أطفالنا والتربية الجنسية
يتعامل الإسلام مع الغريزة الجنسية على أنها أمر فطري، لذا ينبغي أن توجه التوجيه الصحيح؛ بحيث لا تتحول هذه الغريزة إلى داء أو بلاء على صاحبها أو على المجتمع من حوله، فالغريزة الجنسية ينبغي ألا تكبت، وفي نفس الوقت ألا تصرف في غير مسارها الطبيعي الذي يحفظ على النفس صحتها ويحفظ عليها دينها، ويحفظ على المجتمع الهدف والغاية التي من أجلها أوجد الله هذه الغريزة في النفس البشرية.
ويجب على الآباء والأمهات أن يتفهموا أبناءهم، وأن يجعلوا الصلة التي تربطهم بالبيت أقوى وأشد من الصلة التي تربطهم بالمجتمع خارج البيت، ويجب أن تكون صلة المودة والمحاورة الهادئة الهادفة بين الولد وأبيه، وبين البنت وأمها؛ كافية للمكاشفة التي يمكن من خلالها الحديث في مسائل الجنس بكل أريحية وثقة متبادلة، حتى لا يلجأ الابن إلى أي شخص من هذا المجتمع الخارجي، الذي لا يميز بين الصحيح والفاسد، وبين الخطأ والصواب، وربما وقع الابن بين براثن المفسدين، فأفسدوا أخلاقه ونكسوا فطرته.
فلا مفر إذًا من التحاور مع الأبناء والحديث معهم عن التربية الجنسية الصحيحة، التي لا يجرمها الإسلام ولكن يهذبها، فحديث المرأة مع ابنتها عن أحكام الحيض وكيفية التطهر منه ليس حرامًا، بل هو واجب شرعي وضرورة من أهم الضروريات، وكذلك حديث الرجل مع ابنه عن كيفية الاستحداد ونتف الإبط وغسل الجنابة من أهم الأمور التي يجب على الوالدين أن يراعياها في التعامل مع مثل هذه الأمور، مع ضبط ردة الفعل إذا وقع الأبناء في أحد الأخطاء تلك.
المراد بالتربية الجنسية:
إمداد الفرد بالمعلومات العلمية، والخبرات الصحيحة، والاتجاهات السليمة، إزاء المسائل الجنسية، بقدر ما يسمح به النمو الجسمي الفسيولوجي والعقلي الانفعالي والاجتماعي، وفي إطار التعاليم الدينية والمعايير الاجتِماعية والقيم الأخلاقية السائدة في المجتمع؛ مما يؤدي إلى حسن توافقه في المواقف الجنسية، ومواجهة مشكلاته الجنسية مواجهة واقعية، تؤدي إلى الصحة النفسية.
فالتربية الجنسية بِهذا المعنى لا يقصد بها تعليم الجنس؛ بل توجيه كلا الجِنْسَين من منظور ديني وأخلاقي نحوَ المسائل الجنسية، والتغيرات الجسمية التي يتفاجأ بها أبناؤها على حين غفلة، والابتعاد عن التعلم الاعتباطي الكيْفي عن طريق أحد أصدِقاء السّوء، أو عن طريق التجارب الخاطِئة التي يقع فيها أولادنا عندما نبتعِد عنهم (1).
مقاصد التربية الجنسية في الإسلام:
1- التعريف بالظاهرة الجنسية وخطورتها: لم يترك الإسلام المنتسبين إليه دون توعيتهم بأهمية الظاهرة الجنسية وبخطورتها، في أزمنة كانت البشرية تعاني من التكتم الشديد على التربية الجنسية.
ومن الأمثلة التمثيلية، ما قصه الله تعالى عن قصة يوسف عليه السلام، من افتتان امرأة العزيز (أي: زليخا) بجمال ابن يعقوب، ومراودتها له، يقول الله سبحانه: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23].
حتى لحظات الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة- في حدود المنهج النظيف اللائق «بالإنسان» في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها- ولكن استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف لم يكن معناه الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري وكما لو كانت هي محور حياته كلها، وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها! كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن هذا وحده هو الفن الصادق!
