لماذا يتأفف بعض الأبناء من حفظ القرآن؟!
يسعى الآباء سعيًا جاهدًا، محاولين الارتقاء بأبنائهم، وأعلى ما يرتجون من الارتقاء محاولة حفظ القرآن الكريم وعملهم به، نعم، فهي أسمى خطوات الارتقاء بالأبناء، لكن الأمر ليس سهلًا على الأبناء!
كثير من الأبناء يتأفف ويهرب من الحفظ؛ وذلك لأسباب وقع فيها الآباء قبل الأبناء، فالقرآن الكريم ميسر للذكر والتدبر، سهل التلقي والتفهم، مستساغ على العقل والقلب، قريب من الروح والوجدان، لكن أخطاءنا في التعامل مع الأبناء فيما يخص القرآن وحفظه هي المسئولة عما قد نراه من تأفف من الأبناء بينما هم في طريق حفظه ومدارسته.
إن الاهتمام ببناء الإيمان لهو الخطوة الأولى اللازمة في بناء الأبناء؛ بل هو الخطوة الأولى أيضًا التي تسبق تحفيظهم القرآن، لكن كثيرًا من الآباء يغفل عن البناء الإيماني، ويهتم بمجرد الحفظ.
حتى إنه ليمارس ضغوطًا يومية وعقوبات متكررة على الابن نتيجة تقصيره في الحفظ، مما يسبب نفورًا داخليًا في قلب الابن من الإكراه على الحفظ، وقد يسبب نفورًا متزايدًا.
حتى لو حفظ الأبناء ما طلب منهم من ورد قرآني، فإن أكثرهم لن يحفظه لما يراد منه حقيقة؛ بل سيحفظه لمجرد الخوف من العقوبة!
ما نعرفه من نصائح وتوجيهات العلماء والمربين أن أحدًا منهم لم ينصح بالشدة في التعامل مع الأبناء في حفظ القرآن أبدًا؛ بل إنهم جميعًا يأمرون بالرفق واللين فيه، فكيف إذا كان المُحَفِّظ أيضًا يمارس الشدة مع الابن، فيجد الطفل نفسه بين شدتين في البيت وفي الدرس!
هناك إهمال كبير نقع فيه جميعًا كآباء وأمهات؛ إذ إننا ننسى أن نرغِّب أبناءنا في الحفظ قبل أن نأمرهم به، وننسى أن نذكرهم بثوابه العظيم، وبقيمته العالية، وبمنزلته السامية، وهذا النسيان منا يجعل الحفظ في عين الأبناء مجهول القيمة؛ بل يراه نوعًا من المذاكرة المفروضة فحسب.
غفلتنا أيضًا عن ترسيخ قيمة القرآن وتحبيبه للأبناء وترغيبهم في حفظه من الصغر هو ما يجعلنا نجني صعوبة في دفعهم لذلك عندما يصلوا لمرحلة الصبا، وهي المرحلة التي عادة ما نبدأ جميعًا فيها بالاهتمام بالحفظ.
إن الصغر لهو فرصة سانحة ومهمة جدًا لتحفيظ الأبناء وتحفيزهم للقرآن، والصغر الذي أقصده ههنا هو المرحلة الأولى من الروضة وما قبلها وما بعدها.
هذا الاهتمام المبكر هو ما يجعل البعض ينجح في تحفيظ أبنائه القرآن كاملًا في سن صغيره، وقد نتعجب عندما نسمع أنهم قد أتموا حفظه في العاشرة من عمرهم أو ربما قبل ذلك.
كذلك يجب مراعاة الاهتمام بتطبيقه لما يحفظ، ولو كان قليلًا، لإشعاره بلذة ما يحفظ وأهميته وليس مجرد أنه يحفظ (آيات)، فالتطبيق لآيات القرآن، حتى لو كان قليلًا، يُفهمه أن القرآن منهج حياة واقعية، يجب أن يحيا به، وليس مجرد حفظ.
