logo

دور الشريعة في الحفاظ على استقرار الأسرة


بتاريخ : الثلاثاء ، 13 ذو القعدة ، 1440 الموافق 16 يوليو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
دور الشريعة في الحفاظ على استقرار الأسرة

الأسرة هي وحدة التكوين الأولى للمجتمع، وبتماسك هذه الوحدة يتحقق تماسك المجتمع، فطالما كانت الأسرة على قدر كبير من التماسك والاستقامة صلحت شئون المجتمع واستقامت أموره، ويتحقق التماسك في الأسرة إذا ما ساد الوفاق بين الزوجين، وامتد ظله على باقي أعضاء الأسرة، فأصبح جو الطمأنينة والاستقرار هو السائد في الأسرة بما يحقق الراحة النفسية لأفرادها، ويحميهم من مؤثرات الانحراف، ويدعم تماسك الأسرة وقوة صلابتها.

ويتحقق التماسك الأسري عبر خمسة مقومات أساسية :

- المقوم البنائي: ويتطلب وجود أسرة متكاملة من أب وأم وأبناء وغيرهم إن وجد.

- المقوم الديني: وهو أهم المقومات التي تؤدي إلى زيادة التماسك والوحدة بين أعضاء الأسرة، ويزيد من تماسك الأسرة فكريًا ومعنويًا، ويقيها من التفكك والانحراف.

 -المقوم العاطفـي: ويعتمد على ما يسود الأسرة من عواطف إيجابية تربط بين جميع أعضائها، تتجلى في الحب والتقدير والاحترام المتبادل.

 -المقوم الاقتصادي: ويتمثل في قدرة الأسرة على إشباع الحاجات المادية لأفرادها المنتمين إليها، بحيث يشعر الفرد بالأمن والسعادة لانتمائه إلى هذه الأسرة.

 -المقوم الصحي: ويقوم على مدى خلو الأسرة من الأمراض المختلفة، وخلوها من الأمراض الوراثية على وجه الخصوص، ومدى قدرة أفرادها على الترابط والتماسك، ومواجهة أزمات المرض، وما تخلفه من تبعات (1(.

عندما يلجأ الأزواج إلى الطرق التقليدية لحل مشاكلهم الزوجية بدلًا من اللجوء إلى طلب العلاج الزواجي أو العائلي.

فالزوجة التي تعاني من مشاكل مع زوجها قد تعزي الأسباب إلى سحر أو عين أصابتها، فتجدها تنفق أموالها على الدجالين والمشعوذين؛ عسى أن ينقذوا بيتها المهدد، ولا تبذل أي جهد لمعرفة العوامل الموضوعية وراء توتر علاقتها الزوجية، التي قد تكون الصراعات المستمرة حول المال أو تربية الأولاد أو مشاكل مع الأهل، والتي يمكن حلها بتلقي العلاج الزواجي.

وبناءً على ما سبق فإن أي خلل أو قصور في أحد هذه المقومات يمكن أن يدفع بالأسرة إلى التفكك، ويوتر العلاقات داخلها، ويثمر مشكلات أسرية مختلفة.

ثم إن غياب الوعي والثقافة الدينية من شأنها أن تظهر مشكلات سلوكية عدة، والحرمان العاطفي يؤدي إلى عدم التوافق، وغياب المقوم الاقتصادي أو ضعفه يجعل الأسرة عاجزة عن تحقيق احتياجات أفرادها، وفي ظل هذه المشكلات الأسرية المختلفة ينشأ التوتر ضمن علاقات الأسرة، ولكن تظل الأسرة باقية، ولو بشكل صوري، ضمن المقوم البنائي.

وجميع المستويات السابقة للتفكك تشكل وضعًا أسريًا متأزمًا، يطلق عليه (مشكلات أسرية).

ومما لا شك فيه أن الدين الإسلامي هو خير موجه للإنسان في معاملاته مع نفسه ومع غيره، وأي قصور في الدين من شأنه أن ينعكس على توجهات الفرد وسلوكياته، ومن أهم عوامل القصور التي يمكن أن تؤدي إلى حدوث مشكلات أسرية ما يلي :

1- عدم الالتزام بأسس الشريعة في بناء البيت المسلم: فقد وضع الإسلام أسس الأسرة المسلمة، بما يحقق المصلحة لكل فرد من أفرادها، ودعا المسلم إلى الالتزام بها ليستقر بناء البيت المسلم؛ لذا فأي مخالفة لهذا الشرع لا بد أن تخل بالبنيان، وتخرج به من إطار المودة والرحمة.

ومن هذه الأسس الشرعية، على سبيل المثال، أسس اختيار الزوج والزوجة وفق ميزان التدين والصلاح، فالواقع يظهر لنا أن أسس الاختيار الزواجي أصبح يغلب عليها تقديم وتغليب المعايير المادية، والسعي وراء المظاهر الخارجية والكماليات لدى كل من الطرفين؛ وبذا لم يعد مفهوم الزواج في الأسر المسلمة مختلفًا عنه في الأسر غير المسلمة، نظرًا لضياع المقاصد الشرعية من الزواج، الأمر الذي سرعان ما يفضي إلى تفكك البناء الأسري(2).