إن الجاهلية إنما تمسخ الكائن البشري باسم الصدق الفني! وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها فتنشئ منها مستنقعًا واسعًا عميقًا، مزينًا في الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية! وهي لا تفعل هذا لأن هذا هو الواقع، ولا لأنها هي مخلصة في تصوير هذا الواقع! إنما تفعله لأن «بروتوكولات صهيون» تريد هذا! تريد تجريد «الإنسان» إلا من حيوانيته حتى لا يوصم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون من كل القيم غير المادية! وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر فيه كل اهتماماتها، وتستغرق فيه كل طاقاتها فهذه هي أضمن سبيل لتدمير البشرية حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون (2).
2- حفظ الأعراض والسلامة من الأمراض: لقد قامت الشريعة الإسلامية على مقاصد متنوعة، يأتي حفظ الأعراض وسلامة الأبدان من الأوبئة والأمراض من أبرزها، يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 23]؛ فقد قال العلماء: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى (3).
في النهي أبلغ وآكد من ولا تزنوا؛ لأنه بمعنى ولا تدنوا من الزنا، وأفاد هذا تحريم الزنا، وتحريم الدنو منه، لا بالقلب ولا بالجوارح، فقد جاء في الصحيح:
«كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان زناهما البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» (4)؛ فزنا هذه الجوارح دنو من الزنا الحقيقي، ومؤد إليه.
وقد حمى الشرع الشريف العباد من هذه الفاحشة بما فرض من الحجاب الشرعي، وهو ستر الحرة ما عدا وجهها وكفيها وجميع ثيابها عند الخروج بالتجلبب، وبما حرم من تطيب المرأة، وقعقعة حليها عند الخروج، وخلوتها بالأجنبي، واختلاط النساء بالرجال.
فتضافر النهي والتشريع على إبعاد الخلق عن هذه الرذيلة، والمسلم المسلم، من تحرى مقتضى هذا النهي، وهذا التشريع في الترك والابتعاد (5).
على أن هذا الموقف الصارم للإسلام من العلاقات الجنسية المحرمة إنما جاء لمقاصد متنوعة؛ بالنظر إلى أن الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد: أولها: اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره، فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم (6).
3- سلامة المجتمع وبقاء العمران؛ وذلك أن تربية الإنسان على التربية الجنسية السليمة يؤثر إيجابيًا على الاندماج الاجتماعي، بما يسمح توعية الشباب بأن الوسيلة الوحيدة المقبولة شرعًا لإشباع الحاجيات الجنسية، هو الزواج الشرعي.
وهو طريق منهجي يفضي إلى شيوع ظاهرة الزواج في المجتمع، وإنشاء أسر مستقرة، وبناء علاقات زوجية شرعية مفضية إلى روابط مصاهرات وتعارف بين الأسر والعائلات، فضلًا عن الابتعاد عن كثير من الجرائم الخطيرة وخاصة جرائم الشرف، والتي تكون اللذة سببها الأساسي.
وبيان ذلك يظهر من خلال أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل، وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة، وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا (7).
أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة، وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت؛ وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب.
أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة؛ بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس، وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب، وأن تكون قائمة بأمور الأولاد، وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية (8).
متى تبدأ التربية الجنسية؟
مراحل هذه التربية والتدرج فيها:
وقد ذهب البعض مذهبًا بعيدًا في التربية الجنسية بِحيث اعتبروها تبدأ منذ الولادة -اعتِقادًا منهم أن لهم قصب السبق في ذلك- غير أن الحقيقة التي تقض مضاجعهم أن الإسلام هو السباق إلى ذلك؛ إذِ اعتنى بالطفل منذ الولادة فجعل خِتانه من خصال الفِطْرة، ومن سُنن الهدي النبوي، بل الغريب في ذلك أن الغرب توصل إلى أهمية الختان في مقاومة الأمراض والتعفنات التي يمكن أن تصيب الرجل والمرأة على حد سواء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب وتقليم الأظافر، ونتْف الإبط» (9).
