وبالوالدين إحسانًا
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء:23-24].
في هذه الآيات الكريمات أمر الله تعالى عباده بالإحسان إلى الوالدين، بعد الحث على التمسك بتوحيده؛ فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق.
إن الأسرة قوام المجتمع، يقوم عليها بناؤه، فلا يمكن أن يتكون مجتمع فاضل إلا من أسر قوية، متماسكة برباط المودة والمحبة والإحسان، الذي هو غاية المحبة، وإن أولى رباط في الأسرة هو رباط الولد بأبويه بالإحسان إليهما؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بعبادة الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، والإحسان زيادة في المعاملة عن المعاملة بالمثل أو بالعدل، وإنه زيادة عن العدل؛ بل فيه المحبة والرحمة؛ ولذا يقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، والإحسان أصله مصدر أحسن، وهو الإتقان والإجادة، وبلوغ أقصى الغاية في الإجادة، فالإحسان في العبادة أن تبلغ أقصى درجات التجرد لله تعالى بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى الأبوين أن تبلغ أقصى درجات الوفاء لهما في البر والمكافأة، وأن تزيد في المعاملة الحسنة، عما كان يكون منهما، احتياطًا للرعاية والشفقة(1).
الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما، وترك السلطنة عليهما.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شيء، حتى بالذات، وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية، إن أمهلهما الأجل، وهما مع ذلك سعيدان! فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام، إلى الزوجات والذرية، وهكذا تندفع الحياة.
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء، إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف! وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله، يحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله.
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال، وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما} والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه، وكلمة {عِنْدَكَ} تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف، {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما} وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب؛ ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب.
{وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا} وهي مرتبة أعلى إيجابية؛ أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام، {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، وهنا يشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان، فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينًا، ولا يرفض أمرًا، وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانًا بالسلام والاستسلام {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا} فهي الذكرى الحانية، ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان، وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما، فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب، وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء(2).
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»، قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قال ابن مسعود: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني(3).
عن أنس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: «آمين آمين آمين»، فقالوا: يا رسول الله، علام أمنت؟ قال: «أتاني جبريل فقال: يا محمد، رغم أنف امرئ ذُكِرتَ عنده فلم يصل عليك، فقل: آمين، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين»(4).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة»(5).
قيد بالكبر مع أن خدمة الأبوين ينبغي المحافظة عليها في كل زمن؛ لشدة احتياجهما إلى البر والخدمة في تلك الحالة، «فلم يدخلاه الجنة» لعقوقه لهما، وتقصيره في حقهما، وهو إسناد مجازي؛ يعني ذل وخسر من أدرك أبويه أو أحدهما في كبر السن ولم يسع في تحصيل مآربه والقيام بخدمته، فيستوجب الجنة، جعل دخول الجنة بما يلابس الأبوين وما هو بسببهما بمنزلة ما هو بفعلهما ومسبب عنهما، وتعظيمهما مستلزم لتعظيم الله، ولذلك قرن تعالى الإحسان إليهما وبرهما بتوحيده وعبادته، فمن لم يغتنم الإحسان إليهما، سيما حال كبرهما، فجدير بأن يهان ويحقر شأنه(6).
عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك»، قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك»، قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك»(7)، فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط، وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.
عن أبي بردة قال: سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره، يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: «يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟»، قال: «لا، ولا بزفرة واحدة»(8).
قال الرازي: «إنما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه:
أحدها: أن نعمة الله تعالى على العبد أعظم، فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم؛ وذلك لأن الوالدين هما الأصل والسبب في كون الولد ووجوده، كما أنهما منعمان عليه بالتربية، وأما غير الوالدين فلا يصدر عنه الإنعام بأصل الوجود؛ بل بالتربية فقط، فثبت أن إنعامهما أعظم وجوه الإنعام بعد إنعام الله تعالى.
