logo

المرأة والتربية الواقع والمتوقع


بتاريخ : الاثنين ، 18 شعبان ، 1446 الموافق 17 فبراير 2025

 

إن العالم اليوم بأسره يشكو من المشكلات والمصاعب، ويتأوه من الصعوبات والمآزق، ويجِدُّ الباحثون عن حلول ومقترحات، ويفتش المصلحون عن أدوية وعلاجات، ليعيش الإنسان في راحة وأمان، ولمَّا يهتدوا لسبيل بعد، وإنه لمن حسن العمل أن يدرك المصلحون أصل المشكلة، ويعرفوا أُسَّ القضية، ألا وهي الإنسان.

 

فعلاج أي مشكلة منبعه الإنسان، ذلك أنه هو محور الكون، والإنسان في الحقيقة ليس هو الجسد، فكل الكائنات الحية تمتلك هذه الصفة، بل الإنسان هو التربية التي يحملها، والقيم التي يعتقدها، والسلوك الذي يقوم به.

 

فأهم مشكلة تواجه الأمة اليوم، هي الإنسان وبناؤه بناءً متصلًا بتراثه وثقافته، متفاعلًا مع عصره، وملتـزمًا بقضايا مجتمعه وأمته.

 

وإذا أُهمل الإنسان ونشأ بلا تربية انفصل عن جذوره، فضاع وأضاع مَن حوله.

 

وإن التقدم والرقي لا يتحقق بالسياسة ولا بالمال فحسب، بل يتحقق بالأساس، وهو إعداد الجيل الذي يُسهم في إيجاد بنية ذاتية متطورة تعزز التقدم المنشود، وتكرس الرقي المطلوب.

 

وإن ما يميز أفراد مجتمع ما عن أفراد مجتمع آخر، هو ثقافة ذلك المجتمع، ونوع التربية السائدة فيه، إذ لا يميزهم غناهم أو فقرهم، ولا يتميزون بألوان عيونهم، أو أشكال أجسادهم، وإنما يتميزون بالتربية التي يتلقونها، والتي تجعل منهم أشخاصًا أصحاب هوية معينة ولون محدد، وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» (1).

 

فعلى سبيل المثال عندما يُذكر المجتمع الياباني هذه الأيام فإنه يقفز إلى الأذهان العلم والتكنولوجيا والتقدم والاختراع والعمل الدؤوب، وعندما يُذكر مجتمع الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقفز إلى الذهن عصر العلم والحضارة، والتنشئة السوية والتربية الصالحة.

 

أهمية الأم في تربية الطفل

عندما استخلف الله آدم على الأرض حملت حواء على عاتقها مهمة التكاثر، ولولاها لانقطع نسل البشرية، فهي من تتحمل متاعب الحمل وآلام الولادة التي لا وصف لها يفيها حقها من شدتها وصعوبتها، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]، ثم هي من تتولى رعاية الأبناء منذ الرضاعة والطفولة والمراهقة والنضوج.

 

تلك هي وظيفة المرأة الأولى التي هيأها الله لها بالفطرة، والتي اجتمعت عليها نساء العالم في مشارق الأرض ومغاربها.. الغنية منهن والفقيرة والعربية والعجمية والمتعلمة والجاهلة والشريفة والوضيعة، وذلك قبل تدخل العلمانية وإفسادها لفطرة النساء وتخريبها لحياتهن بعد أن نشرت سمومها عبر الإعلام، وروجت لخروج النساء من بيوتهن ليكدحن وراء لقمة العيش ويجرين وراء المادة، حتى ولو كُنَّ في غنى عن ذلك، فنتج من ذلك انتشار الاختلاط الفاحش، ونشر الرذيلة، وتفكك الأسر، وضياع الأطفال.