المرحلة الأولى: ما بين سن (7 - 10 سنوات) وهي مرحلة ابتدائية، وذلك بتعليم الصِّبيان ومَن هم قبل البلوغ الأحْكام -خاصة العملية- وتدريبهم عليها، سواء الصلاة والوضوء لها، ونواقِض الوضوء وأحكام الطهارة، وكذلِك الصوم ... إلخ، طبعًا الطهارة والوضوء يترتب عليْه بيان نواقضِه، ووسائل رفع الحدث.
ثم التفريق في المضاجع؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وفرقوا بيْنهم في المضاجِع» (10).
ويتعلم فيها الأبناء آداب الاستئذان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58].
وغض البصر وبِحيث يحرم النظر إلى غير المحارم، في قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]، فإذا وجد الطِّفل البيئة الصَّالحة التي تعامله منذ ولادَتِه معاملة صحيحة، فإنه ينمو صحيحًا، أما إذا شب الطفل في أسرة لا تسمح بالنموّ الجنسي السليم، فإن المشكلات الجنسية تبدأ في الظهور وتتراكم حتى تعبر عن نفسها في مرحلة المراهقة، وتظهر الانحرافات الجنسية.
المرحلة الثانية: ما بين سنّ (10 - 18) يتمّ استِحْضار المقدمات السابقة بشكل دائم، وشرح ما يطرأ على المراهق والمراهقة من تغيرات فسيولوجية، وفي هذه المرْحلة لا بد من تضافُر مجهودات الآباء والمدرسين في توصيل المعلومات الصحيحة إلى الابْن المراهق، وفكّ كل لغز محير لديه وبضوابط شرعية صحيحة، ههنا يكون من الأجدى وضع مادة دراسية في هذه المرحلة لتبْصير الطالب، وتَحذيره في الآن نفسه من مغبة اتباع مسلكيات مخالفة للشرع الحنيف، من قبيل ما نهى عنْه الله عز وجل الاقتِراب من الزنا في قوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
إذًا؛ فالتربية الإسلامية للمُراهقين فيما يتعلق بقضية الشهوة الجنسية هي سد كل الذرائع التي تهيج الشهوة في غير محلها، فتصيب الشاب والشابة باضطراب وآلام نفسية وصرْف هذه الطاقة إلى أهداف أُخْرى، والتسامي على ذلك إلى حينه، وعند توفر الظروف المناسبة نشجعهم على الزواج، وأضِف إلى ذلك: على المراهق أن يتذكر دائمًا أن له محارم يَجب أن يراعيَ الله فيهم؛ وفقًا لما جاء في الحديث النبوي الشريف، عن أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه، مه، فقال: «ادنه، فدنا منه قريبًا»، قال: فجلس قال: «أتحبه لأمك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتحبه لابنتك؟» قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لأختك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمتك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه» فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (11).
وتنمية العفة والطهارة لدى الفرْد؛ {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33].
المرحلة الثالثة: 18 سنة فما فوق، هُنا يظهر دوْر الآباء العُلماء الوعاظ في شرْح معنى الزَّواج والعلاقات الجنسية بصفة شمولية؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قالَ: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت قال: «وما أهلكك»؟ قال: حولت رحلي الليلة، قال: فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، قال: فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، «أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة» (12)، إلى آخر هذه العبارات المغلَّفة بغلاف الأدب والوقار.
وبيان حاجة الكوْن إليه للحفاظ على النسل، وواجبات الزوج نحو زوْجته، وواجبات الزوجة نحو زوجها، ولا ننسَى دَوْر الأطباء في القيام بالدورات التحسيسية في المجال الصحي العلمي للحد من خطورة الأمراض الناجمة عن العلاقات الجنسية في إطار الزواج وخارجه.