وثانيها: أن الله سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة، والوالدان هما المؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر، فلما ذكر المؤثر الحقيقي أردفه بالمؤثر بحسب العرف الظاهر.
وثالثها: أن الله تعالى لا يطلب بإنعامه على العبد عوضًا البتة؛ بل المقصود إنما هو محض الإنعام والوالدان كذلك، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضًا ماليًا ولا ثوابًا، فإن من ينكر الميعاد يحسن إلى ولده ويربيه، فمن هذا الوجه أشبه إنعامهما إنعام الله تعالى.
الرابع: أن الله تعالى لا يمل من الإنعام على العبد ولو أتى العبد بأعظم الجرائم، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه وروادف كرمه، وكذا الوالدان؛ لا يملان الولد، ولا يقطعان عنه مواد منحهما وكرمهما، وإن كان الولد مسيئًا إلى الوالدين.
الخامس: كما أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح وطلب الزيادة، ويصونه عن البخس والنقصان، فكذا الحق سبحانه وتعالى متصرف في طاعة العبد فيصونها عن الضياع، ثم إنه سبحانه يجعل أعماله التي لا تبقى كالشيء الباقي أبد الآباد، كما قال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261].
السادس: أن نعمة الله وإن كانت أعظم من نعمة الوالدين؛ ولكن نعمة الله معلومة بالاستدلال، ونعمة الوالدين معلومة بالضرورة، إلا أنها قليلة بالنسبة إلى نعم الله فَاعْتَدَلَا من هذه الجهة والرجحان لنعم الله، فلا جرم جعلنا نعم الوالدين كالتالية لنعم الله تعالى(9).
وقوله في هذه الآية: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} غير مقيد بكونهما مؤمنين أم لا، ولأنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف مشعر بعلية الوصف، فدلت هذه الآية على أن الأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين وذلك يقتضي العموم، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
وقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} الآية، وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما، ثم إنه تعالى قال في آخر الآية: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، فصرح ببيان السبب في وجوب هذا التعظيم.
حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه كيف تلطف في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، ثم إن أباه كان يؤذيه ويذكر الجواب الغليظ وهو عليه السلام كان يتحمل ذلك، وإذا ثبت ذلك في حق إبراهيم عليه السلام ثبت مثله في حق هذه الأمة، لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123].
واعلم أن الإحسان إليهما هو ألا يؤذيهما البتة، ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه، فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين، وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين(10).
فأمر بالإحسان إلى الوالدين، وحذف المعمول، ليعم جميع أنواع الإحسان بالأقوال والأفعال، والبدن والمال، ثم أكد على أهمية ذلك في حال كبرهما، لأنهما حينذاك أحوج إلى البر والإحسان، واللطف والرفق، والاحترام والتوقير، ثم نهى عن إساءة الأدب معهما، وإظهار التبرم والتأفف لهما، فضلًا عن رفع الصوت عليهما، أو سبهما وشتمهما، أو احتقارهما والتعالي عليهما، فقال سبحانه: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}؛ أي: لا تؤذهما أدنى أذية، ولا يصدر منك أدنى شيء يدل على التضجر منهما أو الاستثقال لهما، ووطن نفسك على احتمال ما قد يصدر عنهما من جهل أو خطأ، ثم قال: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}؛ أي: لا ترفع صوتك عليهما، ولا تكلمهما ضجِرًا صائحًا في وجهيهما، ولا تنظر إليهما شزرًا وتُحد الطرف إليهما، ولا تنفض يدك عليهما زاجرًا لهما ومعترضًا عليهما.
ولما نهى عن القول القبيح والفعل القبيح أمر بمعاملتهما بالحسنى قولًا وفعلًا، فقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}؛ أي: لينًا طيبًا لطيفًا، بتأدب واحترام وإكرام، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان.
ثم قال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}؛ أي: تواضع لهما بفعلك، رحمةً بهما، وتذللًا لهما، وعرفانًا بفضلهما، وعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده، فتطيعهما في المعروف، وتجيب دعوتهما، وتخدمهما وتقضي حاجاتهما، وتغض الطرف عن أخطائهما، وتحرص على كل ما يسعدهما ويريحهما، وتبتعد عن كل ما يؤذيهما ويسخطهما(11).