ومن تلك الأسس حق إبداء الموافقة على الزواج الذي ضمنه الإسلام للطرفين، فقد أعطت الشريعة الإسلامية للطرفين حق الاختيار والموافقة وإبداء الرأي، وكان التوجيه في حق المرأة في الاختيار أشد، فليس لأحد أن يكرهها على الزواج؛ لأن الحياة الزوجية لا يمكن أن تقوم على القسر والإرغام .

ومن ذلك أيضًا الانصراف إلى المظاهر الدنيوية والمبالغة في تكاليف الزواج، وقد حذر الله عز وجل في كتابه العزيز من الإسراف والتبذير، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27]، وأخبر جل شأنه أن من صفات المؤمنين التوسط والاعتدال في الإنفاق، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].

وقد لا تقتصر هذه المخالفات على التبذير والبذخ؛ بل قد تتعدى ذلك إلى ارتكاب بعض المخالفات في ليلة العرس؛ مثل السماح بالمعازف والغناء وغير ذلك من المنكرات.

2- ضعف الوازع الديني، والبعد عن منهج الله، وعدم تطبيق حدود الله في العلاقات الأسرية، فارتكاب المعاصي وإتيان الفواحش يغضب الله عز وجل، ويظهر أثر هذا الغضب للعبد في ضيق النفس، وقلة البركة، واضطراب العلاقات الأسرية، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، يقول ابن كثير: «{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي}؛ أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي: ضنك في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره؛ بل صدره ضيق حرج لضلاله»(3).

 ويذكر ابن القيم في العقوبات التي رتبها الله سبحانه وتعالى على الذنوب، أنه تعالى قد رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره، فالمُعْرِض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تَنَعَّم في الدنيا بأصناف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه(4).

 ويعد ارتكاب الكبائر والمحرمات تعديًا وخروجًا على النظام الاجتماعي والأسري، وتأخذ الكبائر والمعاصي أشكالًا مختلفة، وتؤثر على الفكر والسلوك، والعلاقات الأسرية هي أكثر ما يؤثر ويتأثر بهذا الانحراف، فالتزام العبد بالعبادات وبالمنهج الإسلامي في التعامل هو الحصن الحصين من كل خلق سيئ وسلوك جامح، والعكس من ذلك إذا ارتكب العبد ما يخالف منهج الله، ونخص بالذكر هنا شرب الخمر وإدمان المخدرات، فالخمر والمخدرات يعملان على الحد من فاعلية أساليب الكف ضد السلوك والانفعال غير السوي.

3- الجهل بالدين: عندما أرسى الإسلام قواعد بناء البيت المسلم أسس العلاقات داخله على مجموعة من الحقوق والواجبات، التي يجب على كل فرد مسلم القيام بها، فإذا ما سارت الأسرة المسلمة وفق هذه الأسس والقواعد تحقق استقرارها، أما إذا اتصف أفرادها بالجهل بهذه الحقوق فإن العلاقات لا بد أن تضطرب، ويظهر فيها أنماط من المشكلات الأسرية.

فالزوج الذي يجهل ما عليه من واجبات تجاه زوجته وأبنائه سيقصر في دوره، وقد يتعدى، مدفوعًا بجهله، على حقوق زوجه وأبنائه، والزوجة كذلك، وعندما يجهل كلاهمـا هـدف الإسلام من تربية الأبناء، وما أعده الله لهما من أجر في إخراج هذا النسل المسلم، سيتصف نمط معاملتهما وتربيتهمـا لأبنائهمـا بالضـيق والضجـر، ثم الإهمال أو القسوة، وكذلك الأبناء عندما يجهلون أجر خدمة الوالدين وعقوبة عقوقهما فلن يكون هناك رادع لهم من الوقوع في العقوق.

وقد أظهرت دراسة محمد خليل أن ضعف الوعي الديني بحقوق وواجبات الآباء والأبناء كان من أهم دوافع عقوق الوالدين، فكثير من الآباء لا يشغلون أنفسهم بتوعية الأبناء بالحقوق والواجبات المتبادلة بين الآباء والأبناء(5).

كما أن الجهـل بالدين قد يأخذ منحنًى آخر، متمثلًا في جهل الوالدين بالطرق الإسلامية في التنشئة، وهي الطرق التي أقرها الإسلام كتابًا وسنة، وعمل علماء التربية الإسلامية على تفصيلها ضمن مؤلفاتهم المختلفة، والجهل بهذه الطرق والأساليب يدفع بالوالدين إلى انتهاج أساليب مخالفة بين الإفراط والتفريط.

