هذه أخلاقنا، وتلك عقيدتنا
الأسرة المسلمة مترابطة بطبيعتها وبأوامر دينها، فلا توجد أسرة على مر العصور بها من التماسك والتآلف والترابط مثلما بين الأسرة المسلمة وبين أفرادها، وكذلك هذا الترابط يزيد ويستمر ليشمل كل الأسرة المسلمة وكل المسلمين (الأمة الإسلامية).
هذا الترابط والتكاتف بينته لنا أحاديث كثيرة من أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، كقوله، صلى الله عليه وسلم:»مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى«(1).
وقوله، صلى الله عليه وسلم:»المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا«وشبك بين أصابعه(2).
وقوله، صلى الله عليه وسلم:»لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه«(3).
وقوله، صلى الله عليه وسلم: »المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة«(4).
وقوله، صلى الله عليه وسلم:»أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله، عز وجل، سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة، أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة، شهرًا«(5).
هذه المعاني العظيمة، والأخلاق الكريمة، جاء الإسلام ليؤكدها في أكثر من موطن وأكثر من موقف؛ ليبين أن هذا إنما هو من عقيدتنا ومن صميم أخلاق إسلامنا.
تلك المعاني التي لا توجد في أي معتقد أو ديانة مثلما هي موجودة في هذا الدين الرباني، ولكن هذا الدين العظيم، وذلك المعتقد القويم، ليس منغلق على نفسه، منكب على أفراده فقط، وإنما هو معتقد وسلوك وأخلاق تجاه كل الأجناس والأطياف.
فهذه المعاني منها ما يتوجه إلى غير المسلمين، فمثلًا، وصانا النبي، صلى الله عليه وسلم، على نصرة المظلوم حتى ولو كان كافرًا غير مسلم، ولا أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: »لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت«(6).
وكذلك أمرنا النبي، صلى الله عليه وسلم، بالوفاء لهم بالعهود، فعن حذيفة بن اليمان، قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول، الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال:«انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم»(7).
إنها أخلاق سامية، ومعان جميلة، تجمع بين الكرم، والبر، والعزة، والوفاء، والتضحية، والتآلف، معان أمرنا بها النبي، صلى الله عليه وسلم، أن نوجهها إلى غير المسلمين.
لكن هذه الأخلاق، وتلك المعاني، ليست على إطلاقها، فمثلًَا، إذا كنا قد أمرنا بالإحسان إلى الجار ولو كان غير مسلم، فهذا لا يتعدى إلى المودة والمحبة، ولا تناقض بين انتفاء المودة، ووجود البر والقسط والإحسان إليه؛ ذلك لأن المولى، عز وجل، قال في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1].
فهنا أمر المولى، عز وجل، بعدم المودة والمحبة القلبية لغير المسلمين، ذلك لأنهم أولًا عادوا الله، عز وجل، فقالوا عنه، سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا، أنه ثالث ثلاثة، وأن المسيح ابن الله، وأن المسيح هو الله؛ وأنه صلب ثم قام؛ وجعلوا لذلك يومًا عندهم يحتفلون فيه أسموه عيد القيامة، وعلى ذلك فإن تهنئتهم بهذا العيد الديني عندهم، بمنزلة قبول المعتقد الفاسد الذي يعتقده أولئك الكافرون، فهل يا ترى يرضى مسلم أن يقال على الله، عز وجل، أنه ثالث ثالثة، أو أن المسيح ابن الله، أو أن المسيح هو الله؟، ثم بعد ذلك يهنئهم على هذا المعتقد!.
ثم قال عز وجل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
وهنا بين المولى، عز وجل، أن البر والقسط والإحسان موصول إلى كل البشر من غير المسلمين، شريطة عدم قتالكم وعدم إخراجكم من دياركم.
فالبر يتمثل في فعل أيّ من أصناف الخير، كإهداء الطعام أو الإقراض أو زيارة المريض ونحو ذلك.
أما المودة فتتعلق بعمل القلب من الحب والإعجاب بما عليه الشخص غير المسلم أو تشجيعه على ما يعتقد من الكفر والضلال، وقد فُسرت في قوله، عز وجل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فأباح الله، عز وجل، لنا البر والقسط لهم، ونهانا الله، عز وجل، في أول السورة عن المودة لهم، وهى محبة القلب وتأييدهم لكفرهم.
فنحن نبغض ونكره من يتعدى على ربنا، عز وجل، ونبغض ونكره من يجعل الأنبياء والمرسلين آلهة، ونبغض ونكره من يقول أن الله ثالث ثلاثة، أو من يقول أن المسيح ابن الله، أو من يقول أن المسيح هو الله، أو من يقول أن عزير ابن الله، نكره كل ما سبق لأن هذا من صميم عقيدتنا، ومن جوهر إيماننا، فنحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله.
لكن هذا البغض في الله والكره في الله، لا يمنع من إيصال البر والقسط والإحسان إلى من يعتقد هذا الاعتقاد، بنص كتاب ربنا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- صحيح مسلم (2586).
- صحيح البخاري (2446)، صحيح مسلم (2585).
- صحيح البخاري (13)، صحيح مسلم (45).
- صحيح البخاري (2442)، صحيح مسلم (2580).
- سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (906).
- السنن الكبرى للبيهقي (13080).
- صحيح مسلم (1787).