logo

صناعة الطفل العفيف


بتاريخ : الثلاثاء ، 4 رجب ، 1445 الموافق 16 يناير 2024
بقلم : تيار الاصلاح
صناعة الطفل العفيف

إن أكبر تحد تربوي في هذا الزمن أن تربي أبناءك على العفة، لأنه في بعض البيئات بمجتمعنا انقلبت فيها الموازين حتى صار من يربي أبناءه على الحياء والعفة كأنه ارتكب جريمة أو خطأ تربويًا، أو أنه متخلف رجعي وليس متحضر.

لقد نقم قوم لوط من لوط والمؤمنين من أهله، كرهوا منهم ابتعادهم عن الفاحشة وتعاليهم عليها، فتنادوا بإخراجهم من بلدهم فإنهم أناس طاهرون، وكانت طهارتهم مسوغًا كبيرًا لتقديرهم واحترامهم؛ ولكن انتكاس فطرتهم جعلهم يعدون ما يمدح به المرء هو ما يذم به {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، فلم يكن لهم جواب لما دعاهم لوط إلى الطهارة والامتناع عن إتيان الرجال في أدبارهم غير قولهم: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} عما نفعله نحن من إتيان الذكران في أدبارهم.

وقد اقتفى بعض المسلمين اليوم أثر الفاسدين، وسار سيرتهم، وصاروا يذمون الصالحين ويعاقبونهم لاستقامتهم وإيمانهم، والذي كان مسوغًا كافيًا لإعلاء أمرهم وتقديمهم والاقتداء بهم، وربما فاقوا أهل الفساد في فسادهم وشرودهم وعتوهم.

والعفة خلق إسلامي كريم، وهو ترك الشهوات من كل شيء، ومنها الامتناع عن اللذات الجسدية غير المشروعة؛ قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: إن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده، قال: «ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر» (1).

قال النووي: أما العفاف والعفة، فهو التنزه عما لا يباح، والكف عنه، والغنى هنا غنى النفس، والاستغناء عن الناس، وعما في أيديهم (2).

قال الرّاغب: العفة حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف هو المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر (3).

وقال أيضًا: العفة هي ضبط النفس عن الملاذ الحيوانيّة، وهي حالة متوسطة من إفراط هو الشره وتفريط وهو جمود الشهوة (4).

وقال الكفوي: العفة هي الكف عما لا يحل (5).

وقال الجاحظ: هي ضبط النفس عن الشهوات وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحته فقط، واجتناب السرف في جميع الملذات وقصد الاعتدال، وأن يكون ما يقتصر عليه من الشهوات على الوجه المستحب المتفق على ارتضائه وفي أوقات الحاجة الّتي لا غنى عنها، وعلى القدر الذي لا يحتاج إلى أكثر منه، ولا يحرس النفس والقوة أقل منه، وهذه الحال هي غاية العفة(6).

قال الجرجاني رحمه الله تعالى: العفة: هي هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة والخمود الذي هو تفريطه، فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشرع والمروءة (7).

أنواع العفة:

قال الماوردي رحمه الله تعالى: العفة والنزاهة والصيانة من شروط المروءة، والعفة نوعان:

أحدهما العفة عن المحارم، والثاني العفة عن المأثم، فأما العفة عن المحارم، فنوعان: أحدهما ضبط الفرج عن الحرام، والثّاني كف اللسان عن الأعراض، فأما ضبط الفرج عن الحرام فلأن عدمه مع وعيد الشرع وزاجر العقل معرة فاضحة، وهتكة واضحة.

وأما كف اللسان عن الأعراض؛ فلأن عدمه ملاذ السفهاء وانتقام أهل الغوغاء، وهو مستسهل الكف، وإذا لم يقهر نفسه عنه برادع كاف، وزاجر صاد، تلبط بمعاره، وتخبط بمضاره، وأما العفة عن المأثم فنوعان أيضًا: أحدهما: الكف عن المجاهرة بالظلم، والثاني: زجر النفس عن الإسرار بخيانة.

فأما المجاهرة بالظلم فعتو مهلك وطغيان متلف، ويؤول إن استمر إلى فتنة تحيط في الغالب بصاحبها فلا تنكشف إلا وهو مصروع.

