شاركه ما يحب
يجلس على كرسيه كأنه كرسي الملك، يصدر الأوامر، وأيضًا يلبي الطلبات، يعطي النقود لمن يطلب، ويجلب الهدايا أحيانًا، هكذا يتعامل الآباء دائمًا مع أبنائهم، ثم يتفاجئوا بعد كل هذا أن الابن منطوٍ على نفسه، يفتقر إلى الثقة بالنفس، عنده تردد كبير في اتخاذ القرارات والبت في الأمور، غير صبور ولا مثابر في الوصول إلى أهدافه، ويتعجب الآباء من ذلك، وإذا ما سئل الأب: كم من الوقت تمضيه مع ابنك؟ فإن الجواب غالبًا ما يكون صادمًا، وفي أحسن الأحوال يكون الجواب كالتالي: أراه كل يوم على مأدبة الغداء، وأحيانًا كثيرة تختلف مواعيدنا فلا نتقابل.
هذه هي الأوقات التي يمضيها معظم الآباء مع أبنائهم، لكن تمضية وقت مميز مع الأبناء؛ كذهاب إلى مطعم سويًا، أو مكتبة عامة للبحث عن بعض الكتب المفيدة، أو قضاء بعض الأوقات في الصيد، كل هذا غير وارد أبدًا في قاموس الآباء تجاه الأبناء.
إن أكثر ما يحبه الابن ويسعده هو مشاركة أبيه له فيما يحب من فعاليات وهوايات، ولا يكفي أبدًا التمويل المالي فقط، ولا حتى التمويل المعنوي فقط؛ كالمدح والثناء؛ بل لا بد من المشاركة، وأعني بالمشاركة هنا المشاركة الفعلية للابن في هواياته وما يحب من الأمور.
إن من الوسائل المهمة لتمكين حب الأبناء لنا في قلوبهم هي أن نشاركهم هواياتهم وأعمالهم التي يحبونها، ويجب أن تكون هذه المشاركة مشاركة صديق لصديقه، لا أن تكون مشاركة والد لولده؛ فتطغى فيها الأوامر والنواهي على التشاور والتفكير الثنائي واقتراح الأفكار، ويا حبذا لو جعلت اتخاذ بعض القرارات التي تختص بممارسة هوايته تسري عليك أـيضًا، طالما أنها صحيحة وصائبة.
إن مثل هذه الأوقات تجعل الأبناء في غاية السعادة والامتنان، وتجعلهم كذلك لا يفكرون في طلب المال لتمضية الأوقات على ألعاب الفيديو، أو شراء بعض الحلوى، أو الألعاب الجديدة؛ فهم يسعون إلى قضاء بعض الأوقات مع آبائهم، فذلك أكثر سعادة لهم، وبالتالي تقل طلبات الأبناء المادية.
إذن فدور الآباء، وكذلك الأمهات، لا يقتصر على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وجلب النقود وإعطاء الهدايا، وإنما لا بد من المشاركة الفعلية مع الأبناء؛ لأن عدم المشاركة إنما هو فعل مخالف لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش بين أصحابه، وكان يشاركهم في أعمالهم وهمومهم، كما كان يشارك الأطفال الصغار لعبهم واهتماماتهم.
فعن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» فما زالت تلك طعمتي بعد. [صحيح البخاري (5376)].
إن هذه من أقوى المشاهد النبوية على مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال، وكيف اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المشاركة وسيلة لتصحيح المفاهيم، وزرع الآداب الجميلة، وكل هذا لم يقلل من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو نبي مرسل إلى العالمين أجمعين، ولديه رسالة يجب إيصالها إلى الناس، وعنده الجيوش تأتمر بأمره، والوفود تسعى للقائه، وعنده بيت وأسرة، كل هذا لم يشغله عن مشاركة الأطفال، وكانت ثمرة هذه المشاركة: "فما زالت تلك طعمتي بعد"، فمن أراد لأبنائه أن يتعلموا الآداب ولا ينسوها، ويتذكروا القيم والأخلاق ولا يهجروها، فليلتزم هدي النبي في هذا الأمر.
فهو الذي علم أصحابه معنى المشاركة الحقيقة في حياته كلها، فقد شاركهم في بناء المسجد، فعن أنس بن مالك قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم (بنو عمرو بن عوف)، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة،... وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، وهو يقول: «اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة»[صحيح البخاري (428)].
وهو الذي شاركهم في حفر الخندق، فعن سهل بن سعد الساعدي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهو يحفر ونحن ننقل التراب، ويمر بنا، فقال: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة» [صحيح البخاري (6414)].
وكان يشاركهم حتى في الفزع إلى الصوت ونجدة صاحب هذا الصوت، وكان يسبقهم إليه، حتى إنهم ليهرعون إلى الصوت ويجدون النبي صلى الله عليه وسلم يقابلهم، وقد وصل إلى الصوت قبلهم، وهو يقول: «لن تراعوا لن تراعوا» [صحيح البخاري (6033)].
إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيهات أمر يتقنه أكثر الناس، لكن مشاركة الأبناء هواياتهم واهتماماتهم أمر لا يفعله إلا القليل، والقليل جدًا، إن هذه المشاركة رسالة قوية للأبناء لسماع توجيهات الآباء والأمهات وتلبية طلباتهم، عكس الآباء والأمهات الذين يطلبون من الأبناء البذل والعطاء والسعي والتحصيل، وهم لم يجدوا من الآباء والأمهات مردودًا عمليًا يعكس أمامهم ما يريده هؤلاء الآباء والأمهات منهم، فضلًا عن أنه يدفع الآباء والأمهات إلى السعي والجد والبذل.
فهم يعلمون أن الاهتمام بالأبناء والتواصل معهم أكثر أهمية من وعظهم وتوجيههم بالقول؛ لأن الوعظ والتوجيه لا بد في استقباله أن يكون الأبناء سعداء؛ حتى يستطيعوا تقبل هذا التوجيه؛ وبالتالي تطبيقه على أرض الواقع، وهذه السعادة لن تتأتى إلا بعد أن يشعر الأبناء بأن الآباء والأمهات يهتمون بهم، ويهتمون بما يهتمون هم به أيضًا، ويشعرون أن الآباء والامهات يحبون مشاركتهم هواياتهم، وما يحملونه من أفكار، ويحاولون إنجازه من أعمال.
إن هذه المشاركة تنقل الآباء والأمهات، في أوقات المشاركة، من دور المربي إلى دور الصديق، وحينها يكون الآباء والأمهات أقرب إلى قلب الابن وعقله، فتكون هناك علاقة حميمة وطيدة، تنتج ابنًا اجتماعيًا غير منطوٍ على نفسه، عنده ثقة في قرارته، يستطيع أن يبت في أمور حياته.