4- الغزو العقدي والفكري على المجتمع المسلم: يقصد بالغزو الفكري والعقدي الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية، وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، مما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك(6)، وقد شمل هذا الغزو جوانب التشريع والعقيدة، والتربية والتعليم، والإعلام والثقافة ..., وقد تأثرت الأسرة المسلمة بهذا الغزو باعتبارها جزءًا من هذا المجتمع، وباعتبار أن الغزو قد توجه في صور عديدة نحو أسسها، وقيم ومبادئ أفرادها، وتطاول على العلاقات داخلها، فكانت الدعوات لنزع الحجاب، وتحديد النسل، والمساواة التامة بين المرأة والرجل، وعمل المرأة دون شرط أو قيد...، إلى غير ذلك من صور الغزو التي ساهمت في توتر العلاقات الأسرية.

فإن كان من المسلمات أن العقيدة الإسلامية والمجتمع المسلم هما محط لتحديات عقدية وفكرية، فإن المتتبع لطبيعة تمكن هذا الغزو وطرق وأساليب هذا التحدي لا بد أن يرى أن الضعف والقصور في الجانب الديني لدى المسلمين عامة، والأسرة خاصة، هو ما هيأ بيئة صالحة لهذا الغزو، فالهزيمة الروحية هي التي مكنت لهذا الغزو، وهي التي جعلت كل ما يخططه المخططون ينفذ كأنه أمر حتمي لا مرد له، وما كان شيء من ذلك ليحدث لو أن المسلمين كانوا على إسلام صحيح، فالعقيدة الحية المتمكنة من القلوب لا تقهر، ولا يتخلى عنها أصحابها مهما وقع عليهم من الضغوط(7).

بعض الأسس والأساليب التي يمكن أن تسهم في معالجة المشكلات الأسرية، وتقوية أواصر الروابط داخل الأسرة، من خلال ما يلي:

1- تطبيق شريعة الله فكرًا وسلوكًا:

أنزل الله عز وجل شريعته السمحاء لتكون نورًا تهتدي به الإنسانية في شتى مجالات حياتها، ويتحقق من خلالها سبل الاستقرار والسعادة، فكل طريق يضاء بنبراس الشريعة هو طريق خير وفلاح، وإذا ما خفت هذا الضياء تاهت البشرية في مسالك الكَبَد والمشقة.

فالتمسك بشرع الله وتطبيق حدوده هو سبيل الاستقرار في العلاقة الأسرية، وقد يشتمل هذا التطبيق مرحلة ما قبل الزواج، ومرحلة ما بعد الزواج.

1- تطبيق شريعة الله فكرًا وسلوكًا في مرحلة ما قبل الزواج:

إن التطبيق السليم للأسس الإسلامية في تأسيس البيت المسلم، وبناء دعائمه على القيم والمبادئ الإسلامية كفيل بتجنيب الأسرة العديد من المشكلات؛ على أن يتم ذلك من اللحظات الأولى لتكوين عش الزوجية، بالاختيار السليم، والتيسير في النكاح:

أ- الاختيار الزواجي السليم:

العلاقات الأسرية هي أكثر العلاقات الاجتماعية خصوصية وتماسكًا؛ لذلك حرص التشريع على توفير شتى السبل الميسرة لبقائها واستقرارها، وأول خطوات هذه السبل هي منح الحق في الاختيار لكلا الطرفين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُنكح الأَيِّم حتى ‏ ‏تُستأمر‏،‏ ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن»، قالوا: «يا رسول الله، وكيف إذنها؟»، قال: «أن تسكت»(8).

وبذلك ترسي الشريعة الإسلامية أسس البيت المسلم المستقر من اللحظة الأولى، التي يسعى فيها كل طرف من الزوجين للارتباط وبناء أسرة مسلمة، فتحث كل طرف على الاختيار السليم، المبني على المقومات والمعايير التي تكفل حصول كل طرف على شريك يتمتع بقدر مناسب من الأخلاق الإسلامية، تجعله قادرًا على تحمل المسئولية، وعلى احترام وتقدير الطرف الآخر وحفظ حقوقه، وتكوين بيت مسلم مستقر، وبناء علاقات أسرية متماسكة وموثقة بروح الحب والألفة، فيصبح البيت المسلم محضنًا صالحًا لصنع الأجيال المؤمنة، ويتم تقسيم هذه المعايير إلى:

1- المعايير الثابتة:

أول هذه المعايير هو معيار الدين والخلق، وهما الترجمة السلوكية والفكرية لصلاح الإنسان، وقدرته على البناء والتفاعل المتوازن وفق منهج الله القويم، وبناءً على ذلك كان الدين والخلق معيارًا ثابتًا في الاختيار لكلا الزوجين، قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]، ويتضح لنا المراد بالصلاح من ضوء الآية الكريمة في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5]، يقول سيد قطب: «الإسلام الذي تدل عليه الطاعة والقيام بأمر الدين، والإيمان الذي يعمر القلب، وعنه ينبثق الإسلام حين يصح ويتكامل، والقنوت وهو الطاعة القلبية، والتوبة وهي الندم على ما وقع من معصية، والاتجاه إلى الطاعة والعبادة، وهي أداة الاتصال بالله والتعبير عن العبودية له، والسياحة وهي التأمل والتدبر والتفكر في إبداع الله، والسياحة بالقلب في ملكوته»(9)، وهكذا فإنه من المفترض أن تشكل هذه الصفات انعكاسًا أخلاقيًا على الفرد الملتزم بها، فتلقي بضوئها على سلوكياته وعلاقاته بالآخرين.

وقد رغّبت السنة المطهرة في اختيار الزوجة صاحبـة الدين وتقديمها على من سواها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «‏تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين‏ ‏تربت يداك»(10)، يقول ابن حجر في شرح الحديث: «والمعنى أن اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء، لا سيما فيما تطول صحبته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتحصيل صاحبة الدين، الذي هو غاية البغية»(11)، وبصلاح الزوجة يتحقق السكن المقصود، ومن مظاهر السكن أن تكون الزوجة صاحبة فطرة سليمة وخلق سوي، تألف وتؤلف، وتساعد على تكوين بيئة المودة والرحمة.

وعلى الجانب الآخر حرصت الشريعة على صلاح الزوج وتدينه، وأن يكون صاحب خلق إسلامي قويم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد ‏‏عريض»(12)، ويمثّل معيار الدين والخلق جانبًا أكثر أهمية فيما يتعلق بالزوج، لتعلّق القوامة به، كما أنه بمثابة القدوة الأولى والقائد للأسرة، يضاف إلى ذلك أن بيده حلِّ عقدة الزوجية؛ لذلك يقول أبو حامد الغزالي: «والاحتيـاط في حقهـا أهم؛ لأنها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال، ومن زوّج ابنته ظالمًا أو فاسقًا أو مبتدعًا أو شارب خمر فقد جنا على دينه، وتعرض لسخط الله لما قطع من حق الرحم وسوء الاختيار»، وقال رجل للحسن: «قد خطب ابنتي جماعة، فمن أزوجها؟»، قال: «ممن يتقي الله، فإن أحبهـا أكرمهـا، وإن أبغضها لم يظلمها»(13).

2- المعايير الملحقة :

مما يميز الشريعة الإسلامية واقعيتها؛ فهي تراعي رغبات الإنسان واحتياجاته، وتسعى لإشباعها؛ لذلك نجدها لم تهمل الصفات الأخرى التي يمكن أن تكون عامل جذب للطرفين، ولم تعطها أكبر من قدرها، ولكن اعتبرتها صفات فرعية، فالبناء الأساسي يرتكز على الدين، ثم تلحق به هذه الصفات، وهذا ما يوضحه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة ‏‏خرماء ‏سوداء ذات دين أفضل»(14)، خرماء: ‏أي مقطوعة بعض الأنف ومثقوبة الأذن.

وكذلك الأمر في اختيار الزوج، كما روى‏‏ ‏ابن أبي حازم ‏عن‏ ‏أبيه ‏عن ‏‏سهل قال: ‏‏مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ‏فقال: «ما تقولون في هذا؟»، قالوا: «حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع»، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: «حري إن خطب ألَّا ينكح، وإن شفع ألا يشفع وإن قال ألا يستمع»، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏ «‏هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»(15).

إذًا فالمعيار الثابت هو معيار الدين والخلق، وهو ما تستديم به الحياة، وتُؤسَّس في ظله الأسرة المسلمة، القائمة على طرفين يتمتعان بقدر عالٍ من الإيمان الصحيح، المحقق للأخلاق الفاضلة، والصحة النفسية، والقدرة على تكوين علاقات اجتماعية سوية، تجنب الأسرة الكثير من المشكلات.

ب- التيسير في النكاح:

مما لا شك فيه أن الزواج مطلب ديني ودنيوي، وهو طريق لتحقيق السعادة لكلا الزوجين، فإذا عرفت الغاية سهل الوصول لها، وأصبح تيسير تحقيقها مطلب للجميع، ولكن النفوس قد تغفل عن ذلك، وتنشغل عن أولوياتها بفروع لا تصل بها إلى الغاية السامية، وهي تحقيق السعادة، فواجب الأسر والمجتمع أن يحرص على تيسير أمور النكاح أولًا بالحد من المغالاة في المهور، والتقليل من مطالب الزواج ونفقاته، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

روي‏ ‏عن ‏ ‏أبي سلمة بن عبد الرحمن‏ ‏أنه قال: «سألت ‏عائشة، زوج النبي ‏صلى الله عليه وسلم: ‏كم كان ‏صداق ‏رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم، ‏‏قالت:‏ ‏كان ‏صداقه ‏لأزواجه ثنتي عشرة ‏أوقية ‏ونشًّا، قالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا، قالت: نصف‏ ‏أوقية،‏ ‏فتلك خمس مائة درهم، فهذا ‏صداق ‏رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏لأزواجه»(16)، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير البرية، وهذه هي مهور نسائه أمهات المؤمنين.