وأمّا الاستسرار بالخيانة فضِعة لأنه بذل الخيانة مهين، ولقلة الثقة به مستكين، وقد قيل: من يخن يهن، هذا ولا يجعل ما يتظاهر به من الأمانة زورًا، ولا ما يبديه من العفة غرورًا، فينتهك الزور وينكشف الغرور، فيكون مع هتكه للتدليس أقبح، ولمعرة الرياء أفضح(8).

قال ابن الجوزي رحمه الله: الكمال عزيز والكامل قليل الوجود، وأول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن وحسن صورة الباطن، فصورة البدن تسمى خلقًا، وصورة الباطن تسمى خلقًا، ودليل كمال صورة البدن حسن السمت واستعمال الأدب، ودليل كمال صورة الباطن حسن الطبائع والأخلاق.

فالطبائع: العفة، والنزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشره.

والأخلاق: الكرم والإيثار وستر العيوب وابتداء المعروف، والحلم عن الجاهل.

فمن رزق هذه الأشياء رقته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلة أوجبت النقص (9).

شروط العفة:

واعلم أنه لا يكون المتعفف عفيفًا إلا بشرائط:

وهي ألا يكون تعففه عن الشيء انتظارًا لأكثر منه أو لأنه لا يوافقه، أو لجمود شهوته، أو لاستشعار خوف من عاقبته، أو لأنّه ممنوع من تناوله، أو لأنه غير عارف به لقصوره فإن ذلك كله ليس بعفة بل هو إمّا اصطياد، أو تطبب أو مرض أو خرم أو عجز أو جهل، وترك ضبط النفس عن الشهوة أذم من تركها عن الغضب.

فالشهوة مغتالة مخادعة، والغضب مغالب والمتحيز عن قتال المخادع أردأ حالًا من المتحيز عن قتال المغالب، ولهذا قيل عبد الشهوة أذل من عبد الرق، وأيضًا بالشره قد يجهل عيبه فهو شبيه بأهل مدينة لهم سنة رديئة يتعاطونها وهم يعرفون قبحها، وليس من تعاطى قبيحًا يعرفه كمن يتعاطاه وهو يظنه حسنًا (10).

تمام العفة:

لا يكون الإنسان تام العفة حتى يكون عفيف اليد واللسان والسمع والبصر فمن عدمها في اللسان السخرية، والتجسس والغيبة والهمز والنميمة والتنابز بالألقاب، ومن عدمها في البصر: مد العين إلى المحارم وزينة الحياة الدنيا المولدة للشهوات الرديئة، ومن عدمها في السمع: الإصغاء إلى المسموعات القبيحة.

وعماد عفة الجوارح كلها ألا يطلقها صاحبها في شيء مما يختص بكل واحد منها إلا فيما يسوغه العقل والشرع دون الشهوة والهوى(11).

- العفة عن أكل الحرام أو شربه؛ امتثالًا لأمر الله سبحانه، قال الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته: في دمشق مسجد كبير اسمه جامع التوبة، وهو جامع مبارك فيه أنس وجمال، سمي بجامع التوبة لأنه كان خانًا ترتكب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد الملوك في القرن السابع الهجري، وهدمه وبناه مسجدًا.

وكان فيه منذ نحو سبعين سنة شيخ مربي عالم عامل اسمه الشيخ سليم السيوطي، وكان أهل الحي يثقون به ويرجعون إليه في أمور دينهم وأمور دنياهم، وكان هناك تلميذ مضرب المثل في فقره وفي إبائه وعزة نفسه، وكان يسكن في غرفة المسجد.

مرّ عليه يومان لم يأكل شيئًا، وليس عنده ما يطعمه ولا ما يشتري به طعامًا، فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مشرف على الموت، وفكر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حدّ الاضطرار الذي يجوز له أكل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة، وآثر أن يسرق ما يقيم صلبه.

يقول الطنطاوي: وهذه القصة واقعة أعرف أشخاصها وأعرف تفاصيلها وأروي ما فعل الرجل، ولا أحكم بفعله أنه خير أو شر أو أنه جائز أو ممنوع.