رأى أبو هريرة رضي الله عنه رجلًا يمشي خلف رجل، فقال: من هذا؟ قال: أبي، قال: لا تدعُه باسمه، ولا تجلس قبله، ولا تمش أمامه(12).
الإنفاق على الوالدين:
من حق الوالدين على ولدهما أن ينفق عليهما إذا احتاجا إلى النفقة وهو قادر غني، فمن أعظم برهما، وأفضل شكرهما، وأحسن الإحسان إليهما الإنفاق عليهما عند حاجتهما.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه»، وزاد في رواية أبي داود والحاكم: «فكلوا من أموالهم»، وفي رواية للنسائي: «إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم»(13).
قال الكاساني: «والحديث حجة بأوله وآخره، أما بآخره فظاهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أطلق للأب الأكل من كسب ولده إذا احتاج إليه، مطلقًا عن شرط الإذن والعوض، فوجب القول به.
وأما بأوله فلأن معنى قوله: «وإن ولده من كسبه»؛ أي: كسب ولده من كسبه؛ لأنه جعل كسب الرجل أطيب المأكول، والمأكول كسبه لا نفسه، وإذا كان كسب ولده كسبَه، كانت نفقته فيه»(14).
قال ابن قدامة: «حكى ابن المنذر قال: أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد»(15).
فالإنسان بعض والده، فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله فكذلك على أصله، ولأن إنفاقه على والده مجازاة له على بعض إحسانه إليه في صغره من تربيته وإعداده، وبره والعطف عليه، فكان إنفاقه عليه عند حاجته واجبًا؛ لأنه من باب شكر النعمة(16).
طاعة الوالدين في المعروف:
بر الوالدين يقتضي طاعتهما بالمعروف، فإذا أمر الوالد ولده بأن يقضي له حاجة، أو يحقق له مصلحة، أو أن يفعل شيئًا أو يتركه، وجب عليه المبادرة إلى ذلك من غير تلكؤ ولا تردد، ولا تبرم ولا تأفف، فإن كان ثمة مانع شرعي أو حسي يمنعه من الاستجابة لأمره اجتهد في الاعتذار إليه، وتلطف في استرضائه، وبيان السبب الذي يحول بينه وبين ما أراده منه، قال الله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
فنهى عن مجرد التأفف معهما، فما بالك بمعاندتهما وعصيان أمرهما؟ وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، وقال: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وليس من شكرهما والإحسان إليهما معصيتهما ومخالفة رغبتهما .
وقال عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15].
وقد دلت الآية على وجوب طاعة الوالدين بالمعروف من وجهين:
الأول: أنه نهى عن طاعتهما فيما يأمران به ولدهما من معصية الله تعالى والإشراك به، فدل ذلك على أنهما إذا أمراه بشيء لا معصية فيه، من مباح أو مشروع، وجب عليه طاعتهما.
الثاني: أنه أمر الولد بمصاحبة والديه بالمعروف ولو كانا يجاهدانه على الشرك، وليس من المصاحبة بالمعروف عصيان أمرهما، والخروج عن طاعتهما.
ويدل على وجوب طاعة الوالدين كذلك: أن الجهاد في سبيل الله إذا لم يكن فرض عين لا يصح إلا بإذن الوالدين المسلمين(17).
قال ابن قدامة: «ومن كان أحد أبويه مسلمًا لم يجز له الجهاد تطوعًا إلا بإذنه»(18).
روي نحو ذلك عن عمر، وعثمان، وبه قال مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وسائر أهل العلم، واحتج ابن قدامة بالأحاديث المشهورة في ذلك...، ثم قال: ولأن بر الوالدين فرض عين، والجهاد فرض كفاية وفرض العين يقدم(19).