وتحتل الأم مكانة مهمة وأساسية في التربية، ويبدو ذلك من خلال الأمور الآتية:

الأمر الأول: أثر الأسرة في التربية:

فالأسرة أولًا هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي التي تغرس لدى الطفل المعايير التي يحكم من خلالها على ما يتلقاه فيما بعد من سائر المؤسسات في المجتمع، فهو حينما يغدو إلى المدرسة ينظر إلى أستاذه نظرةً من خلال ما تلقاه في البيت من تربية، وهو يختار زملاءه في المدرسة من خلال ما نشأته عليه أسرته، ويقيِّم ما يسمع وما يرى من مواقف تقابله في الحياة، من خلال ما غرسته لديه الأسرة، وهنا يكمن دور الأسرة وأهميتها وخطرها في الميدان التربوي.

 

إن الأسرة هي البيئة الطبيعية الأولى التي تتعهد الطفل بالرعاية والتنشئة الاجتماعية منذ الصغر، ونظرًا لِما لها من أهمية في غرس القيم في نفوس الأطفال، فقد اهتمَّ بها الإسلام باعتبارها مؤسسةً تربوية خطيرة، وباعتبارها ذات تأثير بالغ في تربية الأطفال - على الأسرة أن تبرز قيمة الفضائل وآثاره الفردية والاجتماعية، وأن تُلقن الطفل مبادئ الدين، وتُمرنهم على العبادات، وتعوِّدهم على ممارسة فعل الخير، ومِن ثَمَّ يجب على الوالدين أن يغرسا في نفوس أبنائهم القيم والفضائل الإسلامية الحميدة، ولا تحمل الأسرة وحدَها العبءَ في مجال غرس القيم والفضائل، ومن ثم فإن المدرسة والمسجد يسهمان بدور بارز في هذا المجال (2).

 

الأمر الثاني: الطفل يتأثر بحالة أمه وهي حامل:

تنفرد الأم بمرحلة لا يشركها فيها غيرها وهي مرحلة الحمل؛ فإن الجنين وهو في بطن أمه يتأثر بمؤثرات كثيرة تعود إلى الأم، ومنها:

التغذية فالجنين على سبيل المثال يتأثر بالتغذية ونوع الغذاء الذي تتلقاه الأم، وهو يتأثر بالأمراض التي قد تصيب أمه أثناء الحمل، ويتأثر أيضًا حين تكون أمه تتعاطى المخدرات، وربما أصبح مدمنًا عند خروجه من بطن أمه حين تكون أمه مدمنة للمخدرات، ومن ذلك التدخين، فحين تكون المرأة مدخنة فإن ذلك يترك أثرًا على جنينها، ولهذا فهم في تلك المجتمعات يوصون المرأة المدخنة أن تمتنع عن التدخين أثناء فترة الحمل أو أن تقلل منه؛ نظرًا لتأثيره على جنينها، ومن العوامل المؤثرة أيضًا: العقاقير الطبية التي تناولها المرأة الحامل، ولهذا يسأل الطبيب المرأة كثيرًا حين يصف لها بعض الأدوية عن كونها حامل أو ليست كذلك.

 

يطلب طبيب مجرب من أم حامل في شهرها السادس -كانت تعتاد التدخين- أن تمتنع عنه لمدة أربع وعشرين ساعة، وهو يتابع الجنين بأجهزة التصوير الضوئي، فإذا به ساكن هادئ، وبينما هو كذلك، إذ قدم لها الطبيب لفافة سيجارة -عافانا الله وإياكم- وما أن وضعتها بين أصابعها، وتمَّ إشعالها إلا وأشار المقياس إلى اضطراب الجنين تبعًا لاضطراب قلب أمه.

 

فسبحان من جعله في وسط ظلمات ثلاث، يتأذى مما تتأذى منه أمه تبعاً وإن لم تشعر أمه بذلك!

حالة الأم الانفعالية أثناء الحمل، فقد يخرج الطفل وهو كثير الصراخ في أوائل طفولته، وقد يخرج الطفل وهو يتخوف كثيرًا، وذلك كله بسبب مؤثرات تلقاها من حالة أمه الانفعالية التي كانت تعيشها وهي في حال الحمل، وحين تزيد الانفعالات الحادة عند المرأة وتكرر فإن هذا يؤثر في الهرمونات التي تفرزها الأم وتنتقل إلى الجنين، وإذا طالت هذه الحالة فإنها لا بد أن تؤثر على نفسيته وانفعالاته وعلى صحته، ولهذا ينبغي أن يحرص الزوج على أن يهيئ لها جوًا ومناخًا مناسبًا، وأن تحرص هي على أن تتجنب الحالات التي تؤدي بها حدة الانفعال.

