تحاور مع ابنك
إن الآباء والأمهات بحاجة ماسة إلى مد جسور الثقة بينهم وبين أبنائهم، حتى يستطيع الآباء والأمهات التأثير في الأبناء، فالإنسان، كبيرًا كان أو صغيرًا، يتأثر بمن يحبه ويُعجب به، وهذا التأثير يزداد ويقوى كلما ازدادت الصلة والثقة المتبادلة بين الآباء والأمهات وبين الأبناء.
كذلك فإن هذه الثقة والصلة هي وسيلة من أنجع الوسائل لتصحيح خطأ الأبناء، وتقويم اعوجاجهم، وتصحيح سلوكهم.
وهذه الثقة والصلة التي تكون بين الآباء والأمهات وبين الأبناء، لا يمكن بناءها أو تشييدها وتوطيدها إلا عن طريق الحوار البناء مع الأبناء، ومن هنا تأتي أهمية تحاور الآباء والأمهات مع الأبناء.
إن الحوار البنّاء يحترم الذات الوجدانية للأبناء، فلا يشعر الأبناء بأن الآباء يفرضون عليهم أفكارهم وتجاربهم وخبراتهم، وإنما تجعل طريقة الحوار تلك الخبرات تنمو مع الأبناء عن طريق اكتسابها، وتلقينها لهم عن طريق المناقشة الهادئة في الحوار البنّاء.
كذلك فإن من مميزات الحوار البنّاء مع الأبناء أن يدفعهم إلى التفكير العميق، والملاحظة، والاستنتاج، والتفكير كثيرًا في أكثر الكلمات التي طرحت في خلال المناقشة، ويأخذ يبحث عن السببية لفطرته التي كان يود طرحها، ثم يظهر له، في بعض الأحيان، خطؤه في تلك الفكرة التي كان يعتقد صحتها، وأن كلام والده صحيح، وهو مدعوم بالأدلة والبراهين، وهكذا ينمو داخل الأبناء روح التفكير والحوار والمناقشة والاقتناع عن دليل وحجة.
وهذا طبعًا يزيد من ثقة الابن بنفسه، وبالتالي فعندما يطرح الفكرة التي علم صحتها من خلال المناقشة فإنه يطرحها بقوة؛ لأنه يعلم مدى صحتها والسبب لهذه الصحة، فيكتسب الثقة في النفس والقوة في الحجة.
وكما كتب كثير من علماء التنمية البشرية، فإن للحوار أساليب وآدابًا وقواعد، وهو ما يسمى بـ"فن الحوار"، هذا الفن يجب أن يتعلمه كل من الآباء والأمهات؛ حتى يستطيعوا التحاور مع أبنائهم بشكل صحيح، وحتى يؤتي الحوار ثمراته المرجوة، فالحوار يحتاج إلى القليل من الروية، والكثير من التدريب.
للحوار طرق كثيرة، منها الحوار التعليمي، وهو الحوار الذي تحاول أن تعلم ابنك أمرًا ما، إذا سألك سؤالًا، أو إذا ارتأيت أن تعلمه أمرًا يجهله، وفي هذا الحوار لا بد أن تستعمل مثل تلك الكلمات: "دعني أشرح لك" "راقب كيف أقوم بذلك، ثم حاول أن تفعل مثلي" "دعنا نرى كيف يمكن أن نحل ذلك معًا" "لست متأكدًا من الإجابة الصحيحة، دعنا نبحث عن ذلك" "لا بأس، الوقوع في الخطأ هو وسيلة تعلم الصواب".
وبالطبع تعد نغمة الصوت عاملًا أساسيًا، فعندما تقول لابنك: "افعل ذلك بهذه الطريقة" بنغمة خشنة وغاضبة، فسيفهم الابن ذلك على أنه انتقاد له، وبالتالي يزيد توتره، وربما دفعه ذلك إلى عدم اللجوء إليك لطلب مساعدتك في المستقبل(1).
