logo

وسائل تماسك الأسرة في الإسلام


بتاريخ : السبت ، 15 صفر ، 1439 الموافق 04 نوفمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
وسائل تماسك الأسرة في الإسلام

الأسرة عماد المجتمع، وقاعدة الحياة الإنسانية، إذا أُسِّست على دعائم راسخة من الدين والخلق والترابط الحميم، فإنها تكون لبنة قوية في بنيان الأمة، أو خلية حية في جسم المجتمع، ومن ثم كان صلاح الأسرة هو السبيل لصلاح الأمة، وكان فسادها أو انحلالها مناط فساد المجتمع أو انهياره.

ولأهمية الأسرة البالغة كان الاهتمام الكبير الذي أَوْلَته التشريعات الإلهية، خاصة الشريعة الإسلامية، فقد قرر الإسلام المبادئ والقواعد التي تؤسَّس عليها الأسرة، والتي تكفل لها حياة فاضلة تقوم على معاني المودة والرحمة والسكن والوئام والسلام، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].

فالزواج نعمة من نعم الله، ومنة من أجلِّ منن الله، جعله الله آية شاهدةً بوحدانيته، دالةً على عظمته وألوهيته، لكنه إنما يكون نعمةً حقيقية إذا ترسَّم كلا الزوجين هدي الكتاب والسنة، وسارا على طريق الشريعة والملّة، عندها تضرب السعادة أطنابها في رحاب ذلك البيت المسلم المبارك، ولكن ما إن يتنكب الزوجان أو يتنكب واحد منهما عن صراط الله حتى تفتح أبواب المشاكل، عندها تَعظُم الخلافات والنزاعات، ويدخل الزوج إلى بيته حزينًا كسيرًا، وتخرج المرأة من بيتها حزينةً أليمةً مهانةً ذليلةً، عندها يعظم الشقاق ويعظم الخلاف والنزاع، فيفرح الأعداء، ويشمت الحسّاد والأعداء، عندها يتفرّق شمل المؤمنين، وتُقَطّع أواصرُ المحبين.

ولكي لا يصل الأمر إلى هذا الخطر وضعت الشريعة الإسلامية وسائل تحافظ على الأسرة، وتحفظ لها كيانها، من ذلك:

1- إشاعة الوعي بإيجابيات الأسرة، وما توفره للشخص من سَكَنٍ ومودةٍ، وطمأنينة إلى عفةِ كلٍ من الزوجين وإخلاصه للآخَر، وما توفره للأولاد من نشأة صحية سليمة.

2- إشاعة الوعي بالمخاطر التي تتهدد الأسرة، وما يُراد لها من تفكك وضياع، عبر وسائل الإعلام الهابطة، ودعاة الفاحشة، ومؤتمرات المرأة التي تدعو إلى الانحلال الخلقي وتفكك الأسرة؛ فإن الإنسان إذا عرف ما وراء تلك التصرفات المُنْحلة، والمقالات والتمثيليات الهابطة، وما وراء تلك المؤتمرات المشبوهة؛ فإنه سيأخذ حذره قبل أن يقع في شِباكها!

3- احترام كل من الزوجين لمشاعر الآخَر واحترام قراباته، وتقدير ظروفه التي يمـر بهـا، وتجنب كـل مـا يجرح المشاعر من الألفاظ والتصرفات.

4- التغاضي عن الهنات والزلات البسيطة، وعدم تضخيم المشكلات: فالناس ليسوا نسخة واحدة في العادات والطباع والفهم، حتى التوائم يوجد بينهم اختلاف، والاختلاف قد يكون محمودًا ويثري الحياة ويزكيها ويجددها؛ إذا كان اختلاف تنوع؛ لأنه يؤدي إلى تجديد الفكر، وتغيير القناعات والأساليب، فليس كل ما عند الفرد صحيح لا يقبل المناقشة، وليس كل ما عند الغير خطأ مرفوض، فإذا وجد العقل والإنصاف تراجع المخطئ عن خطئه، وقَبِل صاحب الحق اعتذار المخطئ، حتى لو لم يعتذر فإن إقلاعه عن الاستمرار في الباطل هو نوع من الاعتذار الضمني، وما ينبغي لأحد الزوجين أن يضخم الأمور ويحملها أكثر مما تستحق، فكل ابن آدم خطاء.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يسمع نساءه يراجعنه، ويرددن عليه في بعض الأمور؛ ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يتغاضى عن تلك التصرفات، حتى عجب عمر من فعلهن، ونهى ابنته عن ذلك، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «كنا معشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم».

قال: «وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، فتغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟، فوالله، إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فانطلقتُ فدخلتُ على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم، فقلت: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم، قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا هي قد هلكت، لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسأليه شيئًا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك»، يريد عائشة(1).

كذلك تغاضى صلى الله عليه وسلم عما فعل نساؤه فيما كان سببًا لنزول سورة التحريم،  ومع ذلك لم يطلِّق نساءه على تلك التصرفات.