 

اتجاه الأم نحو حملها أو نظرتها نحو حملها؛ فهي حين تكون مسرورة مستبشرة بهذا الحمل لا بد أن يتأثر الحمل بذلك، وحين تكون غير راضية عن هذا الحمل فإن هذا سيؤثر على هذا الجنين، ومن هنا وجه الشرع الناس إلى تصحيح النظر حول الولد الذكر والأنثى، قال سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى: 49، 50]، فهو سبحانه وتعالى له ما يشاء وله الحكم سبحانه وتعالى؛ فيقرر للناس أنه عز وجل صاحب الحكم والأمر، وما يختار الله سبحانه وتعالى أمرًا إلا لحكمة.

 

حين ترغب الأم في الحمل ثم تحمل، تجدها ترسل إليه -بإذن الله- موجاتٍ من العواطف المكثَّفة، وتغمره بفيض زاخر من الرضا والحنان، فيبادلها الشعور مبتهجًا وكأنه يشكرها على حسن لقائها ورعايتها، ويعبر عن امتنانه لها بحركات لطيفة ساحرة، لا حد لعذوبتها على قلب أمه، فسبحان الله، وتبارك الله أحسن الخالقين.

 

وحين لا ترغب الأم في الحمل، ثم تحمل مكرهة، تقطع الصِّلة العاطفية مع الجنين، فتراه يحيا منكمشاً، ثم يبدأ يتَّجه نحو المشاكسة، ويعبر عن ذلك بركلات من قدميْه تعبر عن احتجاجه واستنكاره، ولربما يصبح سقطًا فيما بعد، وإن لم يسقط فإنه يبدو مهيأً للعناد والرفض والعدوان بعد ولادته، ويظهر ذلك في أول أيام ولادته.

 

يذكر صاحب: سنريهم آياتنا أن امرأة حملت مكرهة، وحاولت إسقاط الجنين ولم تستطع؛ إذ قد ثبته الله، فجعله في قرار مكين؛ فأنَّى لأحدٍ أن يسقطه؟

 

ولدت بعد ذلك، وكان المولود أنثى، ولما وُلدت رفضت أن تتناول ثدي أمها، وأصرَّت أيامًا على هذا، ولكنها مع ذلك قبلت أن ترضع من مرضعة أخرى غير أمها، عندها أغمضت عيناها، وأعيدت إلى أمها معصوبة العينين، فرفضت ثديها مرة أخري وهي لم تره، فأجرى الطبيب حوارًا مع أمها، تبين أن الأم لم تكن راغبة في الحمل، فحملت على كُرْه، وحاولت الاعتداء عليه بإسقاطه، فانعكس ذلك على الجنين بعد ولادته.

 

إنها أحاسيس ومشاعر وأفعال أمه، تنعكس عليه فحسب، وإلا فهو لا يعلم شيئًا بنص قول الله جل وعلا: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:٧٨] لا تعلمون شيئًا مما أخذ عليكم من الميثاق، ولا تعلمون شيئًا مما قضى به عليكم من السعادة والشقاوة، ولا تعلمون مصالحكم ومنافعكم؛ فهم يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون، وبعد خروجهم يرزقهم الله السَّمع؛ فالأصوات يدركون، ويرزقهم البصر؛ فالمرئيات يعرفون ويحسون، ويرزقهم الأفئدة؛ فبها يميِّزون، وتحصل هذه الحواس بأمر الله تدريجيًا، كلما كبر زِيدَ في سمعه وبصره حتى يبلغ أشده ليتمكن بها من عبادة ربه وطاعة مولاه سبحانه وبحمده.