إذًا؛ المقصود من التربية الجنسية هو تعليم الولد أو البنت وتوْعية كل منهما ومصارحته، منذ أن يعقِل بالقضايا التي تتعلق بالجنس، وترتبِط بالغريزة، وتتصل بالزواج، حتى إذا شب الولد، وتفهم أمور الحياة، عرف ما يحل وما يحرم، وأصبح السلوك الإسلامي المتميز خلقًا له وعادة، فلا يجري وراء الشهوة، ولا يتخبط في طريق تحلل، وتلك مسؤولية الآباء والأمهات ووسائل التنشئة الاجتِماعية، فالأب يتكلم مع ابنه، والأم مع ابنتها، ومؤسسات التنشئة توفر جوًّا من الطهر والعفاف، ينشأ فيه الجيل المسلم بعيدًا عن مثيرات التشويش والإثارة، وقد صـرح الشرع بهذه المسؤولية لمؤسسة الأسرة والدولة وسائر أفراد المجتمع المدني؛ فعَنِ ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن أهله، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته» (13).
فالإسلام يعطي توجيهات عملية مفيدة في جَميع شؤون الحياة بما في ذلك العلاقات الجنسية البشرية؛ فالزواج هو القناة الوحيدة التي يسمح فيها بالعلاقة الجنسية بين الجنسين، ووصف الزوجين وشبه كلًا منهما بأنه لباس للآخر؛ يقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187].
والعلاقات الجنسية محرمة تَمامًا خارج إطار عقد الزوجية، وتستوجب عقوبة دنيوية وعقوبة أخروية.
وبذلك تنص الشريعة الإسلامية على عقوبات شديدة ضد جرائم الجنس؛ كالزنا واللواط، والاغتصاب والشذوذ؛ لإيجاد المجتمع الآمِن والسليم الخالي من الأمراض؛ يقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2].
الأسس والضوابط الشرعية للتربية الجنسية:
لقد وضع الإسلام أسسًا وضوابط لصيانة الفرد والمجتمع على حد سواء، وسن الأحكام التي تبعد المرء عن الانحراف، فحرم الاختلاط، وفرض الحجاب، ودعا إلى غض البصر، ومن هذه الضوابط:
1- الوسطية منهج إسلامي رشيد: ولذلك، سعى الإسلام إلى الجمع بين طرفي هذه الثنائية (التوعية بالقضايا الجنسية، في مقابل المحافظة على الحياء المحمود) جمعًا لا تضاد فيه، من حيث توعية المسلمين بأهمية البعد التربوي للقضية الجنسية من جهة، وكذا البعد عن مسار التميع ونشر الفاحشة بين المسلمين؛ ومن ذلك، ما قصه الله تعالى في كتابه من مواضيع جنسية هامة؛ كالحيض، وبيان تحريم العلاقات الجنسية أثناء فترته، مع تعليل هذا الحكم الشرعي ببيان أضراره، وهو حكم بالنهي دائر مع علته وجودًا وعدمًا، مع التأكيد على أن خصوصية العلاقات الجنسية بين الزوجين، ببيان وضعيات الجماع المشروعة، مع التأكيد على أن ذلك من جملة القربات والطاعات الشرعية.
ولذلك يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} الآيتان [البقرة: 222– 223].
مواضع حرث، وهذا مجاز شبهن بمواضع الحرث لما يلقى في أرحامهن من النطف التي يكون منها النسل كالبذر الذي يلقى في الأرض فيكون منه الزرع.
إن المباشرة في تلك العلاقة وسيلة لا غاية، وسيلة لتحقيق هدف أعمق في طبيعة الحياة، هدف النسل وامتداد الحياة، ووصلها كلها بعد ذلك بالله، والمباشرة في المحيض قد تحقق اللذة الحيوانية- مع ما ينشأ عنها من أذى ومن أضرار صحية مؤكدة للرجل والمرأة سواء- ولكنها لا تحقق الهدف الأسمى، فضلًا على انصراف الفطرة السليمة النظيفة عنها في تلك الفترة؛ لأن الفطرة السليمة يحكمها من الداخل ذات القانون الذي يحكم الحياة، فتنصرف بطبعها- وفق هذا القانون- عن المباشرة في حالة ليس من الممكن أن يصح فيها غرس، ولا أن تنبت منها حياة، والمباشرة في الطهر تحقق اللذة الطبيعية، وتحقق معها الغاية الفطرية، ومن ثم جاء ذلك النهي {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.