وكان المسجد في حيّ من الأحياء القديمة، والبيوت فيها متلاصقة والسطوح متصلة، يستطيع المرء أن ينتقل من أول الحي إلى آخره مشيًا على السطوح، فصعد إلى سطح المسجد وانتقل منه إلى الدار التي تليه فلمح بها نساء فغض من بصره وابتعد، ونظر فرأى إلى جانبها دارًا خالية وشمّ رائحة الطبخ تصدر منها، فأحس من جوعه لما شمها كأنها مغناطيس تجذبه إليها، وكانت الدور من طبقة واحدة، فقفز قفزتين من السطح إلى الشرفة، فصار في الدار، وأسرع إلى المطبخ، فكشف غطاء القدر، فرأى بها باذنجانًا محشوًا، فأخذ واحدة، ولم يبال من شدة الجوع بسخونتها، عض منها عضة، فما كاد يبتلعها حتى ارتد إليه عقله ودينه،

وقال لنفسه: أعوذ بالله، أنا طالب علم مقيم في المسجد، ثم أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟؟

وكبر عليه ما فعل، وندم واستغفر ورد الباذنجانة، وعاد من حيث جاء، فنزل إلى المسجد، وقعد في حلقة الشيخ وهو لا يكاد من شدة الجوع يفهم ما يسمع، فلما انقضى الدرس وانصرف الناس، جاءت امرأة مستترة، ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة، فكلمت الشيخ بكلام لم يسمعه، فتلفت الشيخ حوله فلم ير غيره، فدعاه وقال له: هل أنت متزوج؟ قال: لا، قال: هل تريد الزواج؟ فسكت، فقال له الشيخ: قل هل تريد الزواج؟ قال: يا سيدي ما عندي ثمن رغيف والله فلماذا أتزوج؟

قال الشيخ: إن هذه المرأة خبرتني أن زوجها توفي وأنها غريبة عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عم عجوز فقير، وقد جاءت به معها- وأشار إليه قاعدًا في ركن الحلقة- وقد ورثت دار زوجها ومعاشه، وهي تحب أن تجد رجلًا يتزوجها على سنة الله ورسوله، لئلا تبقى منفردة، فيطمع فيها الأشرار وأولاد الحرام، فهل تريد أن تتزوج بها؟ قال: نعم.

وسألها الشيخ: هل تقبلين به زوجًا؟ قالت: نعم.

فدعا بعمها ودعا بشاهدين، وعقد العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له: خذ بيدها، وأخذت بيده، فقادته إلى بيته، فلما دخلته كشفت عن وجهها، فرأى شبابًا وجمالًا، ورأى البيت هو البيت الذي نزله، وسألته: هل تأكل؟ قال: نعم، فكشفت غطاء القدر، فرأت الباذنجانة، فقالت: عجبًا من دخل الدار فعضها؟

فبكى الرجل وقص عليها الخبر، فقالت له: هذه ثمرة الأمانة، عففت عن الباذنجانة الحرام، فأعطاك الله الدار كلها وصاحبتها بالحلال (12).

راقب ربك وغض بصرك، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل والإشارة بطرف العين فيما يحرم، وأعظم الخيانة بعد الكفر خيانة العامة، لأن الذنب يعظم بعظم أثره وانتشار ضرره (13).

والعين الخائنة تجتهد في إخفاء خيانتها، ولكنه لا تخفى على الله، والسر المستور تخفيه الصدور، ولكنه مكشوف لعلم الله (14).

وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]، وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]، وقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59].

أمر بأن يستأذن العبيد والإماء والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ثلاث مرات في اليوم والليلة: قبل صلاة الفجر، لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة، وبالظهيرة، لأنها وقت وضع الثياب للقائلة، وبعد صلاة العشاء لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم، وسمى كل واحدة من هذه الأحوال عورة، لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها (15).

{مَعَاذَ اللهِ} قالها يوسف حين راودته امرأة العزيز، وعرضت له جسدها على فراش من حرير، وكان شابًّا عبدًا عزبًا، فنجاه الله منها، وصرف عنه كيدها.

{إِنِّي أَخَافُ اللهَ} يقولها من يرغب في أن يُظَلَّ بظل عرش الرحمن يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله.....، ورجل دعتْه امرأة ذات منصبٍ وجمال، فقال: إني أخاف الله.

قالت صاحبة مدين العفيفة: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم، ومن مزاحمة الرجال على الماء، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال، وهي تتأذى وأختها من هذا كله وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى، والمرأة العفيفة الروح، النظيفة القلب، السليمة الفطرة، لا تستريح لمزاحمة الرجال، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة.

وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوى أمين، رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما، وهو غريب؛ والغريب ضعيف مهما اشتد، ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته (16).

ولكن لكي نغرس في الأبناء العفة عن النظر المحرم لا بد من توضيح الحكمة من خلق الله الشهوة؟ وكيف نتعامل معها؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله خلق فينا الشهوات واللذات؛ لنستعين بها على كمال مصالحنا، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به، فإن ذلك في نفسِه نعمة، وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا، وكذلك شهوة النكاح واللذة به، هو في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء النسل، فإذا استُعين بهذه القوى على ما أمرنا، كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمة مطلقة، وإن استعملنا الشهوات فيما حرَّمه علينا -بأكل الخبائث في نفسها، أو كسبها بالمظالم، أو بالإسراف فيها، أو تعدَّينا أزواجنا، أو ما ملَكت أيماننا- كنا ظالمين معتدين، غير شاكرين لنعمته (17).

إذًا ليست الشهوات كلها مذمومة، ولكن منها ما هو محمود وبحسب الاستعمال، كذلك يبتلي الله تعالى عباده بالشهوات؛ ليَميز المطيع من العاصي، والخبيث من الطيب؛ لأن الإنسان إنما ينجرف في الشهوات بسبب ضَعف إيمانه ورفقته السيئة، وفراغه القاتل، وقربه من مثيرات الشهوة، وهذه كلها مناطات امتحان.

عفة اللسان: الكف عن السب والشتيمة والغيبة والنميمة والبهتان، والاستهزاء والتنابز بالألقاب، وغير ذلك من الكلام المحرم.

وحفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله، وحفظ اللسان، أي صيانته عن النطق بما نهى عنه من نحو كذب وغيبة ونميمة وغيرها، واللسان إذا لم يحفظ أفسد القلب، وبفساده يفسد البدن كله.

عن أبي هريرة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق» (18).

قال القاضي عياض: يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها، قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه، قلت: وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة الواجب.

وقال النووي: في هذا الحديث حث على حفظ اللسان، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك (19).

عفة الجسد، بستره وعدم إظهار عورته، وذلك للرجل والمرأة على حد سواء، فإن في ستر العورة منعًا للفتنة، ومدعاة للعفة وبعدًا عن مظان التهمة، وحفظًا لكن من تعرض الفساق وإيذائهم بالرفث وفحش القول.

ودل قوله تعالى: {لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما} على أن كشف العورة من المنكرات، وأنه لم يزل مستهجنًا في الطباع، مستقبحًا في العقول، وأن الله أوجب ستر العورة، ولذلك ابتدر آدم وحواء إلى سترها، فمن دعا إلى كشف العورات سواء عند الرجال أو النساء فقد هتك ستر الحياء، وأعاد الإنسان إلى البدائية الهمجية، وجعل المرأة سلعة للمتعة والتسلية ولم يرع صون العرض الذي أمر به الدين واقتضته الفطرة السليمة، وكان صنيعه مثل الشيطان: {يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُمَا} (20).

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى كان رجلًا حييًا ستيرًا، لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر، إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أدرة: وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه، ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]» (21).

وقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} من غير قصد الإعلان عن جمالها، وقالوا: إن الوجه والكفين ظهورهما مقبول في الصلاح لَا يمنع صلاحها فيكون ظهورها في الحياة العامة ليس من إبداء الزينة المحرم، وقال ابن عطية من فقهاء المالكية: يظهر لي بحكم ألفاظ الآية بأن المرأة مأمورة بأن لَا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن.

والخلاصة: أن الممنوع ما تبديه المرأة من زينة لتلفت الأنظار إلى محاسنها، ومفاتنها، فيكون ذلك إغراء للرجال، أما ما ظهر منها من زينة من غير محاولة إبداء له إغراءً، وتبرزًا للرجال فإنه لَا بأس به (22).

العفة عن السؤال، وهو الكف عن طلب المعونة والمال من الناس، والاعتقاد بأن الله تعالى سيُغنيه من فضله؛ لأن من يستعفف يعفه الله.

عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وقعدت، فاستقبلني، وقال: «من استغنى: أغناه الله عز وجل، ومن استعف: أعفه الله عز وجل، ومن استكفى: كفاه الله عز وجل، ومن سأل وله قيمة أوقية: فقد ألحف»، فقلت: ناقتي الياقوتة، خير من أوقية فرجعت، ولم أسأله (23).

عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خموش، أو خدوش، أو كدوح في وجهه»، فقال: يا رسول الله، وما الغنى؟، قال: «خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب» (24).

قال تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، والذي عليه المحققون من العلماء أن النفي منصب على السؤال وعلى الإلحاف أي أنهم لا يسألون أصلًا تعففًا منهم، لأنهم لو كانوا يسألون ما ظنهم الجاهل أغنياء من التعفف، ولو كانوا يسألون ما كانوا متعففين، ولو كانوا يسألون ما احتاج صاحب البصيرة النافذة إلى معرفة حالهم عن طريق التفرس في سماتهم لأن سؤالهم كان يغنيه عن ذلك.

وإنما جاء النفي بهذه الطريقة التي يوهم ظاهرها أن النفي متجه إلى الإلحاف وحده، للموازنة بينهم وبين غيرهم، فإن غيرهم إذا كان يسأل الناس إلحافًا فهم لا يسألون مطلقًا لا بإلحاف ولا بدونه، والنفي بهذه الطريقة فيه تعريض للملحفين وثناء على المتعففين(25).

وسائل تربوية:

وحتى نبني قيمة وخلق العفة في أولادنا علينا بالتالي:

- تذكيرهم بأن الله يراهم ويراقبهم، مع سرد الآيات والأحاديث التي تقوي إيمانهم بالله؛ قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

- دعاء الله والتضرع لهم بأن يحفَظهم من كل زلة وحرام، مع تدريبهم على مجاهدة النفس وتربيتها على الصبر، وتذكيرهم بثواب الله.

- الزواج للقادرين طريق للعفة والتحصين، وصرف الشهوات في مجالها.

- غضُّ البصر عن الحرام، سواء في الأسواق أو التلفاز أو المواقع الإلكترونية؛ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون} [النور: 30].

- اختيار الصحبة الصالحة: ويكون للأولاد ذكورًا وإناثًا، فإن الصحبة الصالحة تعينهم على التحلي بالفضائل وتجنب الرذائل، وعلى التزام غض البصر وما هو أكثر من ذلك، وإن من لم يستحي من الله تعالى لغفلته فربما سيستحي من أصحابه الذين هم حوله، والذين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا تذكر.

- تنمية القيم الخلقية في قلوب الناشئة: فمفهوم العِفّة ثمرة ناتجة عن اجتماع عدد من الأخلاق الرفيعة، فهو فيه معنى الصبر وكبح جماح الشهوة، وفيه الحياء من الله ومن خلقه، وفيه الأمانة وعدم الخيانة وفيه المروءة والشهامة والغيرة.

- اتباع وسائل تحد من الشهوة: من ذلك تربية الأطفال على ستر عوراتهم منذ نعومة أظفارهم وتعظيم أمر كشفها في أنفسهم حتى يتربوا على الحياء والحشمة، وأن نصونهم عن اختلاط الجنسين، وأن نبعدهم قدر الاستطاعة عن مواطن اختلاط الرجال بالنساء.

- الاعتناء بالفتاة: ويكون بتربيتها على تعظيم شأن عورتها وقبح إبدائها، ويُعظَّم ذلك في نفسها؛ حتى يصبح مجرَّد انكشاف العورة ولو في حال الخلوة ممقوتا في حسَّها، وعليها أن تعلم أن أنوثتها موضع فتنة اجتماعية خطيرة؛ حتى أن الله تعالى قدَّمها على جميع الشهوات حين قال عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب} [آل عمران: 14].

- التفرقة بين البنين والبنات في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين، وهذا بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع» (26).

- تعليم الأولاد أدب الاستئذان في الدخول إلى البيوت والتسليم على أهلها، والاستئذان في الدخول إلى الغرف داخل البيوت، ولو لم يكن في البيت إلا المحارم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله رجل، فقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال: «نعم»، قال الرجل: إني معها في البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استأذن عليها»، فقال الرجل: إني خادمها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟» قال: لا، قال: «فاستأذن عليها» (27).

