logo

لا تقصص رؤياك على إخوتك


بتاريخ : الأحد ، 19 جمادى الأول ، 1445 الموافق 03 ديسمبر 2023
بقلم : تيار الاصلاح
لا تقصص رؤياك على إخوتك

يشتكي كثير من الآباء والأمهات من المعاملة السيئة بين أبناءهم بعضهم البعض، فيجدون الأكبر منهم يحمل الحقد والضغينة للأصغر، وذلك دون أدنى سبب وقع بينهما؛ لأنه غالبًا ما يكون سببًا خارجًا عن الأبناء لا دخل لهم فيه، والذي يكون ناتجًا عن معاملة الأبوين أو أحدهما للابن الأصغر، غالبًا، معاملة أفضل من الابن الأكبر؛ مما يجعل في نفسه حقدًا وغلًا تجاه أخيه الأصغر، وهذا من الأمور الخاطئة التي يقع فيها كثير من الآباء والأمهات.

لقد رأيت مشهدًا منذ أيام لأبٍ يسير مع ابنيه، أحدهما في السادسة من عمره والآخر في الرابعة، وبينما هم يسيرون في الطريق أمامي مباشرة، والأخ الأصغر ممسك بيد والده، وإذا بأخيه يطلب منه أن يحمل عنه كيسًا صغيرًا، فتعلق الطفل الأصغر بأبيه دون أن ينطق بكلمة واحدة، فإذا بالأخ الأكبر مباشرة يضرب أخاه بقبضة يديه على ظهره كادت أن تسقط الطفل الصغير على الأرض، فنَهَرَ الأبُ الطفلَ الأكبر، ثم قال له: لماذا فعلت هذا بأخيك، من يراك تفعل هذا سيقول: إنه ليس بأخيك أبدًا.

وهذه حقيقة؛ فإن مَن يحمل الحقد والغل والضغينة لأخيه لن يشعر تجاهه بتلك الأخوة أبدًا، إنما سيكون الشعور الداخلي في وجدانه حينها تجاه أخيه أنه عدو له، وأنه أخذ مكانة في قلب والديه كان يستحقها هو.

إن مثل هذه المواقف قد حدثت من قَبْل بين يوسف عليه السلام وإخوته، ولقد كان تصرف سيدنا يعقوب عليه السلام تصرفًا صحيحًا منضبطًا، ولكن الشيطان تدخل بين الأبناء، وسول لهم، وسهل لهم الجريمة حتى ارتكبوها.

وتبدأ قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع أبيه، {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)} [يوسف:4]، "كان يوسف صبيًا أو غلامًا، وهذه الرؤيا كما وصفها لأبيه ليست من رؤى الصبية ولا الغلمان، وأقرب ما يراه غلام، حين تكون رؤياه صبيانية أو صدى لما يحلم به، أن يرى هذه الكواكب والشمس والقمر في حجره أو بين يديه يطولها، ولكن يوسف رآها ساجدة له، متمثلة في صورة العقلاء الذين يحنون رءوسهم بالسجود تعظيمًا.

والسياق يروي عنه في صيغة الإيضاح المؤكدة: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}.

ثم يعيد لفظ رأى: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ}.

لهذا أدرك أبوه يعقوب بحسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤيا شأنًا عظيمًا لهذا الغلام، لم يفصح هو عنه، ولم يفصح عنه سياق القصة كذلك، ولا تظهر بوادره إلا بعد حلقتين منها، أما تمامه فلا يظهر إلا في نهاية القصة، بعد انكشاف الغيب المحجوب، ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه على إخوته؛ خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير، غير الشقيق، فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم، فتمتلئ نفوسهم بالحقد، فيدبروا له أمرًا يسوءه: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}، ثم علَّل هذا بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.

ومن ثم فهو يوغر صدور الناس بعضهم على بعض، ويزين لهم الخطيئة والشر"(1).

لقد رد سيدنا يعقوب عليه السلام على ابنه يوسف عليه السلام ردًا حكيمًا: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}، لا تخبرهم بهذا الذي تقوله لي الآن؛ لأن ما تقوله أمر خطير، قد يوغر الضغينة والحقد في أنفسهم تجاهك؛ لأنهم سيرون أنك أفضل منهم، أو أنك تفعل هذا لأنك تريد أن تتسلط عليهم، وأن تصبح الأفضل بينهم، ولقد علم سيدنا يعقوب عليه السلام هذا الأمر؛ لذلك وجه سيدنا يوسف نحو عدم إظهار هذا الأمر، والذي بدوره يظهر لنا أن سيدنا يعقوب عليه السلام كان حريصًا في معاملة أبنائه، فلم يكن يُظهر تفضيل بعض أبنائه على الآخرين، حتى ولو كان محقًا في هذا التفضيل، حيث إن إظهار مثل هذا التفضيل يؤدي إلى الآثار السيئة، التي أدت إلى محاولة قتل سيدنا يوسف، ثم إلقائه في الجُب.

ومما يدل على أن سيدنا يعقوب لم يكن يُظهر تفضيل يوسف وبنيامين عليهما السلام على إخوتهم، أنه أمر يوسف بكتمان هذا الأمر، وهذا بالتالي يدل على أن سيدنا يعقوب عليه السلام كان يتخذ السبيل القويم في معاملة أبنائه؛ لأنه يعرف أن مثل هذه الأمور ستجعل الأبناء يفكرون في الكيد لبعضهم البعض؛ حتى يفوزوا بمكانة عند الآباء والأمهات، ومما يدل على ذلك قوله تعالى على لسان إخوة يوسف عليه السلام: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)} [يوسف:9].

إنهم يريدون أن يتخلصوا من أخيهم الصغير؛ حتى يصبح قلب أبيهم فارغًا لهم، ليس فيه أحد سواهم، ومع أن سيدنا يعقوب عليه السلام لم يكن يحب إظهار تفضيل بعض أبنائه على بعض، إلا أن النفس البشرية ضعيفة، ويظهر من فلتات أحوالها ميلها إلى ما تحب وما تريد، وهذا ما أحسه إخوة يوسف عليه السلام من أبيهم تجاه يوسف عليه السلام وأخيه بنيامين؛ لذلك قالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)} [يوسف:8].

إنه يجب على الآباء والأمهات أن يكون عندهم الحرص الشديد، والعناية التامة، والحذر الأكمل في معاملة أبنائهم، وفي ردود أفعالهم تجاه أفعال الأبناء المتشابهة، حيث إن بعض الأبناء يرى أنه قد قام بعمل سيئ فعاقبه والده، وعندما قام أخوه بنفس العمل السيئ تركه والده ولم يعاقبه، وهذا من أشد الأمور التي تزرع الحقد والضغينة بين الأبناء، فليكن عند الآباء والأمهات هذا الحرص، الذي يمنع من نشوب هذه الأخلاق السيئة بين الأبناء؛ بل إن المصارحة بين الأبناء من خلال الآباء والأمهات أمر جيد، وذلك من خلال إظهار الأمور الجيدة لبعض الأبناء في حوار هادئ بين الأبناء كلهم، وأن يوضح لهم الآباء والأمهات أنهم يستطيعون أن يعملوا مثل هذه الأمور الجيدة التي قام بها بعضهم، وأنهم لا بد وأن يعينوا بعضهم البعض في الأمور الحسنة.

إن مثل هذه الأمور مما يزيل الضغينة والحقد بين الأبناء، ويُبعدها عنهم تمامًا؛ بل إن نظرتهم إلى بعضهم البعض ستكون نظرة حب وتكامل، لا نظرة حقد وتنافر.

______________

(1) في ظلال القرآن، سيد قطب (4/1971).