 

طالعت أمهات هذه الحقائق فكن يَبحثْن عمَّا يريح أحاسيسهنَّ ومشاعرهنَّ أثناء الحمل لينعكس على أبنائهن، ينشدن ويسمعن آيات من كتاب الله، ولذا جاء في نفس الكتاب الماضي: أن سيدة حاملة في دمشق كانت تكثر من قراءة القرآن وسماعه قائمة وعاملة ومضطجعة، والنتيجة أنه عندما وُلِد الجنين تمكن -بفضل الله- أن يختم القرآن؛ حفظًا وتلاوة في الخامسة من عمره، فتبارك الله أحسن الخالقين.

 

موجز القول: أن الجنين الذي يحيا في رباط مع أمه، سعيد من العواطف المُفْعَمة بالرضا والسكينة، يستجيب -بإذن ربه- بعد ولادته، معترفًا بإحسان أمه إليه في سلوك سَويٍّ ونفسية هادئة غالبًا، لسان حاله: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن: ٦٠] (3).

 

الأمر الثالث: دور الأم مع الطفل في الطفولة المبكرة:

الطفولة المبكرة مرحلة مهمة لتنشئة الطفل، ودور الأم فيها أكبر من غيرها، فهي في مرحلة الرضاعة أكثر من يتعامل مع الطفل، ولحكمة عظيمة يريدها الله سبحانه وتعالى يكون طعام الرضيع في هذه المرحلة من ثدي أمه وليس الأمر فقط تأثيرًا طبيًّا أو صحيًّا، وإنما لها آثار نفسية أهمها إشعار الطفل بالحنان والقرب الذي يحتاج إليه، ولهذا يوصي الأطباء الأم أن تحرص على إرضاع الطفل، وأن تحرص على أن تعتني به وتقترب منه لو لم ترضعه.

 

وهنا ندرك فداحة الخطر الذي ترتكبه كثير من النساء حين تترك طفلها في هذه المرحلة للمربية والخادمة؛ فهي التي تقوم بتنظيفه وتهيئة اللباس له وإعداد طعامه، وحين يستعمل الرضاعة الصناعية فهي التي تهيئها له، وهذا يفقد الطفل قدرًا من الرعاية النفسية هو بأمس الحاجة إليه.

 

فالمقصود أن الأم كما قلنا تتعامل مع هذه المرحلة مع الطفل أكثر مما يتعامل معه الأب، وفي هذه المرحلة سوف يكتسب العديد من العادات والمعايير، ويكتسب الخلق والسلوك الذي يصعب تغييره في المستقبل، وهنا تكمن خطورة دور الأم فهي البوابة على هذه المرحلة الخطرة من حياة الطفل فيما بعد، حتى أن بعض الناس يكون مستقيمًا صالحًا متدينًا لكنه لم ينشأ من الصغر على المعايير المنضبطة في السلوك والأخلاق، فتجد منه نوعًا من سوء الخلق وعدم الانضباط السلوكي، والسبب أنه لم يترب على ذلك من صغره.

 

الأمر الرابع: دور الأم مع البنات:

لئن كانت الأم أكثر التصاقًا بالأولاد عمومًا في الطفولة المبكرة، فهذا القرب يزداد ويبقى مع البنات.

 

ولعل من أسباب ما نعانيه اليوم من مشكلات لدى الفتيات يعود إلى تخلف دور الأم التربوي، فالفتاة تعيش مرحلة المراهقة والفتن والشهوات والمجتمع من حولها يدعوها إلى الفساد وتشعر بفراغ عاطفي لديها، وقد لا يشبع هذا الفراغ إلا في الأجواء المنحرفة، أما أمها فهي مشغولة عنها بشؤونها الخاصة، وبالجلوس مع جاراتها وزميلاتها، فالفتاة في عالم والأم في عالم آخر.

 

إنه من المهم أن تعيش الأم مع بناتها وتكون قريبة منهن؛ ذلك أن الفتاة تجرؤ أن تصارح الأم أكثر من أن تصارح الأب، وأن تقترب منها وتملأ الفراغ العاطفي لديها.

