من آداب الطعام
لقد غاب عن الناس اليوم الكثير من المعاني الإسلامية الجميلة، وأصبحت الأسر ممزقة مبعثرة، لا يلتقي أفرادها إلا نادرًا، ولا يجتمعون إلا في بعض المناسبات، يعيش البعض في بيت واحد ولا يرى بعضهم بعضًا؛ لكثرة الأحداث، وزحمة الأعمال، لا يلتقون على طعامهم إلا في العيدين، وأحيانًا لا يجتمعون حتى في العيدين، رغم حض الإسلام على التجمع والمشاركة ولو على الطعام، فعن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده قال: «قالوا: (يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع)، قال: (تجتمعون على طعامكم أو تتفرقون؟)، قالوا: (نتفرق)، قال: (اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله، يبارك لكم)»(1).
غابت البركة عن بعض البيوت، يأكلون ولا يشبعون، والسبب الفرقة وعدم الاجتماع، والعلاج سهل ميسور.
لقد حض الإسلام على الاجتماع والألفة، ورغَّب في كل ما من شأنه تدعيم وتقوية هذه الألفة، ولم يكلفهم ما لا يطيقون، أو يقطعهم عن شواغلهم؛ بل توظيف أوقات الطعام في الاجتماع والتقارب، وجعله موطن بركة وسبيلًا للحصول عليها.
والاجتماع على الطعام من أسباب البركة، والأكل على سبيل الانفراد وعلى سبيل الاجتماع كل ذلك سائغ، كما جاء في الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأكلوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور:61]، فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعامًا على انفراد، فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام! فرفع الله هذا الحرج المتكلف، ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد، وأباح أن يأكلوا أفرادًا أو جماعات.
قال قتادة: «كان هذا الحي من بني كنانة يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى أن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتاتًا}، فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده، ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل»(2).
واشتهر هذا عن حاتم لقوله:
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له أكيلًا فإني لست آكله وحدي(3)
قال أيوب السختياني: «إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر فيسبق بعضهم إلى المنزل فيذبح ويهيئ الطعام ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضًا إلى المنزل فيفعل مثل ذلك، فقالوا: إن هذا الذي تصنع كلنا نحب أن نصنع مثله، فتعالوا نجعل بيننا شيئًا لا يتفضل بعضنا على بعض، فوضعوا النهد بينهم، وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه، وإن لم يرضوا بذلك منه إذا علموه فعله سرًا دونهم»(4).
فالاجتماع والانفراد في الأكل سائغ، ولكن الاجتماع فيه فائدة، وهي للاجتماع والتلاقي والتآنس بين أهل البيت، وأيضًا فيه زيادة البركة كما جاء في الحديث: «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة»(5)، يعني أن الطعام عندما يوضع لعدد معين ثم يأتي زيادة على ذلك العدد فإنه يكون كافيًا لهم.
اجتمعوا على الطعام فإنه يكون من أسباب البركة؛ لأنه، كما هو معلوم، إذا وضع لكل واحد طعام بالتساوي فقد يكون بعضهم يحتاج إلى شيء قليل، وبعضهم يحتاج إلى شيء كثير، فهذا يأكل حقه ويكون بحاجة إلى زيادة، وذلك يترك بعض حقه، فالناس متفاوتون، فإذا كان الطعام بين أيديهم كل يأكل من هذا الطعام الذي بين أيديهم, فمنهم من يأكل قليلًا حسب حاجته، ومنهم من يأكل كثيرًا، بخلاف ما لو أنه قسم بينهم ووضع لكل واحد مقدار، فإن بعضهم قد يأكل ويبقى شيء، والثاني قد يأكل ولا يكفيه ذلك الذي قدم له، لكن إذا وضع بين يدي الجميع فكل يأخذ حاجته(6).
ومن صور أكلهم جميعًا أن يكون الطعام بينهم فيأكلون جميعًا، وأما السنة فقد دلت على ذلك أحاديث صحيحة، منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا إلى الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة نفر، وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر فكان يقوتنا كل يوم قليلًا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: (وما تغني تمرة؟)، فقال: (لقد وجدنا فقدها حين فنيت)، ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت...» الحديث(7)، وفيه جمع أبو عبيدة بقية أزواد القوم، وخلطها في مزودي تمر، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم إليه.