وعلى مثل ذلك كان زهده صلى الله عليه وسلم في تأسيس بيته، وبناء حجرات زوجاته، حتى قال سعيد بن المسيب: «والله، لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ من أهل المدينة، ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر»، وقال أبو أمامة يومئذ: «ليتها تركت فلم تهدم؛ حتى يقصر الناس عن البناء، ويروا ما رضي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح خزائن الدنيا بيديه»(17).

والالتزام بالتوجيهات النبوية في تيسير الزواج من شأنه أن يساهم في استقرار الأسرة مستقبلًا؛ حيث يخفف من الأعباء المادية على الزوجين، ويضفي نوعًا من الاستقرار النفسي والطمأنينة والراحة على العلاقة الزوجية من بداية تكوينها.

2- تطبيق شريعة الله فكرًا وسلوكًا في مرحلة ما بعد الزواج:

كما حرصت الشريعة على تطبيق الأسس الإسلامية الكفيلة باستقرار الأسرة قبل تأسيس البيت المسلم، حرصت كذلك على حماية الأسرة، واستيفاء الحقوق والواجبات داخل علاقاتها، وتنشئة أفرادها على القيم والمبادئ الإسلامية.

أ- أداء الحقوق والقيام بالواجبات المتبادلة بين الزوجين:

تقوم الأسرة في الإسلام على جملة من الحقوق والواجبات بين أفرادها، فتفرض الشريعة السمحاء للزوجة حق المهر، والنفقة، والعشرة بالمعروف، والعدل بينها وبين من سواها من زوجات إن وجد...، وغير ذلك، وتعطي للزوج حق الطاعة والقوامة وغيرها، وتجعل حقوقًا أخرى مشتركة بينهما؛ كحق العشرة بالمعروف.

ويتحقق من خلال أداء الحقوق والقيام بالواجبات ترسيخ الإحسان والعشرة بالمعروف والأمن والعدل والمساواة لأفرادها، كما تضمن هذه الحقوق والواجبات ألا يعتدي طرف على آخر في الأسرة، ولا يجبر طرفٌ الآخرَ على ما لا يرضاه إذا كان في ذلك مخالفة لحدود الله، بما يضمن أمن الأسرة واستقرارها، وضمن قاعدة عامة فحواها أن كل حق لأحد الزوجين يقابله واجب للآخر، وتبادل الحقوق والواجبات هو السبيل لاستقرار الأسرة وتجنب المشكلات.

قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:228].

ب- الحرص على تحقيق التربية الدينية لجميع أفراد الأسرة:

فيحرص كلا الزوجين على صلاح دين الطرف الآخر، وعلى المشاركة في العبادات، وعلى طلب العلم وحضور مجالس الذكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقديم النصح للطرف الآخر، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].

ويحرص كلاهما على بناء جيل مسلم واعٍ بشرع الله ومطبق له، وفق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، أورد ابن كثير في تفسير الآية: «قال قتادة: تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها، وزجرتهم عنها، وهكذا قال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يُعَلِّم أهله، من قرابته وإمائه وعبيده، ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه»(18).

ويسعيا إلى إعداد الطفل إعدادًا جسميًا وعقليًا وروحيًا ووجدانيًا واجتماعيًا؛ لكي يكون عضوًا نافعًا، وقد رغب الإسلام في ذلك وحث عليه بأن جعل عظيم الأجر لمن وفّى به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن وعمل بما فيه أُلْبِس والده تاجًا يوم القيامة، ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟»(19)، وحذر من التقصير في ذلك أو تركه، وجعل فيه إثمًا كبيرًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول»(20).

وفي ظل ما تشهده مجتمعاتنا من استهداف وغزو عقدي وفكري، فإن تقوية البناء العقدي لأفراد الأسرة يعد مسئولية حتمية، فيعمل الوالدان على ترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوسهم أولًا وفي نفوس الأبناء، ويسعيا إلى زيادة الوعي الثقافي الإسلامي، خاصة في تربية الفتاة المسلمة، فيغرسا في نفس الطفلة، منذ صغرها، العزة بالإسلام منهجًا وسلوكًا.

فقد حرص المصطفى على بذل التربية على العقيدة الصحيحة للنشء؛ كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ‏كنت ‏رديف ‏‏النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏فقال: «يا غلام، أو يا غليم،‏ ‏ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن»، فقلت: «بلى»، فقال: «‏احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تَعَرَّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو ‏‏كائن،‏ ‏فلو أن الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، ‏‏وأن مع العسر يسرًا»(21).

