إنها علاقة مقدسة
إنها علاقة مقدسة؛ تلك العلاقة التي تجمع الرجل والمرأة في الإسلام؛ إنها علاقة الزواج، هذا الزواج الذي يبدأ بكلمة الله، ويسير بأمانة الله، وسماه المولى عز وجل ميثاقًا غليظًا، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ
زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } [النساء:20-21].
وسماه النبي صلى الله عليه وسلم كلمة الله، ووصفه بأمان الله؛ ففي خطبة حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله»(1).
لقد أحاط الإسلام هذا الزواج بسياج أمين وقوي، فهذا الزواج على أساسه يبنى أساس المجتمع الإسلامي كله، فهو أساس تكوين الأسرة المسلمة التي يتكون منها المجتمع الإسلامي؛ لذا وجب على المسلمين أن يتمسكوا بدينهم في كل شئون حياتهم، وخاصة فيما يتعلق بشئون العلاقة الزوجية وأمور النكاح، وما يترتب على ذلك من آثار.
كذلك من حفظ الإسلام للزواج أن جعله على التأبيد، بمعنى أن هذا الزواج لا يمكن أبدًا أن يكون مؤقتًا بزمان طال أم قصر؛ لأن في هذا تهديدًا لاستقرار الأسرة المسلمة، وهدمًا لبنيانها، وتفتيتًا لعضدها، فضلًا عن أنه قد يكون مدخلًا من مداخل الزنا المقنع، فكل من أراد قضاء شهوته فليس عليه إلا أن يتزوج زواجًا مؤقتًا، قد لا يكلفه الكثير، وهكذا، ثم تسير في المجتمع فكرة قضاء الوطر هذه، ولا يفكر الشباب في بناء الأسر، وحينها يتهدم المجتمع.
إن الإسلام حين شرع أحكام النكاح كان مراعيًا للمرأة رعاية خاصة، فهي الركن الأساسي والركين في هذه المنظومة الزوجية، ومع ذلك فهي أيضًا مرهفة الحس، رقيقة المشاعر، تتأثر بكل ما يدور من حولها، لها طاقات جسدية محدودة، ولها أوقات معينة تكون فيها عصبية المزاج، كأوقات الحيض والنفاس، وهي تلك الأوقات التي يكون فيها الزوج غير راغب في زوجته، وغير ممكن من وطئها، وقد نهى الإسلام عن الطلاق في تلك الحالة.
"فالإسلام نهى عن ذلك لحكمة عظيمة، ومصلحة شرعية لها مكانتها، تلك هي المحافظة على الأسرة، ومراعاة جانب المرأة وحمايتها.
أما المحافظة على الأسرة: فالطلاق في الطهر المجامع فيه غير مشروع، وإذا كانت المرأة في حال طهر لم تجامع فيه، كان الزوج على حال كمال في الرغبة بها، والرجل لا يطلق امرأته في زمان كمال الرغبة إلا لشدة الحاجة إلى الطلاق، فيكون الطلاق واقعًا للحاجة، ومثل هذا المطلِّق لا يلحقه الندم، ولا يكون طلاقه ضررًا، بخلاف زمان الحيض، كذلك الأمر بالنسبة لما بعد الجماع، فإن الرجل تضعف رغبته في زوجته، فقد يتسرع إلى إيقاع الطلاق دون حاجة حقيقية لإيقاعه.
أما مراعاة جانب المرأة: فإنها لو طلقت حائضًا لطالت عدتها؛ لأن الحيضة التي وقع الطلاق فيها غير محسوبة من العدة؛ فتطول عدتها، فتعاني مزيدًا من الانتظار والتربص، فتكون في تلك المدة كالمعلقة؛ لا مطلقة ولا ذات زوج ولا فارغة من زوج، وقد نهى الشارع عن الإضرار بالمرأة، قال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231].
وهكذا نجد أن الإسلام قد منع من الطلاق في الحيض؛ لما يترتب عليه من الضرر والإضرار، ولما يترتب على المنع منه من مصلحة ظاهرة للزوجين؛ بل للأسرة جميعًا، فلله الحمد على ذلك، وله الحكمة البالغة في أمره ونهيه، وقضائه وحكمه، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]"(2).