ومنها حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: «خفت أزواد القوم وأملقوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم، فأذن لهم، فلقيهم عمر فأخبروه، فقال: (ما بقاؤكم بعد إبلكم)، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، ما بقاؤهم بعد إبلهم؟)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناد في الناس فيأتون بفضل أزوادهم)، فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه، ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى الناس حتى فرغوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)»(8)، هذا الحديث ثابت في الصحيح، وفيه: خلط طعامهم بعضه مع بعض(9).
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال: أدركتم العشاء»(10).
من السنة أن نأكل مجتمعين، من السنة أن نأكل مع الأهل، أن نأكل مع الأولاد، أن نأكل مع الأقارب، مع الأصحاب، فكلما كَثُرَ الجالسون على المائدة بارك الله في الطعام.
فالاجتماع على الطعام، والأكل مع الآخرين؛ كالضيف والأهل والأولاد، في هذا تأليفٌ للقلوب، وترقيقٌ لها، وحصول البركة، والبعد عن الكبر والتعالي، ثم في الاجتماع على الطعام مدعاة للشبع.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60]، فالأكل والشرب من المباحات، التي ترتقي في جوانب كثيرة إلى الواجبات، وقد وضعت الشريعة الإسلامية للأكل والشرب آدابًا، نذكرها فيما يلي:
النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة:
جاءت الأحاديث بالوعيد الشديد لمن شرب في آنية الذهب والفضة، أو أكل في صحافهما، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)»(11)، وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»(12).
جاء في فتح الباري: «قوله: (ولكم في الآخرة) [في رواية]؛ أي: تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويمنعه أولئك جزاءً لهم على معصيتهم باستعماله، قلتُ [أي: ابن حجر]: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما تقدم في شرب الخمر»(13).
النهي عن الأكل متكئًا، أو منبطحًا على وجهه:
روى أبو جحيفة رضي الله عنه أنه قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده: (لا آكُلُ وأنا متكئٌ)»(14)، قال ابن حجر: «اختلف في صفة الاتكاء فقيل: أن يتمكن من الجلوس للأكل على أي صفة كان، وقيل: أن يميل على أحد شقيه، وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض، قال الخطابي: تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه، وليس كذلك؛ بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته...
وإذا ثبت كونه مكروهًا أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيًا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى»(16).
ووجه الكراهة في ذلك أن هذه الهيئة من فعل الجبابرة وملوك العجم، وهي جلسة من يريد الإكثار من الطعام.
وعن عبد الله بن بُسرٍ رضي الله عنه قال: «أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاةً فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه يأكل، فقال أعرابيٌ: (ما هذه الجلسة؟)، فقال: (إن الله جعلني عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبارًا عنيدًا)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوا من حواليها، ودعوا ذروتها، يبارك فيها)»(16).
تقديم الأكل على الصلاة عند حضور الطعام:
وفيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وُضِع عَشَاءُ أحدِكم وأقيمتِ الصلاةُ فابدءوا بالعشاء ولا يَعجَل حتى يَفْرُغ منه»، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام(17).
والعلة في ذلك لئلا يقوم المرء ونفسه تتوق إلى الطعام؛ فيحصل له من التشويش الذي يذهب معه خشوعه.
قال ابن حجر: «روى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يأكلان طعامًا وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم، فقال له ابن عباس: (لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء)، وفي رواية ابن أبي شيبة: (لئلا يعرض لنا في صلاتنا)»(18).
وليس هذا الأمرُ خاصًّا بالعشاء وحده، إنما هو في كل طعام تتشوف النفس إليه، ويؤيد ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بحضرة الطعام، وعند مدافعة الأخبثين، والعلة ظاهرة، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان)»(19).
إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة فهل يجب الأكل منه لظاهر الحديث، أم أن ذلك على الاستحباب؟
الجواب: فعل ابن عمر رضي الله عنهما، في رواية أحمد وغيره، يدل على تقديم الأكل مطلقًا، ومن أهل العلم من قيد ذلك بتعلق النفس وتشوفها إلى الطعام، فإن كانت نفسه تتوق إلى الطعام فإن الأولى في حقه أن يصيب منه؛ حتى يقبل على صلاته وهو خاشع، ومن ذلك قول أبي الدرداء رضي الله عنه: «من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يُقبل على صلاته وقلبه فارغ»(20).
والمختار من ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر؛ فإنه بعد أن ساق أثر ابن عباس رضي الله عنهما، وأثر الحسن بن علي رضي الله عنهما: «العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة»، قال: «وفي هذا كله إشارة إلى أن العلة في ذلك تشوف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجودًا وعدمًا، ولا يتقيد بكل أو بعض»(21).
التسمية في ابتداء الأكل:
من السنة أن يسمي الآكل قبل أكل طعامه، فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: «كنتُ غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، فما زالت تلك طِعمتي بعد»(22).
وإذا نسي الآكل أن يسمِّي الله قبل الطعام، ثم ذكر في أثنائه فإنه يقول: «بسم الله أوله وآخره»، أو «بسم الله في أوله وآخره»، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره»(23).
قال ابن القيم رحمه الله: «وللتسمية في أول الطعام والشراب وحمد الله في آخره تأثيرٌ عجيب في نفعه واستمرائه، ودفع مضرته.
قال الإمام أحمد: (إذا جمع الطعام أربعًا فقد كمل: إذا ذُكر اسم الله في أوله، وحُمد الله في آخره، وكثرت عليه الأيدي، وكان من حِل)»(24).
وفائدة التسمية قبل الطعام أنه يحرم الشيطان من المشاركة في الأكل والإصابة منه، فقد روى الإمام مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء».
الحمد بعد الفراغ من الأكل:
من السنة حمد الله عز وجل بعد الفراغ من الطعام؛ ففي حمد الله سبحانه وتعالى فضل عظيم؛ إذ فيه العودة إلى الله سبحانه وتعالى بالحمد؛ لأنه تفضل بنعمه على عباده، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها»(25).
جاء في (التنوير شرح الجامع الصغير) للأمير الصنعاني: «فالرضا منه تعالى يتسبب عن حمده المتسبب عن الأكلة والشربة، سبحانه ما أكرمه! أعطى المأكول، وأقدر على أكله، وجعل سائغًا، وساقه إلى عبده وأوجده من العدم، ثم أقدره على حمده، وألهمه قوله، وعلَّمه النطق به، ثم كان سببًا لرضائه، اللهم لك الحمد حمدًا يدوم بدوامك على جميع نعمائك».
الأكل والشرب باليد اليمنى والنهي عن الشمال:
مر معنا قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة رضي الله عنه: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، ومن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال»(26)، وفي حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله»(27).
روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلًا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: «كل بيمينك»، قال: «لا أستطيع»، قال: «لا استطعت»، ما منعه إلا الكبرُ، فما رفعها إلى فيهِ(28).
قال النووي رحمه الله: «وفي هذا الحديث جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال، حتى في حال الأكل، واستحباب تعليم الآكل آداب الأكل إذا خالفه»(29).
فائدة: إذا كان ثمَّ عذرٌ يمنع من الأكل باليد اليمنى؛ كالمرض والجراحة ونحوهما، فلا حرج في الأكل بالشمال، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
الأكل مما يلي الآكل:
في إحدى روايات حديث عمر بن أبي سلمة، أنه قال أكلت يومًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلتُ آخذ من لحمٍ حول الصحفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مما يليك»، وعلة النهي في ذلك أن الأكل من موضع أيدي الناس فيه سوء أدب، وقد يتقذر الآكلون من هذا الفعل، وهو الغالب.
وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن ليأكل من أسفلها؛ فإن البركة تنزل من أعلاها»(30)، ولفظ أحمد: «كلوا في القصعة من جوانبها، ولا تأكلوا من وسطها؛ فإن البركة تنزل في وسطها»(31).
