logo

الحب بين حقيقته وواقعنا


بتاريخ : الثلاثاء ، 8 شوّال ، 1440 الموافق 11 يونيو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الحب بين حقيقته وواقعنا

بعد أفول شمس الامتحانات وبزوغ فجر الإجازة الصيفية، يشعر الشباب والفتيات بفراغ شديد، يكاد يفطن إليه كل إنسان في مثل هذه الأيام، فما أن تسير في الطريق حتى تجده مكتظًا بالفتيان والفتيات في عمر الخامسة عشر فما فوق، ويتضح من طريقة كلامهم، وإشارات جوارحهم، وهيئاتهم، وشكل ملابسهم أنهم يعيشون في عمر الطيش، فلا يوجد عيب أو محظور، ولا أخلاق أو آداب، إنما أنا، ولا سواي، يحدد ما ينبغي أن يكون أو لا يكون.

ومع كل هذا فإن للأسف الشديد غالبية تفكير هؤلاء هو الجنس الآخر، فإن كان فتى فإنه لا يفكر إلا في فتاة يصحبها معه، وتسير بجانبه في الطريق، ويحادثها في الهاتف، ويتواصلون من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وأحيانًا كثيرة يعلنون ذلك أمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي بلا خجل.

لا شك أن للأمر خطورة شديدة، رغم أن هذه المشاعر والعواطف داخل هؤلاء الفتيان والفتيات ليست بدعًا من المشاعر، وإنما هي طبيعية تمامًا، فالحب أمر وارد وطبيعي، "فالحب ماء الحياة؛ بل سرها، هو لذة الروح؛ بل روح الوجود، بالحب تصفو الحياة وتشرق النفس، ولولا الحب ما التف الغصن على الغصن، ولا بكى الغمام على جدب الأرض". [زوجي أنت السبب، محمد صالح إسحاق، ص24].

"فلولا الحب ما دارت الأفلاك، ولا تحركت الكواكب النيرات، ولا هبت الرياح المسخرات، ولا مرت السحب الحاملات، ولا تحركت الأجنة في بطون الأمهات، ولا انصدع عن الحب أنواع النبات، ولا اضطربت أمواج الزاخرات، ولا تحركت المدبرات والمقسمات، ولا سبحت بحمد فاطرها الأرضون والسماوات، وما فيها من أنواع المخلوقات" [الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص202].

"فعواطف الحب والإعجاب، وما يصاحبها من أفكار، كل تلك المشاعر ليست حرامًا، والحكم عليها هو الحكم على كل عمل آخر، وكل شعور في حياة المسلم، الحكم مستمد من قانون الكون، وهل تؤدي تلك المشاعر الدور الذي يتفق مع فطرة الكون؟ أم تنحرف عن الطريق؟

فإن كانت تلك العواطف والمشاعر، وهي فطرية في صميم الخِلقة، تهدف إلى تحقيق هدف الحياة، تهدف إلى ارتباط شِقَّي الإنسانية في علاقة نظيفة مثمرة منتجة، تهدف إلى تقوية كيان كل من الشقين، ودفعه في طريق الصعود، فهي طبيعية.

وأما إن كانت عبثًا، لا يسعى إلى غايته الطبيعية؛ بل يجعل من نفسه غاية مستقلة منفصلة عن كيان الحياة، فهي مرفوضة بنفس قوة رفض الإسلام لفكرة أن الجنس عملية بيولوجية خالصة، وهدف يتحقق في ذاته، بغض النظر عن أية علاقة أو ارتباط" [منهج التربية الإسلامية، لمحمد قطب (2/ 75-76)، بتصرف واختصار].

ولقد كان للحب أثر في بداية الدعوة الإسلامية، فقد دخل بعض من الصحابة والصحابيات في الإسلام بسبب الحب وهذه المشاعر والعواطف، والنبي صلى الله عليه وسلم أقر بهذا الحب كحقيقة واقعة في حياة الناس، فعن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: «يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو راجعته»، قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال: «إنما أنا أشفع»، قالت: لا حاجة لي فيه.