 

ويزداد هذا الفراغ الذي تعاني منه الفتاة في البيت الذي فيه خادمة، فهي تحمل عنها أعباء المنزل، والأسرة ترى تفريغ هذه البنت للدراسة لأنها مشغولة في الدراسة، وحين تنهي أعباءها الدراسية يتبقى عندها وقت فراغ، فبم تقضي هذا الفراغ: في القراءة؟ فنحن لم نغرس حب القراءة لدى أولادنا.

 

وبين الأم وبين الفتاة هوة سحيقة، تشعر الفتاة أن أمها لا توافقها في ثقافتها وتوجهاتها، ولا في تفكيرها، وتشعر بفجوة ثقافية وفجوة حضارية بينها وبين الأم؛ فتجد البنت ضالتها في مجلة تتحدث عن الأزياء وعن تنظيم المنزل، وتتحدث عن الحب والغرام، وكيف تكسبين الآخرين فتثير عندها هذه العاطفة، وقد تجد ضالتها في أفلام الفيديو، أو قد تجد ضالتها من خلال الاتصال مع الشباب في الهاتف، أو إن عدمت هذا وذاك ففي المدرسة تتعلم من بعض زميلاتها مثل هذه السلوك.

 

الأمر الخامس: الأم تتطلع على التفاصيل الخاصة لأولادها

تتعامل الأم مع ملابس الأولاد ومع الأثاث وترتيبه، ومع أحوال الطفل الخاصة فتكتشف مشكلات عند الطفل أكثر مما يكتشفه الأب، وبخاصة في وقتنا الذي انشغل الأب فيه عن أبنائه، فتدرك الأم من قضايا الأولاد أكثر مما يدركه الأب.

 

هذه الأمور السابقة تؤكد لنا دور الأم في التربية وأهميته، ويكفي أن نعرف أن الأم تمثل نصف المنزل تمامًا ولا يمكن أبدًا أن يقوم بالدور التربوي الأب وحده، أو أن تقوم به المدرسة وحدها، فيجب أن تتضافر جهود الجميع في خط واحد.

 

لكن الواقع أن الطفل يتربى على قيم في المدرسة يهدهما المنزل، ويتربى على قيم في المنزل مناقضة لما يلقاه في الشارع؛ فيعيش ازدواجية وتناقضًا، المقصود هو يجب أن يكون البيت وحده متكاملة.

 

لا يمكن أن أتحدث معشر الأخوة والأخوات خلال هذه الأمسية وخلال هذا الوقت، لا يمكن أن أتحدث عن الدور الذي ننتظره من الأم في التربية، إنما هي فقط مقترحات أردت أن أسجلها.

 

كان لأم سفيان الثوري رحمهما الله عظيم الأثر في تنشئة سفيان تنشئة صالحة، وتربيته تربية حسنة، فقد ربَّته على حب طلب العلم، والاشتغال به؛ فعن وكيع قال: «قالت أم سفيان لسفيان: اذهب فاطلب العلم، حتى أعولك بمغزلي (الغزل فتل الصُّوف أَو الْقطن وَنَحْوهمَا بالمغزل)، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة، فاتبعه وإلا فلا تتعنَّ»، أي فلا تتعب نفسك، ولا تهتم بذلك كثيراً. وكانت هي السبب الرئيس في رعاية ولدها، وتشجيعه على طلب العلم، وحثه عليه، وتكفلت بالنفقة عليه، بل إنها كانت أمًّا فقيهة فلم تقتصر على حثه على كتابة الحديث وحفظه فحسب، بل أرشدته على العلم الذي يقرب إلى لله، وهو العمل بالعلم، وخشية الله في الغيب والشهادة، فقالت له: «فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث فانظر؛ هل تجد في نفسك زيادة، فاتبعه وإلا فلا تتعن» لسان حالها: تأمل في نفسك: هل إذا حفظت حديثًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  تزداد خشية لله، وخوفاً منه، ودليل ذلك: قيامك بفعل المأمور، واجتناب المحذور؟ فإن كنت كذلك فهذا هو المطلوب والمقصود من حفظ الحديث.