والنبي صلى الله عليه وسلم هو خير من يعلمنا هذا الحوار التعليمي، فعن معاذ بنجبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا نبي الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، قال: «لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت».
ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل»، ثم قرأ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِع} [السجدة:16]، حتى بلغ {يَعْمَلُون} [السجدة:17].
ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟»، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»، ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟»، فقلت له: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: «كف عليك هذا»، فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم»(2).
وهناك أيضًا الحوار الذي يخاطب المشاعر والأحاسيس الداخلية للأبناء، فقد تجد ابنك حزينًا؛ لأن صديقه مرض مرضًا شديدًا، فيجب حينها أن تشعره أنك حزين لحزنه، وحزين لمرض صاحبه، فتشعره بأنك تشعر به وتحس بما في داخله، فتقول له: "إنني حزين مثلك لمرض صديقك، سيعجل الله بشفائه إن شاء الله"، ولا يجب أبدًا أن تقول له: "لا تقلق، سيشفى صديقك قريبًا، فلا تحزن"، حينها سيشعر أنك لا تشعر به، ولن يشعر بتلك المشاركة الوجدانية التي كان ينتظرها منك في هذا الحوار الوجداني.
وهناك أيضًا الحوار التفاوضي؛ بمعنى أن الأبناء يأتون إلى والديهم يريدون طلبًا ما، كالذهاب إلى أصدقائهم، أو التنزه، أو الجلوس على الكمبيوتر قبل البدء في المذاكرة، أو بعضًا من المال لأجل شراء بعض الحاجيات الشخصية، وغير ذلك من الأمور، والوالدان يريان عدم تلبية هذا الطلب؛ لعدم جديته، أو لعدم أهميته، أو أن الوقت غير مناسب، وفي هذه اللحظة ينشأ الحوار التفاوضي.
فيجب على الآباء والأمهات والأبناء أن يصلوا إلى حل مبني على التفاوض، فمثلًا تقول له: أعلم أنك تريد الذهاب إلى صديقك، ولكن الطقس بارد جدًا اليوم، ما رأيك أن تجعل تلك الزيارة حين يتحسن الطقس، واطمئن على صديقك بالهاتف.
إن أهم سمة لا بد أن يتسم بها الحوار البنّاء هي الهدوء والتواصل البصري، فإذا ما تحدثت مع ابنك "فاجعل عينك تقابل عينه، واسمح للحب أن يطل من عينيك، وهنا ينتقل الإحساس الجميل إلى أعماق الابن"(3).
إن الحوار مع الأبناء من الأمور المهمة التي ينبغي على الآباء والأمهات أن يراعوها مع أبنائهم، فلا تترك ابنك يلجأ إلى من يعلمه الخطأ ويزكيه في نفسه؛ ذلك لأن هذا الأخير يتحاور معه ويحادثه ويسمع إليه، وأنت كل ما تفعله تصدر الأوامر والتوجيهات، ولا تريد لأحد أن يناقشك أو يقول لك: لماذا؟، إن هذا مما ينفر الأبناء عن الحوار مع الآباء والأمهات.
تحاور مع ابنك، واستمع إلى وجهة نظره، عليك بالثناء على الأمور الجيدة التي ذكرها في حواره، واشكره عليها، ثم ناقشه فيما ذكره وكان مخطئًا فيه، واذكر له الحجج والأدلة التي تعضد رؤيتك وتهدم الرؤية الخاطئة التي أرادها، حينها سيلجأ إليك الابن عندما تعترضه أي عقبة؛ ذلك لأنه يثق تمامًا أنك ستسمعه وتحاوره وتناقشه، حتى تخرجا بالحل الصحيح الذي يرضاه.
____________
(1) كيف تقولها لأطفالك، بول كولمان، ص7.
(2) رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني في إرواء الغليل (413).
(3) تربية الأبناء في الزمن الصعب، بنجامين سبوك، ص29.