لأجل ذلك جعل الإسلام الطلاق في حيض المرأة من الطلاق البدعي الذي لا يقع(3)، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء»(4).
هكذا عالج الإسلام أكثر ما يعيق الحياة الزوجية؛ ذلك لأنه تشريع رباني، تشريع خالق الخلق، تشريع رب العباد، وليس أفضل لهؤلاء العباد من تشريع إلا تشريع خالقهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
إن التشريع الإسلامي قد عالج كل ما قد يطرأ على هذه العلاقة من مشاكل أو معوقات، تعيق سير هذه العلاقة في طريقها الصحيح، أو السير بها إلى نهاية المطاف، فقد أعطى للرجل حق الطلاق دون انتقاص من حق المرأة، فإن كان الطلاق قبل الدخول كان لها نصف المهر، وإن كان بعد الدخول فلها المهر كله، قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237]، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24].
وكذلك عالج الإسلام تعنت الزوج؛ فقد تصل الحياة الزوجية إلى حيث لا يمكن للزوجين أن يكملا الطريق؛ فالزوجة أصبحت لا تطيق تلك الحياة ولا تريدها، ورغم ذلك فإن الزوج لا يريد الطلاق، في هذه الحالة شرع الإسلام للمرأة حق الخلع، وهو أن تفتدي نفسها من زوجها بمال مثلًا؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة»(5).
فقد كفل الإسلام لكل من الزوج والزوجة حق الانفصال عن هذه العلاقة، وفي المقابل لم يشترط التشريع الإسلامي موافقة الطرفين على هذا الانفصال حتى يتم، فقد يكون أحد الطرفين لا يستطيع العيش مع الطرف الآخر، رغم أن الطرف الآخر يريد العيش معه، ففي هذه الحالة يكون لهذا الطرف الذي يريد العيش مع الطرف الآخر، يكون له مقابل، المهر إن كان الزوج يريد الطلاق، أو ما تفتدي به المرأة نفسها إن كانت تريد الخلع، جراء عدم رغبته في حل هذه العلاقة، وكذلك يعتبر سلوى له عما أصابه.
أما لو قلنا باشتراط موافقة الطرفين على حل العلاقة الزوجية؛ لأصبح في هذا مدخل للتعنت من قبل الزوج والزوجة؛ فقد لا يطيق الرجل العيش مع المرأة ويريد طلاقها، وهي لا تريد الطلاق، وترغب في هذه الحياة، وكذلك العكس فقد لا ترغب المرأة العيش مع زوجها، وتريد الانفصال وهو لا يوافق على ذلك، حينها سيكون البؤس والنكد والغم، لكن الإسلام منع مثل هذه الأمور، ولم يشترط مثل تلك الشروط التي يشترطونها اليوم في الغرب (المتحضر)!.
إن الدعاوى التي نسمعها اليوم في الصحافة والإعلام، والتي تنادي بوجود ما يسمى بالزواج المدني في القانون، حتى لو كان على سبيل الاختيار، لهو أمر خطير جدًا، فبعد أن صرح أحد العلمانيين في أحد الحوارات التلفزيونية بأنه مع زواج المرأة المسلمة من مسيحي، في تصريح صريح إلى الدعوة للزواج المدني، طالعتنا الصحف منذ أيام بمقال لإحدى الصحفيات المحسوبات على هذا التيار العلماني، والتي تصف في مقالها مميزات الزواج المدني، وأنه هو الحل لكل مشاكلنا، وأنه هو الضامن الوحيد لحفظ الحقوق!
إن هذه المميزات التي تتحدث عنها تلك الصحفية، هي في الحقيقة من الطوام، إنها تهدم الدين من جذوره، فضلًا عن أن الزواج المدني هذا هو تأصيل للمشاكل الزوجية، وذلك لأسباب ليس هذا موضع بيانها، وإنما نبينها في مقال لاحق بإذن الله.
_____________________________________________________
(1) صحيح مسلم (1218).
(2) الفيض في تحقيق حكم الطلاق في الحيض (3/1)، للدكتور سليمان العيسى.
(3) وذلك عند الجمهور.
(4) صحيح البخاري (5251)، صحيح مسلم (1417).
(5) صحيح البخاري (5273).