إن الدعم النفسي لعملية حفظ القرآن والعمل به أهم كثيرًا من الدعم المادي الذي اعتاد الآباء والأمهات على تقديمه للأبناء كجائزة على إنجازهم للحفظ، على أنني لا أرفض الدعم المادي؛ بل هو حسن وإيجابي أيضًا وتشجيعي جيد، لكنني ههنا أؤكد على المبادرة النفسية والتشجيع المعنوي والإيماني.
ومن جوانب الدعم النفسي المهمة دعم نموذج القدوة، بمعنى تكوين شكل القدوة للأبناء، من أناس صالحين قد حفظوا وارتقوا وصاروا أعلامًا ومنارات.
نستطيع بناء ذلك الإطار عن طريق الحكايات عن القدوة الحسنة، وربطها بالقرآن، وتشبيه الطفل بهذه القدوة الحسنة، والحديث المتكرر حول إنجازات تلك القدوات وأثرهم، والقراءة حولهم، وغير ذلك.
ومن جوانب الدعم النفسي أيضًا التأكيد على قيمة القرآن الكريم وعظمته، وكونه كلام الله سبحانه، وكونه منهاج كامل للمؤمن، وكونه معجزة أعجزت البشر أن يأتوا بها، وغير ذلك، فعندئذ يستشعر الابن بأنه يحفظ كنزًا ثمينًا فيعظم في قلبه ويهتم لأمره.
هناك أيضًا لفتة أؤكد عليها ههنا؛ وهي مناسبة البيئة التي يعايشها الأبناء لحالة حفظ القرآن، إذ هي من أهم الأمور الداعمة له، ويمكننا صناعة هذه البيئة عن طريقة الاحتفاء المتكرر بما يحفظ، والحديث الأسري حول تفسير الجزئية التي حفظها، ويمكن إسماعه هذا التفسير صوتيًا بشكل مبسط جذاب، ويمكننا أن نعقد له مسابقة أو جائزة إذا حدثنا إن كان صغيرًا بما سمع، أو استطاع أن يكتب مختصرًا لمعنى ما حفظ.
وقد أردت أن أشارك ابني الصغير في رؤيته، فسألته عن الأسباب الإيجابية والسلبية التي أثرت في حفظه القرآن، فكان محور إجابته مركزًا على عدة نقاط، وددت أن أذكرهم فلعلهم هم النقاط الأكثر واقعية وممارسة في هذا المقال؛ إذ يعبر الصغير عن ثلاث نقاط:
- أكثر ما يزعجنا تكليفنا في الحفظ أكثر من طاقتنا، أليس حفظ قليل بتدبر وتدرج وتفهم أفضل من حفظ بلا تدبر ولا تفهم؟!
- أهمية تفهيم معاني الكلمات الصعبة قبل الحفظ، فهو يساعد على سهولة الحفظ.
- مراعاة أوقات اللعب، وعدم معارضة أوقات الحفظ مع اللعب، فلا بد من إعطاء وقت لعب ومرح لتجديد الطاقة والترويح عن النفس.
وبعد، فجميعنا يرجو في أبنائه الخير، وأفضل الخير الذي يرجوه حفظ القرآن والعمل به، لكن لكل سبيل خُطًا ووسائل، فلنحرص على إتقان الخطى والتأكيد على الوسائل، وليعلم الآباء أن بعضًا من الأبناء أتموا حفظ القرآن ولم يظهر القرآن في سلوكهم؛ إذ أهملوا ما حفظوا وغفلوا عنه، فساء سلوكهم، وكأنهم بنوا بيوتًا على الرمال!!
آخرون، جعلوا من حفظهم القرآن منطلقًا إلى المعالي، ومرتقى إلى الفضائل، فما السبيل إذًا لتلافي الأخطاء وتصحيح المسار؟
موقع: المسلم