعواتهم المضللة التي قلبوا فيها القيم وعكسوا المفاهيم وشوّهوا الحقائق؛ كدعوى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، ليصنعوا امرأةً مبتذلةً لشهواتهم وأهوائهم، يحررونها من لباسها وعفتها، ويتحررون هم من قيود العفة والأخلاق في الوصول إليها، فتصبح بين أيديهم في نهارهم وليلهم؛ جارية لعوب وغانية رخيصة في سوق الملذات ودور الأزياء.
ولما كانت الأسرة أكبر معقل تربوي، حرصوا على تقويض أركانه بأنواع من المكر والخداع، كطرحهم لمبدأ الندية وأن المرأة ندٌّ لزوجها ومناوئٌ له ومتصارعٌ معه؛ هذا هو نظرهم.
أما نظرة المسلمة، بل مبدأُ الإسلام فالمرأة شقيقةُ الرجل، والعلاقة بينهم علاقة تكامل وتنسيق وتراحم وسكن «النساء شقائق الرجال» {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}، بكل ما تعني كلمة اللباس في دلالاتها كالوقاية والحماية، والستر واللطف والتجاور والحب والوئام.
هو رجل محتفظ برجولية وهي امرأة متميزة بأنوثتها، هكذا المرأة الإيجابية ترى الأمور بوضوح تام لا غبش فيه ولا لبس..
بل نرى المرأة الإيجابية ترصد هذه الدعوات الهدامة، سواء كانت وافدة أم من بني جلدتها وممن يتكلمون بلسانها من بني قومها الحروف عربية، وأفكارهم غربيةٌ أجنبيةٌ شيطانية.
تتصدى لهم بخنجر العلم والإيمان، مقتدية بأخواتها اللاتي سبقنها بالإيمان، ومنهن أم سليم؛ كما روى الإمام مسلم عن أنس: أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرًا، فكان معها، فرآها أبو طلحة -زوجها- فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الخنجر؟» قالت: اتخذته، إن دنا مني أحد المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك (15).
عوائق الإيجابية وموهناتها:
1- الذنوب والمعاصي؛ إن أثرها عظيم على الإنسان في حجبه عن المعالي، والقعود به عن الأعالي، إنها مجلبةٌ لفتور الهمم ووهن العزائم، بل صارفةٌ عن الخير صادةٌ عنه.
قال بعض السلف: لا نعرف أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، فمن اشتغلت بأعراض الناس صدّها عن الذكر والأوراد، ومن اشتغلت بالغناء صدّها عن التلذذ بكتاب الله والاستئناس به.
2- ضعف الثقة بالنفس؛ «لا أستطيع» كلمة ترددها الكثيرات من النساء عندما تدعوها إلى المعالي، إلى بذل الخير، إلى أن يكون لها أثر في بيتها ومجتمعها.. «لا أستطيع» إذا قيل لها احفظي كتاب الله، قالت لا أستطيع..
3- عدم الاهتمام بالعلم الشرعي؛ أساس العمل العلم فهو قائده وكلما ضعف العلم خَمَل العمل، وهناك بعض الأخوات لا تولي العلم الشرعي اهتمامها، وتظن أنه حكرًا على العلماء، وهذه الشبهة وغيرُها جعلها تقع في بدع كثيرة في عباداتها، فإذا صلّت صلاة فيها العديد من الأخطاء والبدع في الأفعال والأقوال، وإذا تكلّمت وقعت في الكثير من المؤاخذات الشرعية، وإذا وقعت في مشكلة لم تتصرف التصرف الذي يمليه عليها دينها وعقيدتها {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
4- عدم الاهتمام بتطوير المهارات؛ هناك العديد من الأخوات عندهن مواهب وقدرات كبيرة لكنها غير مفعّلة، نظرًا لأنهن لم تتح لهن الفرصة لتطوير هذه المهارات مثل: الخياطة والتأليف والكتابة، وفن محادثة الناس وفن الديكور والطبخ، بل حتى في العمل الإسلامي، هناك ضعف في الإدارة ووضع الخطط عند الداعيات، نظرًا لعدم الاهتمام بتطوير المَلَكات في هذا الجانب.
5- عوائق أسرية؛ قد تواجه المرأة بعض المعوقات من داخل أسرتها فيسيطر عليها الإحباط واليأس.
6- الحياء؛ الكثيرات لا نشك في حبهن لتقديم النفع للآخرين ولكنهن يحجمن عن ذلك بسبب الحياء.
7- الانشغال بالدنيا ومتاعها؛ «تعس عبد الخميلة -أو الخميصة-»، همّها أن يكون فستانها من أجمل الفساتين وأن تجمع أكبر عدد من الحلي والنياشين.
8- الانفصام عن واقع الأمة؛ إن التي لا تستشعر مصاب المسلمين في أصقاع العالم يضمحل في قلبها الشعور بالمسئولية تجاههم وتجاه الأمة جميعًا، «ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (16).
تنمية الإيجابية:
1- الاتصال بالله والاستمساك بعروته؛ فهي القوة الدافعة لكل خير، الصارفة عن كل شر.
2- الاتصال بالوسط الإيماني، كلما كانت المرأة في وسط نسائي صالح، كان ذلك عونًا لها على زيادة الاندفاع إلى عمل الخير والصبر على المعوقات، وقد قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1- 3]، {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُواْ قَوْلِي (28)} [طه: 25- 28].
3- استشعار المسئولية، «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»، أنت مسئولة عن نفسك، عن عمرك عن شبابك عن علمك عن مالك، وما أُصبنا بالسلبية والدعة والسكون واللامبالاة إلا عندما قلّ الشعور بالمسئولية عن نعم الله، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، نعيم العقل، والبصر، والعيش الرغيد، والمسكن الآمن.
4- البعد عن سفاسف الأمور، كلما توسعت المرأة في المباحات ومتع الحياة، ضعفت عن أداء الواجبات، وكلما ركنت إلى السفاسف والنزهات كلما قصّرت في أداء الأمانات والواجبات بل وضيعت المسئوليات التي أنيطت بها (17).
______________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 440).
(2) في ظلال القرآن (6/ 3754).
(3) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 278).
(4) أخرجه البخاري (7138)، ومسلم (1829).
(5) أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740).
(6) أخرجه مسلم (332).
(7) أخرجه البخاري (103).
(8) تفسير القرطبي (5/ 99).
(9) أخرجه البخاري (4758).
(10) أخرجه أبو داود (4031).
(11) أخرجه الترمذي (2417).
(12) أخرجه مسلم (2726).
(13) أخرجه البخاري (3113).
(14) وصية النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة وعلي/ إسلام ويب.
(15) أخرجه مسلم (1809).
(16) أخرجه الطبراني في الأوسط (7473).
(17) المرأة الإيجابية/ طريق الإسلام.