ومثل هذه التربية كفيلة بتنشئة الأبناء على القيم الإسلامية، وبمساعدة الأسرة على تجاوز الكثير من مشكلات الطفولة.

2- تقوية البناء الأخلاقي للأسرة:

سعت التربية الإسلامية إلى تنشئة أفراد المجتمع المسلم على الفضائل الظاهرة والباطنة، وعلى أن تتخذ هذه الفضائل منهجًا للحياة، بتطهير النفس أولًا من جميع الرذائل الأخلاقية والإرادات الشريرة، ثم بتحليتها بالمبادئ والقيم والعادات الخيرة والحسنة.

وأخذت هذه الأهمية بعدًا آخر داخل الأسرة؛ لأن الاهتمام بالجانب الأخلاقي للأبناء من شأنه أن يحمي الأسرة والمجتمع من المشكلات، والتلقين للقيم في مرحلة الطفولة مدعاة للتمسك بها وتطبيقها، يقول أبو حامد الغزالي: «والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقـي وهلك، وكـان الـوزر في رقبة القيم عليه والوالي له»(22).

ويمكن للأسرة أن تقوي البناء الأخلاقي، وتتجاوز المشكلات ذات البعد الأخلاقي من خلال:

1- السعي لغرس القيم الأخلاقية في سلوك أفراد الأسرة:

فالنفس الإنسانية تمتلك فطرة طيبة، تجعلها صالحة للخير غير ضائقة به، فإن انحرفت إلى جانب الشر كان ذلك أمرًا عارضًا تجب معالجته، وعامة هذا الانحراف منشؤه من قصور التربية.

يقول ابن القيم: «ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره؛ من حَرْد وغضب ولجاج، وعجلة، وخفة مع هواه، وطيش، وحدة، وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له، فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته ولا بد يومًا ما، ولهـذا تجـد أكثر النـاس منحرفـة أخلاقهم، وذلك من قبل التربية التي نشأ عليها»(23).

فواجب الزوجين رعاية الفطرة الخيرة في نفوسهم ونفوس الأبناء، وحمايتها من عوارض الشر، ويتم ذلك بتكوين القدوة الصالحة، والتعود على مسالك الخير والفضيلة، وغرس مبادئ الأخلاق الإسلامية، وتقبل النصح والتوجيه الأخلاقي.

ومن أهم واجبات الوالدين في تربية الأبناء تعويدهم منذ الصغر على القيم والمبادئ الخلقية التي أقرها الإسلام، وحثت عليها التربية الإسلامية، وأن يُبتدأ بذلك منذ سنين الطفولة المبكرة، حتى إذا شب النشء صارت مثل هذه القيم عادات لديه، ومنهجًا لحياته، وتأخذ هذه الأخلاق والقيم اتجاهات مختلفة، منها:

- الأخلاق الاجتماعية: فيعمل الوالدان على تنشئة الطفل من البداية على اللطف والأدب في معاملة الآخرين، وأن يعود الطفل آداب الحديث وأساليب المعاملة الصحيحة، وتقديم الآخرين على نفسه، وعدم الاعتداء على حقوق الغير.

- الأخلاق الاقتصادية: يغرس الوالدان في الطفل حب العمل والإنتاج، ومعنى الكسب الحلال، وتقدير قيمة الأشياء والحرص عليها، مع التأكيد على الأمانة ومراعاة حقوق الآخرين، والبعد عن أساليب الاستغلال والابتزاز(24).

ومثل هذه الأخلاق والقيم كفيلة بغرس السلوك الأخلاقي السوي، الذي يقي الأسرة من مغبات المشكلات.

3- حسن العشرة:

الزواج في الإسلام هو الوسيلة الوحيدة لبناء الأسرة، والاستقرار النفسي للزوجين، وتنشئة أفراد مسلمين متوازنين ومتكيفين، وحتى يتحقق ذلك لا بد أن تقوم هذا العلاقة على أسس قوية من الأخلاق السوية، وحسن العشرة والمودة .

ومع أن العشرة بالمعروف حق مشترك بين الزوجين؛ فإن الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة جاءت بالتأكيد على حسن العشرة في جانب الزوجة أكثر منها للزوج؛ فجاء الخطاب القرآني للرجال بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، يقول القرطبي في تفسير الآية الكريمة: «المعروف هنا شامل لكل ما من شأنه الإحسان إلى المرأة، فهو أمر من الله بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن؛ لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس، وأهنأ للعيش»(25)، وقد كان قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الخلق، جميل العشرة مع نسائه؛ يحسن إليهن، ويجالسهن، ويداعبهن، ومما روي في ذلك مسابقته لعائشة رضي الله عنها، فقـد قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا خفيفة اللحم، فنزلنا منزلًا، فقال لأصحابه: «تقدموا»، ثم قال لي: «تعالي حتى أسابقك»، فسابقني فسبقته، ثم خرجت معه في سفر آخر، وقد حملت اللحم، فنزلنا منزلًا، فقال لأصحابه: «تقدموا»، ثم قال لي: «تعالي أسابقك»، فسابقني فسبقني، فضرب بيده كتفي وقال: «هذه بتلك»(26).