وقال في حج التطوع: للوالد منع الولد من الخروج إليه؛ لأن له منعه من الغزو، وهو من فروض الكفايات، والتطوع أولى(20).
والأصل أن كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك، ويشتد فيه الخطر، لا يحل للولد أن يخرج إليه بغير إذن والديه؛ لأنهما يشفقان على ولدهما فيتضرران بذلك(21).
وهذا إذا لم يكن الجهاد فرض عين، فإن كان كذلك فلا يعتبر إذنهما كبقية فروض الأعيان من صلاة الجمعة، والجماعة، وصوم رمضان، والزكاة الواجبة، والحج الواجب، وطلب العلم الواجب، وغيرها؛ بل ليس لهما منعه من أداء ما افترضه الله عليه، فإن فعلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «كان جريج يتعبد في صومعة، فجاءت أمه، [قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته، كيف جعلت كفها فوق حاجبها ثم رفعت رأسها إليه تدعوه]، فقالت: يا جريج، أنا أمك كلمني، فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت ثم عادت في الثانية فقالت: يا جريج، أنا أمك فكلمني، قال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فقالت: اللهم إن هذا جريج وهو ابني وإني كلمته فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى تريه المومسات، قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن، قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، قال فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي، فحملت فولدت غلامًا، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: مِن صاحب هذا الدير، قال فجاءوا بفئوسهم ومساحيهم فنادوه، فصادفوه يصلي فلم يكلمهم، قال: فأخذوا يهدمون ديره، فلما رأى ذلك نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه، قال: فتبسم، ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن، فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا، ولكن أعيدوه ترابًا كما كان، ثم علاه»(22).
فتأمل كيف استجاب الله دعوة أمه عليه، مع أن الذي منعه من إجابتها ليس اللهو واللعب، أو النوم والكسل، أو الاشتغال بأمور الدنيا، أو قصد معاندتها وتجاهلها، وإنما الذي منعه اشتغاله بعبادة عظيمة كره أن يقطعها!
ثم تأمل كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولو دعت عليه أن يفتن لفتن»؛ أي: أنها مع غضبها عليه عذرته ورفقت به، فقصرت الدعاء عليه بمجرد رؤية وجوه المومسات، ولو دعت عليه بفعل الفاحشة لابتُلِي بها.
وقد دل الحديث كذلك على أن من شرع في صلاة نافلة ثم دعاه أحد والديه، وهو يعلم أنه يتأذى بانتظاره، أو يغضب عليه لتأخره عن إجابته، فإنه يقطع صلاته ولا حرج عليه؛ لأن إجابة الوالد واجبة، وإتمام النافلة مستحب، لكنه إن كان يغلب على ظنه أن والده لن يتأذى بذلك، أو أنه لو علم أنه في صلاة لعذره، فيتمها خفيفة ثم يجيبه.
ودل الحديث كذلك على أن والده لو منعه من الشروع في نافلة من صلاة أو صيام أو اعتكاف أو قراءة أو غيرها، فإنه لا يجوز له معاندة والده ومراغمته؛ لأن فعلها مستحب، وطاعة الوالد فرض، فلا يترك الفرض من أجل المستحب، لكنه إن استطاع أن يفعلها من دون علمه، وهو لا يتضرر بذلك، ولا يفوت عليه مصلحة كلفه بفعلها، فله أن يفعلها.
وقال أحمد في رجل يصوم تطوعًا، فسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر: يروى عن الحسن أنه قال: يفطر وله أجر البر وأجر الصوم إذا أفطر.
وقال في غلام يصوم وأبواه ينهيانه عن صوم التطوع: «ما يعجبني أن يصوم إذا نهياه، ولا أحب أن ينهياه»، يعني عن التطوع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ففي الصوم كَرِه الابتداء فيه إذا نهياه واستَحَب الخروج منه، وأما الصلاة فقال: يداريهما ويصلي».
وقال ابن مفلح: «وقد نص أحمد على خروجه من صلاة النفل إذا سأله أحد والديه، ذكره غير واحد»(23).