وليست المسألة بعد ذلك فوضى، ولا وفق الأهواء والانحرافات، إنما هي مقيدة بأمر الله فهي وظيفة ناشئة عن أمر وتكليف، مقيدة بكيفية وحدود: {فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}، في منبت الإخصاب دون سواه، فليس الهدف هو مطلق الشهوة، إنما الغرض هو امتداد الحياة، وابتغاء ما كتب الله، فالله يكتب الحلال ويفرضه، والمسلم يبتغي هذا الحلال الذي كتبه له ربه، ولا ينشئ هو نفسه ما يبتغيه، والله يفرض ما يفرض ليطهر عباده، ويحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (14).
وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب، وإلى أهدافها واتجاهاتها.
نعم! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه، وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع، كقوله تعالى: {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ}، وقوله: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فكل من هذه التعبيرات يصور جانبًا من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب، أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث، لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء، وما دام حرثًا فأتوه بالطريقة التي تشاءون، ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}.
وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى فيكون عملًا صالحًا تقدمونه لأنفسكم، واستيقنوا من لقاء الله، الذي يجزيكم بما قدمتم: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} (15).
2- الحياء المحمود منهج شرعي للتربية الجنسية: إن مما اختص به الإسلام إثارته لقضايا جنسية في غاية الدقة والحساسية، لكن بمنهج ينفي عنه التميع السافر الفاضح، كما يسلب منه مظاهر التكتم المقيت، ولذلك، فلا غرابة أن يتناول القرآن الكريم قضايا من التربية الجنسية ذات حساسة كبرى، ما سبقت الإشارة إليه، كالحيض وتحريم الوطء فيه، وإباحته بعده، ووصف حال دعوة زليخا ليوسف عليه السلام للفاحشة.
على أن هذا الحياء المحمود مؤسس على مشروعية مناقشة وتدارس القضايا الجنسية، لكن بأسلوب لا يكشف العورات، ولا تثير الغرائز، ولا يهيج اللذات، عن طريق التوسل بالكناية، كما في الأمثلة السابقة، وغيرها في القرآن والسنة كثير (16).
إن العري فطرة حيوانية، ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان، وإن رؤية العري جمالًا هو انتكاس في الذوق البشري قطعًا، والمتخلفون في أواسط إفريقية عراة، والإسلام حين يدخل بحضارته إلى هذه المناطق يكون أول مظاهر الحضارة اكتساء العراة! فأما في الجاهلية الحديثة «التقدمية» فهم يرتكسون إلى الوهدة التي ينتشل الإسلام المتخلفين منها، وينقلهم إلى مستوى «الحضارة» بمفهومها الإسلامي الذي يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها وتقويتها.
والعري النفسي من الحياء والتقوى- وهو ما تجتهد فيه الأصوات والأقلام وجميع أجهزة التوجيه والإعلام- هو النكسة والردة إلى الجاهلية، وليس هو التقدم والتحضر كما تريد هذه الأجهزة الشيطانية المدربة الموجهة أن توسوس، وقصة النشأة الإنسانية في القرآن توحي بهذه القيم والموازين الأصيلة وتبينها خير بيان (17).
3- ضبط الوسائل الحديثة: فالقنوات الفضائية والإنترنت، أو شبكة المعلومات العالمية، أحدث وسائل الاتصال التي دخلت على الأسرة في الفترة الأخيرة، وهي وإن كان لها إيجابيات عديدة، إلا أن سلبياتها طغت على إيجابياتها؛ من خلال عدم حسن تعامل أفراد الأسرة مع هذه الخدمة، خصوصًا كثيرًا من الأزواج والأبناء، حيث ظهر ما عُرِف بإدمان الإنترنت، حيث يقضي الكثير منهم جل وقته بعد العمل أو المدرسة أمام جهاز الحاسب، مُبحِرًا في عوالم هذه الشبكة.