كما جاءت الأحاديث النبوية كذلك بالحث على حسن العشرة للزوجة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن خلقن من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضِلَع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإِن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا»(27)، ولعل ذلك لسببين رئيسيين:

أولهما: أن الرجل أعطي حق القوامة والرعاية والزوجة أمانة بين يديه، فكان لا بد من التأكيد على اتصاف هذه القوامة بحسن العشرة والتصرف وفق المنهج الإسلامي القويم .

وثانيهما: الطبيعة التي جبلت عليها المرأة من ضعف وتقلب، وحاجة للرعاية والحماية، وحب للدلال والحنان، فواجب الزوج أن يعفو ويتجاوز عن التقصير، ويغض الطرف عن الهفوات البسيطة، ويتذكر أن التكوين النفسي للمرأة يتميز بالعاطفة المندفعة، والرغبة في المعاملة الرقيقة، فأسلوب الشدة قد لا يأتي بفوائد في مواقف كثيرة، وأن المرأة لا تصلح لها المحاكمة المستقصية والمناقشة العسيرة، والرجل يحس بردًا وروحًا حين يعلم أن هذه طبيعة المرأة، فيتقبلها كما هي، ويأخذ نفسه بالحكمة معها والصبر عليها، ولا يجنح إلى الخيال، ولا يتطلب الكمال(28).

ومن حسن العشرة أن تعفو الزوجة وتتجاوز عن بعض الهفوات والتقصير من زوجها، مـع حرصها على كسب رضاه وإصلاح ذريته، فإن رأت منه إعراضًا عنها فعليها أن تحتال لكسب وده، فإحسان العشرة يكون بالحرص على إقامة علاقة زوجية، يتحقق من خلالها بيئة صحية، خالية من أسباب النزاع والشقاق وعوامل الضيق والكآبة، وذلك بالبعد عما يكدر صفو العلاقة، والسعي إلى التعاون على إصلاحها واستقرارها؛ وذلك من خلال الحرص على الإخلاص في أداء الواجب، والتسامح مع التقصير الوارد في الحقوق المتبادلة، والعطف والتلطف في الحديث، واحترام الرأي، والتجاوز عن كل الأمور الصغيرة التي يمكن التجاوز عنها، فلا يحاسب عليها أحد من الزوجين صاحبه، وإذا كان هناك أمر ذو أهمية فيمكن التغلب عليه بمد جسور التفاهم والصراحة بينهما، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلم البشرية، يتجاوز عن هفوات أمهات المؤمنين.

روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏كان ‏عند إحدى أمهات المؤمنين، فأرسلت أخرى بقصعة فيها طعام، فضربت يد الرسول فسقطت القصعة فانكسرت، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم‏ ‏الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام، ويقول:‏ «غارت أمكم، كلوا»، فأكلوا، فأمسك حتى جاءت بقصعتها التي في بيتها، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول، وترك المكسورة في بيت التي كسرتها(29).

والإحسان كذلك في علاقة الآباء بالأبناء، فعلى الرغم مما تتصف به هذه العلاقة من حب فطري قد جبلت عليه الأنفس، إلا أن الإسلام كان حريصًا على تأصيل خاصية الإحسان هنا أيضًا، فحث على معاملة الأبناء بالرفق، وإشباع احتياجاتهم المختلفة، والتدرج في تربيتهم بما يتفق مع مراحل نموهم، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه مع الصغار، وحسن معاشرته لهم، كمثال توجيهه لعمر بن أبي سلمة في أدب الطعام برفق ولين، قال عمر بن أبي سلمة: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانـت يدي تطيـش في الصَّحْفَة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سم الله، وَكُلْ بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طعمتي بعد»(30)، ومما ورد مـن مداعبتـه للصغار وتلطفه معهم ما رواه ‏أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم ‏أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له ‏أبو عمير،‏ قال: أحسبه فطيمًا، وكان إذا جاء قال: ‏«يا‏ ‏أبا عمير، ‏ما فعل ‏‏النغير؟‏»، ‏نغر كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا»(31).

ومما لا شك فيه أن العشرة الحسنة بين أفراد الأسرة عامل مهم في تحقيق التماسك الأسري، والتغلب على المشكلات.