5- احترام ميثاق عقد الزواج الذي سماه الله تعالى ميثاقًا غليظًا.

6- البعد عن مراغمة الناس ومراءاتهم في المعاش والنفقة وغيرها، قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، فلكل شخص قدراته وإمكانياته، ولكل شخص طريقته في الحياة، ولكل شخص خصوصياته، وهذا ما أشارت إليه الآية {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7], ولقد كادت مراغمة الناس أن تعصف ببيت النبوة عندما تظاهر نساء الرسول لطلب النفقة؛ حتى نزلت آيات التخيير، وما يتبع ذلك عدم الإرهاق بكثرة الطلبات.

7- وضع الخطوط العريضة للحياة؛ بأن يوضح كل من الزوجين للآخر طريقته في الحياة، وما يحب وما يكره؛ حتى يتجنب كل منهما ما يزعج الآخر، كما فعلت امرأة شريح القاضي, فإنها لَمّا أُهْدِيَت إليه وقام النساء عنها، قال لها: «يا هذه، إن من السنة إذا أُهْدِيَت المرأة إلى زوجها أن تصلي ركعتين خلفه، ويسألا الله البركة»، قال: «فقمتُ أصلي فإذا هي خلفي.

فلما فرغَتْ رَجَعَتْ إلى مكانها، ومددت يدي إليها، فقالت: على رِسْلِك، فقلت: إحداهن ورب الكعبة، فقالت: الحمد لله، وصلى الله على محمد وآله، أما بعد؛ فإني امرأة غريبة، ولا والله، ما ركبت مركبًا أصعب علي من هذا، وأنت رجل لا أعرف أخلاقك، فخبرني بما تحب آتِه، وبما تكره أزدجِر عنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.

فقلت: الحمد لله، وصلى الله على محمد وآله، أما بعد؛ فقد قدمتِ خير مقدَم، قدمت على أهل دار، زوجك سيّد رجالهم، وأنت، إن شاء الله، سيّدة نسائهم، أُحب هذا وأكره هذا، قالت: فحدثني عن أختانك أتحب أن يزوروك؟ قال: قلت: إني رجل قاض، وأكره أن يُمِلُّوني، وأكره أن ينقطعوا عني.

قال: فأقمت معها سنة أنا كل يوم أشد سرورًا مني باليوم الذي مضى، فرجعت يومًا من مجلس القضاء فإذا عجوز تأمر وتنهى في منزلي، فقلت: من هذه يا زينب؟ قالت: هذه ختنك، هذه أمي، قلت: كيف حالك يا هذه؟ قالت: كيف حالك يا أبا أمية؟ وكيف رأيت أهلك؟ قلت: كل الخير، قالت: إن المرأة لا تكون أسوأ خلقًا منها في حالتين: إذا ولدت غلامًا، وإذا حظيت عند زوجها، فإن رابك من أهلك ريبٌ فالسوط السوط.

قلت: أشهد أنها ابنتك، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الأدب، فكانت تجيئني في كل حول مرة، فتوصي بهذه الوصية، ثم تنصرف، فأقمت معها عشرين سنة ما غضبت عليها يومًا ولا ليلة إلا يومًا، وكنت لها ظالمًا»(2).

8- أخذ دورات عن الحياة الزوجية قبل الزواج، لقد كان الرجال والنساء والشباب في السابق أقدر على تحمل المسئولية؛ بسبب الحياة التي كانوا يعيشونها في الرعي والحرث ومعايشة الناس، وقد كانت القبيلة تربي أبناءها على الرجولة والأخلاق الكريمة، وكذلك تفعل النساء مع بناتهن، بينما أكثر شباب اليوم أغرار بعيدون عن مجالس القبيلة؛ بل يهربون منها إلى اللعب في الشوارع؛ فينشأ كثير منهم بلا قِيَم، وكذلك كثير من الفتيات غارقات في مشاهدة التمثيليات والفضائيات التي تنشر أخلاقًا بعيدة عن مجتمعنا المسلم, فيلتقي الزوجان كأنهما تيوس برية، لكل منهم طبع مختلف عن الآخر، وكل منهم يريد فرض نفسه على الآخَر؛ فينتطحان ويفترقان بعد أيام قليلة من العرس، وما ذلك إلا لأن كلًا منهما وجد صاحبه على غير ما كان يتخيله! فيقع الطلاق سريعًا.

ولعل  وصية المرأة الجاهلية لابنتها هو نوع من التهيئة النفسية لما هي مقدمة عليه, حيث قَالَتْ أسماء بنت خارجة الفزاري لابنتها عِنْدَ الزفاف: «يا بنية، إنك خرجت من العش الذي درجت فيه، فصرت إلى فراش لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أرضًا يكن لك سماءً، وكوني له مهادًا يكن لك عمادًا، وكوني له أَمَةً يكن لك عبدًا، لا تلحفي فيقلاك [أي: لا تلحي عَلَيْهِ؛ فيبغضك) ولا تباعدي عنه فينساك، إن دنا منك فاقربي منه، واحفظي أنفه وسمعه وعينه، فلا يشم منك إِلا طيبًا، ولا يسمع إِلا حسنًا، ولا ينظر إِلا جميلًا»(3).