وقال ابن حجر: «والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلًا وعلم تأذي الوالد بالترك وجبت الإجابة وإلا فلا، وعند المالكية أن إجابة الوالد في النافلة أفضل من التمادي فيها»(24).
الدعاء للوالدين:
حق الوالدين عظيم، ومهما اجتهد الولد في برهما والإحسان إليهما، فلن يوفيهما حقهما، ويشكر فضلهما، وإن مِن شكرهما أن يكثر من الدعاء لهما في حياتهما وبعد موتهما كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
فهكذا علَّم الله عباده، وبهذا أمرهم أن يدعوا لوالديهم بالرحمة أحياءً وأمواتًا، جزاء رعايتهم لهم وإحسانهم إليهم.
قال ابن جرير: «ادع الله لوالديك بالرحمة، وقل رب ارحمهما وتعطف عليهما بمغفرتك ورحمتك كما تعطفا علي في صغري، فرحماني وربياني صغيرًا، حتى استقللت بنفسي واستغنيت عنهما»(25).
وكما دعا نوح عليه الصلاة والسلام لوالديه فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].
فدعا لوالديه بعد دعائه لنفسه، ولم يقدم عليهما أحدًا، لا زوجًا، ولا قريبًا، ولا صديقًا.
وحكى الله عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]، فدعا لوالديه بالمغفرة بعد دعائه لنفسه مباشرة، وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه، لما تبين له أنه عدو لله عز وجل.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(26).
فجعل من علامات صلاح الولد دعاءه لوالديه بعد موتهما، حيث تكون حاجتهما إلى الدعاء حينذاك أشد من حاجتهما إليه في حال الحياة.
إن للوالدين حقًا عظيمًا على أبنائهم، فهما من قاما بتربيتهم، ورعايتهم، والإنفاق عليهم، والأم هي من سهرت الليالي الطوال من أجل راحة أبنائها، ومن تعبت في تربيتهم، ومن كانت تفضلهم حتى على نفسها، والأم هي الوحيدة التي قد تنسى الدعاء لنفسها على أن تقوم بالدعاء لأبنائها، وأما الأب فهو من يعمل ليلًا ونهارًا، ويسعى بكل الدروب وشتى الطرق لتوفير حياة كريمة لأبنائه، ليستطيع أن يعيلهم، ويلبي رغباتهم ومتطلباتهم، وبالتالي كان من الواجب على الأبناء برهم، وإعطاؤهم حقوقهم.
الإحسان إليهما: وذلك عن طريق القول والفعل، وفي أوجه الإحسان المختلفة جميعها.
خفض الجناح: وذلك من خلال التذلل لهما، والتواضع أمامهما، وطمأنتهما.
الابتعاد عن زجرهما: وذلك من خلال الكلام معهما بلين، والتلطف عند مخاطبتهما، والحذر من نهرهما، أو رفع الصوت عليهما.
الإصغاء إليهما: وذلك عن طريق مقابلتهما ببشاشة عند تحدثهما، وعدم مقاطعة حديثهما، والحذر من اتهامهما بالكذب، أو رد حديثهما.
الفرح بأوامرهما: وعدم التضجر والتأفف في وجههما، وذلك لقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23].
التطلق لهما: وذلك من خلال مقابلتهما بالوجه البشوش والترحاب بهما، والابتعاد عن العبوس وتقطيب الجبين والحاجبين.
التودد لهما والتحبّب إليهما: مثل البدء بالسلام عليهما، وتقبيل أيديهما ورأسيهما، والإفساح لهما في المجالس، وعدم الأكل من الطعام قبلهما، والمشي خلفهما في النهار وأمامهما في الليل، خاصةً إذا كان الطريق مظلمًا أو وعرًا.
الجلوس أمامهما بكل أدب واحترام: وذلك من خلال الجلوس بجلسة مناسبة، والابتعاد عما يمكن أن يشعرهما بالإهانة بأي شكل من الأشكال؛ مثل مد الرجلين، أو رفع الصوت بالقهقهة في حضرتهما، أو الاضطجاع، أو التعري، أو عمل أي شيء من المنكرات أمامهما، أو غير هذا الأمور مما يُنافي كمال الأدب معهما.