بل الخطير أن تحولت إلى نافذة من النوافذ التي فتحت عيون المسلمين وعيون أبنائهم على طوفان الفساد والإفساد، والإباحية في الأفلام الداعرة، والعلاقات الآثمة والإثارة الرخيصة، وقد عمت هذه البلوى وطمت وانتشرت، وبها أصبح ما يسمونه باسم "فنّ التمثيل" أداة ووسيلة لنشْر الفسق والفجور، وإشاعة الفحش والتفحش، تربية للأجيال المسلِمة على معاني الأسوة السيئة المتمثلة في الممثلين والممثلات، الذين يقودون الأمة والنشء -وبإصرار واجتهاد- إلى الهلاك (18).
4- البعد عن وسائل الإثارة: على الوالدين والقائمين على تربية المراهقين تجنيبهم كل ما يؤدي إلى الإثارة، ومن ذلك مراقبتهم عند استعمال شبكة الإنترنت والفضائيات، وتوجيههم إلى قراءة كل مادة معرفية ترشدهم إلى ما هو أصوب، خاصة الاشتغال بكتاب الله ومدارسة العلوم الدنيوية النافعة للأمة، بدل الإغراق في قراءة القصص الخليعة، والأفلام الخارجة عن حدود الأدب، والمجلات التي تنشر الصّور المثيرة في النوادي والشواطئ تَحت اسم التمدن والتحضر والحداثة والانفتاح.
5- لبس الحجاب بالنسبة للفتيات: فهو صون للفتاة من الأذية والتحرش الجنسي، ووقاية للشاب من الفتنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» (19).
6- منع الخلوة والاختلاط بين الرجل والمرأة: ولقد حرم الإسلام الدخول على النساء غير المحارم؛ لسد الذرائع والفتنة ونزغات الشيطان؛ فعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون أحدكم بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما» (20).
7- غض البصر: هو أدب نفسي رفيع، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتِن، كما أن فيه إغلاقًا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية، ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم (21).
فقد جاء عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، مَن تركه مخافتي، أبدلتُه إيمانًا يَجد حلاوتَه في قلبه» (22).
ولله در الشاعر إذ يقول:
كل الحوادث مبداهـا مـن النظر ومعظم الـنار من مستصغر الـشرر
8- الزواج المبكر: وهنا يظهر -بشكل كبير- دور الأسرة والدولة في تحصين الشباب، وللأسف فالإحصاءات تشير إلى عزوف وتأخر في نسب الزواج في بعض البلدان العربية بشكل غير مرغوب فيه، والزواج المبكر هو أحسن وسيلة للتخلص من الفاحشة لِمن تيسرت له سبل الزواج؛ تحقيقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» (23).
من الآداب الأخرى: التقيد بآداب الإسلام، الابتعاد والتورع عن الوقوع فيما حرم الله، والموفق من وفقه الله (24).
-----------
(1) التربية الجنسية في الإسلام: قواعد وضوابط/ شبكة الألوكة.
(2) في ظلال القرآن (4/ 1959).
(3) الجامع لأحكام القرآن (10/ 253).
(4) أخرجه مسلم (2657).
(5) تفسير ابن باديس (ص: 91).
(6) مفاتيح الغيب (20/ 332).
(7) المصدر السابق.
(8) المصدر السابق نفسه.
(9) أخرجه البخاري (5889)، ومسلم (257).
(10) أخرجه أبو داود (495).
(11) أخرجه أحمد (22211).
(12) أخرجه الترمذي (2980).
(13) أخرجه ابن حبان (4490).
(14) في ظلال القرآن (1/ 241).
(15) في ظلال القرآن (1/ 242).
(16) التربية الجنسية في الإسلام: مقاصد وضوابط/ إسلام أون لاين.
(17) في ظلال القرآن (3/ 1276).
(18) تحفة العروس (ص: 206)، بتصرف يسير.
(19) أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740).
(20) أخرجه أحمد (114).
(21) في ظلال القرآن (2/ 25).
(22) أخرجه الطبراني (10362).
(23) أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400).
(24) التربية الجنسية في الإسلام: قواعد وضوابط/ شبكة الألوكة.