المعالجة الاجتماعية لمشكلات الأسرة:

1- تقوية البناء الداخلي للأسرة: تحتاج الأسرة للسعي الدءوب في تقوية بنائها الداخلي؛ لتتمكن من مواجهة ما يمكن تسميته بالتأثيرات الخارجية المسببة للمشكلات؛ فتسعى الأسرة بداية على تقوية الأسس العقدية والتعبدية لأفرادها، وتزويدهم بقدر كاف من الثقافة الإسلامية، تمكنهم من التعامل وفق الأصول الإسلامية، والوعي بخطر المؤثرات الخارجية.

كما تسعى الأسرة إلى تأصيل القيم الأخلاقية في أفرادها، وأن تقوم طرق التواصل داخل الأسرة وخارجها وفق هذه القيم، كذلك تسعى الأسرة إلى تحقيق الصحة النفسية لأفرادها من خلال إشباع الاحتياجات، وفهم النفسيات، وتحقيق فرص أكبر للتواصل، كما تحرص الأسرة على اتباع الأساليب السوية والفاعلة في التوجيه والتربية، ومن خلال كل ما سبق يمكن للأسرة أن تصبح أكثر تماسكًا وقدرةً على مواجهة التأثيرات السلبية الخارجية.

2- تكامل جهود مؤسسات المجتمع في التصدي لمشكلات الأسرة:

وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع المسلم بالجسد الواحد، فقال صلى الله عليه وسلم: «‏‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا ‏اشتكى ‏‏منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(32)، فالمجتمع المسلم وحدة متكاملة، ومن هذا المنطلق يجب أن تتم معالجة أي مشكلة اجتماعية، عبر تسخير مؤسسات التربية جميعها.

فيقوم المسجد بدوره التربوي في مساندة الأسر المسلمة دينيًا وتربويًا واجتماعيًا، ويمكن لذلك أن يتم بشكل وقائي وعلاجي:

دور وقائي: ويتمثل في التوعية العامة بالعقيدة والعبادات والمعاملات الإسلامية، وبالأخلاق والقيم والمبادئ الإسلامية التي دعت إليها الشريعة، والتوعية بالحقوق والواجبات لكلا الزوجين، وحقوق وواجبات الآباء والأبناء، والتوعية بطرق التوجيه والتربية وفق الأسس والأصول الإسلامية.

دور علاجي: يمكن للمسجد أن يضم لجنة لإصلاح ذات البين، وحل المشكلات المختلفة لأفراد الحي، بما في ذلك المشكلات الأسرية التي يمكن أن تستعصي على أفراد الأسرة، وتتكون هذه اللجنة من أفراد من الحي، ممن يشهد لهم بالحكمة والصلاح، ويشرف عليهم إمام المسجد، ومثل هذا النموذج للمعالجة ثابت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام من بعده.

ولا نغفل دور مؤسسات الرعاية الأسرية في رفع مستوى وعي أفراد المجتمع بأهمية الأسرة وخطورة المشكلات، والسعي لإقامة الدورات التدريبية لأفراد الأسرة، وتقديم الاستشارات، وإصلاح ذات البين.

وتكامل جهود المؤسسات المختلفة من شأنه أن يُكَوِّن بيئة اجتماعية مساندة للأسرة في جوانب عدة، ويقلل من أثر المشكلات التي تواجه الأسرة المسلمة(33).

***

_________________

(1) إسهامـات الخدمـة الاجتماعيـة في مجال الأسرة والسكان، ص80-93.

(2) التفكك الأسري.. دعوة للمراجعة، ص37.

(3) تفسير القرآن العظيم (4/ 544).

(4) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص180.

(5) سيكولوجية العلاقات الأسرية، ص250.

(6) واقعنا المعاصر، ص195.

(7) المرجع السابق، ص274.

(8) أخرجه البخاري (5136).

(9) في ظلال القرآن (6/ 3616).

(10) أخرجه البخاري (5090).

(11) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (9/ 50).

(12) أخرجه الترمذي (1084).

(13) إحياء علوم الدين (2/ 41).

(14) أخرجه ابن ماجه (1859).

(15) أخرجه البخاري (5091).

(16) أخرجه مسلم (1426).

(17) الطبقات الكبرى (1/ 387).

(18) تفسير القرآن العظيم (7/ 58-59).

(19) أخرجه أبي داود (1453).

(20) أخرجه النسائي (9131).

(21) أخرجه أحمد (2802).

(22) إحياء علوم الدين (3/ 72).

(23) تحفة المودود بأحكام المولود، ص146.

(24) التربية المتكاملة للطفل المسلم في البيت والمدرسة، ص286.

(25) الجامع لأحكام القرآن (3/ 64).

(26) أخرجه النسائي (8894).

(27) أخرجه البخاري (5186).

(28) الأسرة في الإسلام، ص49.

(29) أخرجه النسائي (8853).

(30) أخرجه البخاري (5376).

(31) أخرجه البخاري (6203).

(32) أخرجه مسلم (2585).

(33) المشكلات الأسرية.. بعض الأسباب والمعالجة، أميرة أحمد عبيد، موقع: المربي.