تجنب التمنّن عليهما: وذلك أن المنة تهدم كل صنائع المعروف، وهي كذلك من مساوئ الأخلاق، وهي تزداد قبحًا عندما تكون في حق الوالدين.
تقديم حق الأم: فعلى المسلم أن يقدم بر الأم، والإحسان إليها، والعطف عليها، على بر الأب والإحسان إليه.
البعد عن إزعاجهما: سواءً أكانا نائمين، أو من خلال إزعاجهما عن طريق الجلبة ورفع الصوت، أو إخبارهما الأخبار المحزنة، أو غير ذلك من أشكال الإزعاج.
تجنب الشجار أو إثارة الجدل أمامهما: وذلك من خلال الحرص على حل المشكلات العائلية بعيدًا عن أعينهما.
تلبية ندائهما بسرعة: سواءً أكان الإنسان مشغولًا أم غير مشغول، فإنه من اللائق بالولد أن يجيب والديه في حال سماعه لندائهما.
الاستئذان في حال الدخول عليهما: فربما كانا في حالة لا يرغبان أن يراهما أحد عليها.
تذكيرهما بالله دائمًا: وذلك من خلال تعليمهما كل ما يجهلانه من أمور الدين، وأمرهما بعمل المعروف، ونهيهما عن عمل المنكر، ويجب أن يراعى أن يكون ذلك بمنتهى اللطف، والإشفاق، والشفافية، والصبر عليهما في حال لم يقبلا ذلك.
الاستئذان منهما، والاستنارة برأيهما: وذلك في كل أمور الحياة؛ مثل: الذهاب مع الأصحاب في رحلة، أو السفر إلى خارج البلاد للدراسة ونحوها، أو الذهاب للجهاد، أو في حال الخروج من المنزل والسكن خارجه، فإن أعطياه الإذن وإلا فإنه يترك هذا الأمر، خاصةً إذا كان رأيهما أصح، أو صدر عن علم أو إدراك.
الحفاظ على سمعتهما: وذلك من خلال الاختلاط بالصحبة الصالحة، والابتعاد عما سوى ذلك، وتجنب أماكن الشبهات.
الابتعاد عن لومهما أو تقريعهما: وذلك في حال صدر منهما أي عمل لا يرضي ابنهما، مثل تقصيرهما في التربية، أو تذكيرهما بأمور لا يحبان سماعها.
عمل الأمور التي تدخل السعادة على قلبيهما: مثل رعاية الإخوة، أو صلة الأرحام، أو عمل الإصلاحات في المنزل أو المزرعة، أو المبادرة بإعطائهما الهدايا، أو غير ذلك مما يدخل الفرح والسرور على قلبيهما.
فهم طبيعتهما والتعامل معهما بما يقتضيه ذلك: ففي حال كان واحد منهما غضوبًا أو فظًا، أو كان لديه أي صفة من الصفات التي لا يحبذ وجودها في الإنسان، كان الأجدر بالابن أن يتفهم طبيعتهما، ويتعامل معهما كما ينبغي.
برهما بعد موتهما:
وهذا يدل على عظم حق الوالدين، واتساع رحمة رب العالمين، بأن يكون بر الوالدين غير منقطع حتى بعد موتهما، فإذا قصر الإنسان في أي حق من حقوق والديه وهما على قيد الحياة ندم على تفريطه وتضييعه لذلك بعد موتهما، وتمنى عودتهما إلى الحياة الدنيا، ليعمل لهما صالحًا غير الذي كان يعمل.
أنواع بر الوالدين بعد موتهما:
هناك الكثير من أنواع البر التي يمكن للإنسان أن يصل بها والديه بعد موتهما، ومنها:
الإكثار من الاستغفار لهما: وذلك لقوله سبحانه وتعالى في ذكره دعاء إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:40-41].
الدعاء لهما: وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له»(27).