9- اللجوء إلى الاستشارات الأسرية، فقد تتحجر عقول الزوجين عن إيجاد الحلول لمشكلاتهما؛ فلا بأس أن يلجأ الزوجان إلى استشارة أصحاب الخبرة، فقد يجدون عندهم مخرجًا لما هم فيه، ولقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الإشاعات التي نشرها الأفَّاكُون على عائشة رضي الله عنها، وفراقه لها، وكان الصحابة يستشيرون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستشيرون بعضهم بعضًا في أمورهم الأسرية، من ذلك استشارة زيد بن حارثة في طلاق زينب بنت جحش رضي الله عنهما.

10- عدم التسرع بالطلاق أو الخلع لأتفه الأسباب؛ فالطلاق أبغض الحلال إلى الله؛ فما ينبغي اللجوء إليه إلا بعد استنفاد كل الحلول الأخرى.

الظاهر من النصوص الشرعية الميل إلى سد باب الطلاق، وأنه من قبيل الوسائل التي دعت إليها ضرورة دفع مفسدة أكبر، فإذا ثبت من طريق صحيح أن الطلاق في حالة ما لا يقع، وكان المترتب على القول بوقوعه إضرارًا بمصلحة المجتمع، وتفسخ الأسر بانفعالات مؤقتة تؤدي إلى التسرع في الطلاق، فإن حكمة الطلاق تنتفي، وينبغي المصير إلى ما تؤيده الأدلة والمصلحة من حظر الطلاق أصلًا(4).

مع اتفاق العلماء على مشروعية الطلاق إلا أنهم اختلفوا حول الأصل فيه؛ أهو الحظر أم الإباحة، والأثر العملي لهذا الخلاف أنه على اعتبار الحظر هو الأصل فإن الطلاق لا يباح إلا لحاجة؛ بل هو كالكي آخر الدواء، كما يصح تقييده بكل ما يتناسب مع الأصل فيه، وعلى القول بأن الأصل فيه الإباحة فلصاحب الحق فيه أن يوقعه متى شاء وكيف شاء، ولا يتقيد حقه إلا لعارض(5).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة»(6)، ويقول في موضع آخر: «ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه، كما دلت عليه الآثار والأصول؛ ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده؛ لحاجتهم إليه أحيانًا»(7).

إن الحكمة التي من أجلها تقيد إيقاع الطلاق بالزمن ألا تتضرر المرأة بطول عدة الطلاق، وأن يوقع الرجل الطلاق في وقت يكون مظنة للرغبة الحقيقية في المرأة، مع البعد عن اشتباه الأنساب؛ لذلك حرم الطلاق في الحيض لمظنة بغض الرجل زوجته بغضًا طبيعيًا لمنعه من مقاربتها، في الحيض، شرعًا، ورثاثة حالها، وتوترها، بسبب الحيض، وحتى لا تطول عدتها، كما حرم الطلاق في طهر جامعها فيه؛ ليكون ذلك أبعد من اشتباه الأنساب(8).

وغير المدخول بها لا عدة لها، فلا يخشى عليها من إطالة العدة، والصغيرة والآيسة لا تحيضان، فانتفت بالنسبة لهما مظنة البغضة الطبيعية، كما لا خوف معهما من اشتباه الأنساب لانقطاع رجائهما في الحمل، فكان طلاقهما مشروعًا في كل حال.

إن الظاهر من النصوص الشرعية الميل إلى سد باب الطلاق، وأنه من قبيل الوسائل التي دعت إليها ضرورة دفع مفسدة أكبر، فإذا ثبت من طريق صحيح أن الطلاق في حالة ما لا يقع، وكان المترتب على القول بوقوعه إضرارًا بمصلحة المجتمع، وتفسخ الأسر بانفعالات مؤقتة تؤدي إلى التسرع في الطلاق، فإن حكمة الطلاق تنتفي، وينبغي المصير إلى ما تؤيده الأدلة والمصلحة من حظر الطلاق أصلًا(9).

***

_____________________

(1) أخرجه مسلم (1479).

(2) مختصر تاريخ دمشق (10/ 302).

(3) موارد الظمآن لدروس الزمان، لعبد العزيز السلمان (4/ 265-266).

(4) الطلاق الانفرادي.. تدابير الحد منه، ص95.

(5) الطلاق الانفرادي، ص33.

(6) مجموع الفتاوى (3/ 16).

(7) المصدر السابق (3/ 62).

(8) بدائع الصنائع (3/ 88).

(9) الطلاق الانفرادي، ص95.