 

وسائل مقترحة لبناء السلوك وتقويمه:

يعتقد كثير من الآباء والأمهات أن غرس السلوك إنما يتم من خلال الأمر والنهي، ومن خلال العقوبة والتأديب، وهذه لا تمثل إلا جزءًا يسيرًا من وسائل تعليم السلوك، وفي هذه العجالة أشير إلى بعض الوسائل التي يمكن أن تفيد الأم في غرس السلوك الحسن، أو تعديل السلوك السيئ، وهي على سبيل المثال لا الحصر: يعتقد كثير من الآباء والأمهات أن غرس السلوك إنما يتم من خلال الأمر والنهي، ومن خلال العقوبة والتأديب، وهذه لا تمثل إلا جزءًا يسيرًا من وسائل تعليم السلوك، وفي هذه العجالة أشير إلى بعض الوسائل التي يمكن أن تفيد الأم في غرس السلوك الحسن، أو تعديل السلوك السيئ، وهي على سبيل المثال لا الحصر:

 

1- التجاهل:

يعمد الطفل أحيانًا إلى أساليب غير مرغوبة لتحقيق مطالبه، كالصراخ والبكاء وإحراج الأم أمام الضيوف وغير ذلك، والأسلوب الأمثل في ذلك ليس هو الغضب والقسوة على الطفل، إنما تجاهل هذا السلوك وعدم الاستجابة للطفل، وتعويده على أن يستخدم الأساليب المناسبة والهادئة في التعبير عن مطالبه، وأسلوب التجاهل يمكن أن يخفي كثيرًا من السلوكيات الضارة عند الطفل أو على الأقل يخفف من حدتها.

 

2- القدوة:

لست بحاجة للحديث عن أهمية القدوة وأثرها في التربية، فالجميع يدرك ذلك، إنني حين أطالب الطفل بترتيب غرفته ويجد غرفتي غير مرتبة، وحين أطالبه أن لا يتفوه بكلمات بذيئة ويجدني عندما أغضب أتفوه بكلمات بذيئة، وحين تأمره الأم ألا يكذب، ثم تأمره بالكذب على والده حينئذ سنمحو بأفعالنا ما نبنيه بأقوالنا.

 

3- المكافأة:

المكافأة لها أثر في تعزيز السلوك الإيجابي لدى الطفل، وهي ليست بالضرورة قاصرة على المكافأة المادية فقد تكون بالثناء والتشجيع وإظهار الإعجاب، ومن وسائل المكافأة أن تعده بأن تطلب من والده اصطحابه معه في السيارة، أو غير ذلك مما يحبه الطفل ويميل إليه.

 

ومما ينبغي مراعاته أن يكون استخدام المكافأة باعتدال حتى لا تصبح ثمنًا للسلوك.

 

4- الإقناع والحوار:

من الأمور المهمة في بناء شخصية الأطفال أن نعودهم على الإقناع والحوار، فنستمع لهم وننصت، ونعرض آراءنا وأوامرنا بطريقة مقنعة ومبررة، فهذا له أثره في تقبلهم واقتناعهم، وله أثره في نمو شخصيتهم وقدراتهم.

 

وهذا أيضًا يحتاج لاعتدال، فلا بد أن يعتاد الأطفال على الطاعة، وألا يكون الاقتناع شرطًا في امتثال الأمر.

 

5- وضع الأنظمة الواضحة:

من المهم أن تضع الأم أنظمة للأطفال يعرفونها ويقومون بها، فتعودهم على ترتيب الغرفة بعد استيقاظهم، وعلى تجنب إزعاج الآخرين.. إلخ، وحتى يؤتي هذا الأسلوب ثمرته لا بد أن يتناسب مع مستوى الأطفال، فيعطون أنظمة واضحة يستوعبونها ويستطيعون تطبيقها والالتزام بها.