وخُص الوسط بنزول البركة؛ لأنه أعدل المواضع، وعلة النهي حتى لا يُحرم الآكل البركة التي تحِلُ في وسطه، وقد يُلحق به ما إذا كان الآكلون جماعة، فإن المتقدم منهم إلى وسط الطعام قبل حافته قد أساء الأدب معهم، واستأثر لنفسه بالطيب دونهم.
استحباب الأكل بثلاثة أصابع:
من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل بأصابعه الثلاث، وكان يلعق يده بعد الفراغ من طعامه.
جاء ذلك في حديث كعب بن مالك عن أبيه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، ويلعق يده قبل أن يمسحها»(32).
قال ابن القيم رحمه الله: «فإن الأكل بأصبع أو أصبعين لا يستلذ به الآكل، ولا يمريه، ولا يشبعه إلا بعد طول، ولا تفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها في كل أكلة...، والأكل بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على آلاته، وعلى المعدة، وربما انسدت الآلات فمات، وتُغصب الآلات على دفعه، والمعدة على احتماله، ولا يجد له لذةً ولا استمراءً، فأنفع الأكل أكله صلى الله عليه وسلم، وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاث»(33).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدُكم طعامًا فلا يمسح يدَه بِالْمِنْدِيلِ حتى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا»(34).
والعلة في ذلك مبينة في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: «إنكم لا تدرون في أيِّهِ البركة»(35)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تدرون في أيه البركة» معناه، والله أعلم، أن الطعام الذي يحضره الإنسان فيه بركة، ولا يدري أن تلك البركة فيما أكله، أو فيما بقي على أصابعه، أو فيما بقي في أسفل القصعة، أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة، وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والامتاع به، والمراد هنا، والله أعلم، ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من أذى، ويقوي على طاعة الله وغير ذلك، قاله النووي.
استحباب رفع اللقمة عند سقوطها، ومسح ما علق بها وأكلها:
وفيه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سقطت لُقْمَةُ أحدكم فَلْيُمِطْ ما بها من الأذى وَلْيَأْكُلْهَا، ولا يدعْها للشيطانِ...)» الحديث(36)، وفي رواية: «إن الشيطان يحضُرُ أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضرُه عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أيِّ طعامه تكون البركة»(37).
النهي عن القران بين التمرتين:
وهذا النهي يتنزل على الجماعة لا الواحد، وفيه أحاديث صحيحة، منها: عن شعبة عن جبلة قال: «كنا بالمدينة في بعض أهل العراق فأصابنا سنةٌ، فكان ابن الزبير يَرْزقنا التمر، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يمر بنا فيقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن الإقران، إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه)»(38).
قال ابن الجوزي رحمه الله في المشكل: «فأما حكم الحديث فإن هذا إنما يكون في الجماعة، والعادة تناول تمرة واحدة، فإذا قرن الإنسان زاد على الجماعة، واستأثر عليهم، فافتقر إلى الإذن».
استحباب الأكل بعد ذهاب حرارته:
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها كانت إذا ثردت غطته شيئًا حتى يذهب فوره، ثم تقول: «إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه أعظم للبركة)»(39).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لا يؤكل طعام حتى يذهب بخاره»(40)، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأكل طعامًا في وقت شدة حرارته، قاله ابن القيم.
وأقرب المعاني للبركة هنا هو ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من أذى، ويقوي على طاعة الله وغير ذلك، قاله النووي.
النهي عن عيب الطعام واحتقاره:
وفيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا قط، كان إذا اشتهى شيئًا أكله، وإن كرهه تركه»(41)، وعيب الطعام كقولك: مالح، قليل الملح، حامض، رقيق، غليظ، غير ناضج...، ونحو ذلك، قاله النووي.
كراهية التنفس في الإناء، والنفخ فيه:
من آداب الشرب ألَّا يتنفس الشارب في الإناء، ولا ينفخ فيه، وفي ذلك أحاديث صحيحة، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء...» الحديث(42)، ومنها:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه(43).