قضاء الدَّين عنهما: وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلقة بدَينه، حتى يُقضى عنه»(28).
قضاء ما عليهما من النذور: مثل نذر الصيام، أو نذر الحج أو العمرة، أو غير ذلك مما يمكن النيابة فيه.
صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما: وذلك بأن تحسن إلى أقارب والديك الأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم.
إكرام أصدقائهما من بعدهما: وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه»(29)، وفي حديث أبي بردة رضي الله عنه قال: قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت: لا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده»، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود، فأحببت أن أصل ذاك(30).
وإذا كان الإحسان إلى الميت من خلال الإحسان إلى أصدقائه، فالوالد والوالدة أولى بهذا الإحسان بعد موتهما، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أُدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة»، قالت: فأغضبته يومًا، فقلت: خديجة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني قد رزقت حبها»(31).
التصدق عنهما: وذلك لحديث سعد بن عبادة رضي الله عنه أن أمه توفيت، فقال: يا رسول الله، إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: «نعم»، قال: «فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها»(32).
إن حق الوالدين عليك أن تبرهما، وذلك بالإحسان إليهما قولًا وفعلًا، بالمال والبدن، تمتثل أمرهما في غير معصية الله وفي غير ما فيه ضرر عليك، تلين لهما القول وتبسط لهما الوجه، وتقوم بخدمتهما على الوجه اللائق بهما، ولا تتضجر منهما عند الكبر والمرض والضعف، ولا تستثقل ذلك منهما فإنك سوف تكون بمنزلتهما، سوف تكون أبًا كما كانا أبوين، وسوف تبلغ الكبر عند أولادك، إن قدر لك البقاء، كما بلغاه عندك، وسوف تحتاج إلى بر أولادك كما احتاجا إلى برك، فإن كنت قد قمت ببرهما فأبشر بالأجر الجزيل، والمجازاة بالمثل، فمن بر والديه بر به أولاده، ومن عق والديه عق به أولاده، والجزاء من جنس العمل، فكما تدين تدان، ولقد جعل الله مرتبة حق الوالدين مرتبة كبيرة عالية؛ حيث جعل حقهما بعد حقه، المتضمن لحقه وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] الآية.
وهذا يدل على أهمية حق الوالدين، الذي أضاعه كثير من الناس، صاروا إلى العقوق والقطيعة، فترى الواحد منهم لا يرى لأبيه ولا لأمه حقًا، وربما احتقرهما وازدراهما وترفع عليهما، وسيلقى مثل هذا جزاءه العاجل أو الآجل.
***
________________
(1) زهرة التفاسير (1/ 290).
(2) في ظلال القرآن (4/ 2222).
(3) أخرجه البخاري (527).
(4) أخرجه ابن حبان (409).
(5) أخرجه مسلم (2551).
(6) فيض القدير (4/ 34).
(7) أخرجه البخاري (5971).
(8) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (11).
(9) مفاتيح الغيب (3/ 586).
(10) المصدر السابق (3/ 587).
(11) تفسير القرطبي (10/ 243).
(12) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (44).
(13) أخرجه أبوداود (3529) وصححه الألباني.
(14) بدائع الصنائع (4/ 30).
(15) المغني (11/ 373).
(16) بدائع الصنائع (4/ 30).
(17) غذاء الألباب (1/ 386).
(18) المغني (9/ 170).
(19) الآداب الشرعية (1/ 434).
(20) المصدر السابق.
(21) بدائع الصنائع (7/ 98).
(22) أخرجه البخاري (1148)، ومسلم (2550).
(23) الآداب الشرعية (1/ 433).
(24) فتح الباري (6/ 483).
(25) تفسير الطبري (15/ 50).
(26) أخرجه مسلم (1631).
(27) المصدر السابق.
(28) أخرجه الترمذي (1078).
(29) أخرجه مسلم (2552).
(30) أخرجه ابن حبان (432).
(31) أخرجه مسلم (2435).
(32) أخرجه البخاري (2756).