 

6- التعويد على حل الخلافات بالطرق الودية:

مما يزعج الوالدين كثرة الخلافات والمشاكسات بين الأطفال، ويزيد المشكلة كثرة تدخل الوالدين، ويجب أن تعلم الأم أنه لا يمكن أن تصل إلا قدر تزول معه هذه المشكلة تمامًا، إنما تسعى إلى تخفيف آثارها قدر الإمكان، ومن ذلك:

 

تعويدهم على حل الخلافات بينهم بالطرق الودية، ووضع الأنظمة والحوافز التي تعينهم على ذلك، وعدم تدخل الأم في الخلافات اليسيرة، فذلك يعود الطفل على ضعف الشخصية وكثرة الشكوى واللجوء للآخرين.

 

7- تغيير البيئة:

ولذلك وسائل عدة منها:

أولًا: إغناء البيئة: وذلك بأن يهيأ للطفل ما يكون بديلًا عن انشغاله بما لا يرغب فيه، فبدلًا من أن يكتب على الكتب يمكن أن يعطى مجلة أو دفترًا يكتب فيه ما يشاء، وبدلًا من العبث بالأواني يمكن أن يعطى لعبًا على شكل الأواني ليعبث بها.

 

ثانيًا: حصر البيئة: وذلك بأن تكون له أشياء خاصة، كأكواب خاصة للأطفال يشربون بها، وغرفة خاصة لألعابهم، ومكان خاص لا يأتيه إلا هم؛ حينئذ يشعر أنه غير محتاج إلى أن يعتدي على ممتلكات الآخرين.

 

ومن الخطأ الاعتماد على قفل باب مجالس الضيوف وغيرها، فهذا يعوده على الشغف بها والعبث بها، لأن الممنوع مرغوب.

 

لكن أحيانًا تغفل الأمهات مثلًا المجلس أو المكتبة، ترفع كل شيء عنه صحيح هذا يمنعه وحين يكون هناك فرصة للدخول يبادر بالعبث لأن الشيء الممنوع مرغوب.

 

ثالثًا: تهيئة الطفل للتغيرات اللاحقة: الطفل تأتيه تغييرات في حياته لا بد أن يهيأ لها، ومن ذلك أنه يستقل بعد فترة فينام بعيدًا عن والديه في غرفة مستقلة، أو مع من يكبره من إخوته، فمن الصعوبة أن يفاجأ بذلك، فالأولى بالأم أن تقول له: إنك كبرت الآن وتحتاج إلا أن تنام في غرفتك أو مع إخوانك الكبار.

 

وهكذا البنت حين يراد منها أن تشارك في أعمال المنزل.

 

8- التعويد:

الأخلاق والسلوكيات تكتسب بالتعويد أكثر مما تكتسب بالأمر والنهي، فلا بد من الاعتناء بتعويد الطفل عليها، ومراعاة الصبر وطول النفس والتدرج في ذلك.

 

هذه بعض الخواطر العاجلة وبعض المقترحات لتحسين الدور الذي يمكن أن تقوم به الأم، وينبغي لها ألا تغفل عن دعاء الله تعالى وسؤاله الصلاح لأولادها، فقد وصف الله تبارك وتعالى عباده الصالحين بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] (4).

 

من الغريب والمؤسف أن نرى في مجتمعاتنا تهمش وظيفة ربة البيت وجعلها بمثابة الخادمة أو وصفها بالبطالة، وذلك رغم كل المسؤوليات التي تتحملها ربة البيت والأهمية البالغة لوجودها في حياة الأسرة، وهذا لا بد وأنه فكر شرير من مخلفات العلمانية وسموم الإعلام التي نشرها في أوساط المسلمين وغيرهم، حيث من قال أن وجود ربة البيت غير مهم للأسرة أو أنه وظيفة يسهل الاستغناء عنها، بل إن المتأمل لما سبق ذكره يجد أن وظيفة الأم والزوجة في حياة الناس ليست مهمة فحسب، بل تكاد أن تكون الوظيفة الأهم في العالم على الإطلاق.

***

----------

(1) أخرجه مسلم (2564).

(2) دراسة تحليلية لبعض القيم التربوية المتينة في سورة لقمان (ص: 23، 74).

(3) كتاب دروس للشيخ علي القرني (ص: 16).

(4) دور المرأة في التربية/ صيد الفوائد.