والنهي عن التنفس في الإناء هو من طريق الأدب؛ مخافة من تقذيره ونتنه وسقوط شيء من الفم والأنف فيه ونحو ذلك، قاله النووي.
وأما النفخ في الشراب فإنه يُكسبه من فم النافخ رائحة كريهة يُعاف لأجلها، ولا سيما إن كان متغير الفم، وبالجملة: فأنفاس النافخ تخالطه، ولهذا جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين النهي عن التنفس في الإناء والنفخ فيه، قاله ابن القيم.
استحباب التنفس في الإناء ثلاثًا:
وفيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثًا ويقول: (إنه أروى وأبرأُ وأمرأُ)»، قال أنس: «فأنا أتنفس في الشراب ثلاثًا»(44)، والمراد بالتنفس في الشراب ثلاثًا هو إبعاد الإناء عن فيِّ الشارب ثم التنفس خارجه، وإلا فالتنفس في الإناء منهيٌّ عنه.
ويباح الشرب دفعة واحدة ولا كراهة في ذلك، ويستدل لذلك بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه لما دخل على مروان بن الحكم قال له: «أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النفخ في الشراب؟»، فقال له أبو سعيد: «نعم، فقال له رجلٌ: (يا رسول الله، إني لا أروى من نفسٍ واحدٍ)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأبِنْ القدح عن فيك ثم تنفس)، قال: (فإني أرى القذاة فيه؟)، قال: (فأهرقها)»(45).
استحباب كون ساقي القوم آخرهم شربًا:
والأصل في ذلك حديث قتادة رضي الله عنه الطويل، قال: «…فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اشرب)، فقلت: (لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله)، قال: (إن ساقي القوم آخرهم شربًا)، قال: (فشربت وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم)»(46)... الحديث.
ودلالة هذا الحديث ظاهرة في أن من تولى سقاية قوم فإنه يقدمهم على نفسه، ويكون هو آخرهم شربًا؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
______________
(1) أخرجه ابن حبان (5224).
(2) تفسير ابن كثير، ط العلمية (6/ 79).
(3) محاسن التأويل (7/ 410).
(4) تفسير القرطبي (12/ 318).
(5) أخرجه البخاري (5392).
(6) شرح سنن أبي داود، للعباد (425/ 16).
(7) أخرجه البخاري (2483).
(8) أخرجه البخاري (2484).
(9) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 249).
(10) أخرجه مسلم (2018).
(11) أخرجه البخاري (5426).
(12) أخرجه البخاري (5634).
(13) فتح الباري، لابن حجر (10/ 95).
(14) أخرجه البخاري (5399).
(15) فتح الباري، لابن حجر (9/ 541).
(16) سنن أبي داود (3/ 349).
(17) أخرجه البخاري (673).
(18) فتح الباري، لابن حجر (2/ 161).
(19) أخرجه مسلم (560).
(20) صحيح البخاري (1/ 135).
(21) فتح الباري، لابن حجر (2/ 161).
(22) أخرجه البخاري (5376).
(23) أخرجه أبو داود (3767).
(24) الطب النبوي، لابن القيم، ص173.
(25) أخرجه مسلم (2734).
(26) أخرجه مسلم (2019).
(27) أخرجه مسلم (2020).
(28) أخرجه مسلم (2021).
(29) شرح النووي على مسلم (13/ 192).
(30) أخرجه أبو داود (3772).
(31) أخرجه أحمد (3190).
(32) أخرجه مسلم (2032).
(33) الطب النبوي، لابن القيم، ص165.
(34) أخرجه أحمد (3234).
(35) أخرجه مسلم (2033).
(36) أخرجه مسلم (2034).
(37) أخرجه مسلم (2033).
(38) أخرجه البخاري (2455).
(39) أخرجه أحمد (26958).
(40) أخرجه البيهقي (14631).
(41) أخرجه مسلم (2064).
(42) أخرجه البخاري (153).
(43) أخرجه أبو داود (3728).
(44) أخرجه مسلم (2028).
(45) أخرجه أحمد (11279).
(46) أخرجه مسلم (681).