أخيرًا:

علينا ألا نستهين بخُلق العفة وأثره في شخصية الأولاد، فهو يُكسبهم قوة في القلب، ووفرة في العقل، ونزاهة في النفس وعزتها، وانشراح الصدر وقلة الهمِّ والغم، كما أن انتشار هذا الخلق في المجتمع يطهِّره من الفساد، كما يرفع عنه ألوانًا من العقوبات الربانية، وينمِّي فيه رُوحَ الغيرة على الأعراض التي تعتبر سياجًا منيعًا يَحميه من التردي في مهاوي الرذائل والفواحش والتبرج والتعري.

إنّ تربية الأبناء على العفة من أهم المسؤوليات التي تقع على عاتق الآباء والأمهات، حيث تحميهم من الوقوع في المعاصي والانحراف عن الطريق الصواب، وتجعل شخصياتهم متزنة وسليمة، فهو خلق كريم يقتضي الكف عن الشهوات والفواحش وعن كل ما لا يليق.

والنشء إذا تربى على هذا الخلق العظيم، فإنه يحقق المروءة التي ينال بها الحمد في الدنيا والثواب الآخرة، ويرتقي بها في سماء الفضيلة، ويبتعد عن حضيض الرذيلة، بل إنه يحقق بذلك أسباب الفلاح ويستحق وصف الإيمان، لذا لا ينبغي أن يُستهان به وهو ثمرة خصال وأخلاق أخرى عديدة، وأثره في شخصية النشء عميق، حيث يكسب الإنسان قوة القلب، ووفرة العقل، ونزاهة النفس وعزتها، وانشراح الصدر وقلة الهم والغم.

إن من أكبر التحدّيات التربوية في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الإباحيات أن نربّي أبناءنا على العفة والحياء، فهو الخلق الذي سيُكسبهم قوة في القلب، ووفرة في العقل، ونزاهة في النّفس، وانشراحا في الصدر وقلة الهمِّ، كما أن انتشاره في المجتمع يُطهِّره من الفساد، ويرفع عنه ألوانًا من العقوبات الربانية، وينمِّي فيه رُوحَ الغَيرة على الأعراض التي تعد سياجًا منيعًا يَحميه من التردي في مهاوي الرذائل والفواحش والتبرج والتعري.

عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري، ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور، عالج عرامة اللحم والدم، وشهوة العين والفرج، ورغبة التجريح والتشهير، ودفعة الغضب والغيظ، وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة، وأن تشيع في القول، عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف، وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات، وعالجها بالوسائل الواقية: بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة، والنهي عن مثيرات الفتنة، وموقظات الشهوة، ثم بالإحصان، ومنع البغاء، وتحرير الرقيق.. كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم، ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق (28).

-----------

(1) أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053).

(2) شرح النووي على مسلم (17/ 41).

(3) المفردات (ص: 339).

(4) الذريعة إلى مكارم الشريعة (ص: 315).

(5) انظر الكليات (ص: 656).

(6) تهذيب الأخلاق (ص: 21- 22).

(7) التعريفات (ص: 151)، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص: 243).

(8) أدب الدنيا والدين (ص: 384- 390) بتصرف شديد.

(9) صيد الخاطر (ص: 289).

(10) الذريعة إلى مكارم الشريعة (ص: 319) بتصرف.

(11) الذريعة إلى مكارم الشريعة (ص: 319).

(12) ريع اللصوص/ مقالات موقع الدرر السنية (1/ 40)، بترقيم الشاملة آليًا.

(13) تفسير ابن باديس (ص: 352).

(14) في ظلال القرآن (5/ 3074).

(15) تفسير الزمخشري (3/ 253).

(16) في ظلال القرآن (5/ 2687).

(17) الاستقامة (1/ 342).

(18) أخرجه البخاري (6477).

(19) فتح الباري لابن حجر (11/ 311).

(20) التفسير المنير للزحيلي (8/ 166).

(21) أخرجه البخاري (3404).

(22) زهرة التفاسير (10/ 5182).

(23) أخرجه النسائي (2595).

(24) أخرجه أبو داود (1626).

(25) التفسير الوسيط لطنطاوي (1/ 628).

(26) أخرجه أبو داود (495).

(27) أخرجه مالك في الموطأ (3538).

(28) في ظلال القرآن (4/ 2518).