لقد كان هذا الحديث تقريرًا من النبي صلى الله عليه وسلم لواقع الحب من خلال تعجبه من حال العبد دون إنكار عليه، وطلبه من الجارية أن تراجعه، وأيضًا من خلال تقريره رفض الجارية للرجوع إلى العبد، ومراعاة مشاعرها، على الرغم من رد شفاعة النبي في ذلك.

وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي يدخل في الإسلام؛ فتأتي امرأته لكي تقترب منه، فيمنعها، ويقول لها: «لقد أصبحت علي حرام»، قالت: «ولم؟»، قال: «أسلمت»، فكان ردها: «أنا منك وأنت مني، وديني دينك»، وأسلمت.

وواضح من هذا الرد أنها اعتنقت الإسلام من خلال إحساسها بزوجها، حيث قالت: أنا منك وأنت مني، وأخذت من إحساسها أساس اعتناقها للإسلام عندما قالت: وديني دينك.

وهذه أم حكيم بنت الحارث بن هشام، أسلمت يوم الفتح بمكة، وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام فأسلم، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا.

وهذه أم سليم يأتي أبو طلحة ليتزوجها، وهو مشرك، فتأبى وتقول له: «إن أسلمت تزوجتك، وصداقي إسلامك»؛ فأسلم فتزوجته.

إذن فالحب حقيقة إنسانية واقعة، تؤثر على الفكر والسلوك، "ولكن اعترافنا بالحب كحقيقة إنسانية واقعة لا يحمل أي إقرار للانحراف السلوكي به في واقعنا.

ذلك الانحراف الذي يذهب بعقل من أحب فيندفع بكل طاقاته الإنسانية نحو من أحبها، حتى تصبح هي قضيته ورسالته في الحياة.

إن من يحب بهذا الشكل المنحرف، الذي نراه في أيامنا هذه، والذي كان الدافع الأول والأساسي له هو الشاشات السينمائية، التي زخرفت للفتيان والفتيات العلاقة بينهما، وسهلتها وبينت طرقها، وجعلتها شعار التحضر والتقدم، أقول: من يحب بهذا الشكل المنحرف إذا فشل في حبه إما أن يصاب بالجنون؛ لطغيان إحساسه بمن أحب على عقله وواقعه، أو يصاب بالانطواء، ورفض كل العلاقات بالآخر؛ لأنه يرفض حياته بدون من أحب، أو ينتحر كصورة أخرى من صور رفض الحياة التي لا يتصورها إلا من خلال علاقته بمن أحب.

وهذه النتيجة أيضًا صورتها تلك الشاشات الكئيبة؛ بل ومجدت فيمن يفعل في نفسه هذا لأجل محبوبه المزيف، والعلاقة القائمة على أساسات مهدمة، وتسميه بشهيد الحب! وهنا يكمن الخطر الحقيقي للانحراف بمعنى الحب وحقيقته، فحين يمارسه الإنسان بهذا الشكل المنحرف يعجز تمامًا عن أن يكون صاحب رسالة أو هدف في الحياة.

لقد كانت هذه الصورة القاتمة في بلاد غير المسلمين، لكن من عظيم الأسى أن تنتقل هذه الصورة الكئيبة إلينا، ليس عبر أفكار مكتوبة وحسب، أو أخبار مقروءة وكفى، وإنما جاءت إلينا صوتًا وصورة أيضًا، وإذا كان هذا هو الدافع لمثل هذا الانحراف في حقيقة الحب، فإن من أهم الأسباب وراء السعي إلى هذا الحب الحرام هو البعد عن الله تعالى، فقد كتب الله المعيشة الضنك على من أعرض عن ذكره، فضلًا عن قيام هذا الحب المزيف على المصلحة وحب التملك، فهذه العلاقة تقوم على مجرد إشباع الرغبة العاطفية للنفس دون هدف أو مغزى، فمثل هذه العلاقات علاقات مزيفة واهية مقطوعة.

إن ما نراه اليوم من فتيان وفتيات المسلمين يجعلنا نتيقن أن فوق كاهلنا كثيرًا من المهام العظام، التي تحتاج لجهود جبارة وسواعد قوية، يجب عليها أن تتضافر لانتشال الأمة من أوحال الدنايا وسوء الأخلاق إلى مقامات الثريا ومكارم الأخلاق.