لا تجرح مشاعرها
كثيرًا ما يتحدث الرجال في مجالسهم عن الزواج بالزوجة الثانية، ويتباهى ويتفاخر من تزوج باثنتين من النساء، ويعتبر ذلك هو المعيار الحقيقي للرجولة، ولو انتهى الأمر عند ذلك لكان أمرًا هينًا، ولكن الزوج، الذي تزوج.
واحدة، ما إن يعود إلى منزله إلا ويأخذ في سرد مجريات يومه مع زوجته، ثم يذكر ما كان من صاحبه الذي تزوج باثنتين، ثم يلقي دعابة مدعيًا أنه يرغب بالزواج من أخرى، ولا يدري هذا الزوج كم الألم الهائل الذي يقع على زوجته من جراء هذه الكلمة وهذه الدعابة.
ثم لا ينتهي الأمر عند هذا؛ بل كلما جلسا إلى الطعام ربما أعلن تلك الرغبة، وحينما يجلسان في لحظات السمر، أعلن تلك الرغبة، والتي كثيرًا ما تكون خلاف الواقع والحقيقة؛ ذلك لأن الزوج لا يملك من المال والنفقة إلا ما يكفي زوجته وأولاده، فلا يستطيع الإنفاق على زوجة أخرى وبيت أسري آخر، وربما هو مقصر أصلًا في حق أهل بيته من نفقة وكسوة وخلاف ذلك، فهذا أبدًا لا يُسوغ له أن يتزوج بثانية؛ لأنه لم يعط الزوجة الأولى حقها، فأنى له أن يعطي الأخرى أيضًا حقها، وأن يعدل بينهما.
وإذا كان هذا هو حال الزوج، فكيف يسمح لنفسه أن يلقي هذه الكلمات بلا أي تفكيرٍ، أو تروٍ، أو إحساسٍ بحالة زوجته، ومراعاته لشعورها.
إن الزوج حينما ذكر رغبته بالزواج من ثانية، حينما كان يتناول الطعام مع زوجته، فإن الزوجة كانت تبتلع اللقمة كأنها شوك ينزل إلى معدتها، وحينما أعلن الزوج رغبته بالزواج من ثانية، حينما كانا يتسامران، فإن الزوجة شعرت أنها تجلس في مجلس تأديب وتأنيب لا مجلس سمر وترويح.
هذا هو الشعور النفسي للزوجة حين يتحدث الزوج بطريقة فكاهية عن رغبته في الزواج بأخرى أمام زوجته، وهو أمر طبيعي جبلي في أكثر النساء، فالزوجة تغار على زوجها من النساء عمومًا؛ بل إن الزوجة تغار على زوجها من زوجته الأخرى، فكيف لا تحزن ولا تشعر بالأسى إذا علمت أن زوجها يرغب بالزواج من أخرى.
فالسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه، فحينما أرسلت إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عند عائشة رضي الله عنها، وإذا بالخادم يدخل بالطعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بكسر الصحفة التي فيها الطعام، فأمر الغيرة على الأزواج أمر طبيعي.
فلا ينبغي أبدًا للأزواج التحدث فيما يحرك تلك الغيرة ويؤلم نفس الزوجة، حتى ولو كان هذا من باب الدعابة والفكاهة، فكم من كلمة ألقاها الزوج وهو لا يلقي لها بالًا، قد جعلت في قلب زوجته جرحًا قد لا يندمل بسهولة.
وإذا كانت هذه هي حالة الزوجة حينما يداعبها زوجها بمثل تلك الكلمات، فما بالك بحال تلك الزوجة التي يهددها زوجها بالزواج من أخرى، لا شك أن الدنيا تظلم في وجهها، وتتمنى أنها لم تتزوج هذا الرجل أبدًا، فهناك من الأزواج من يجعل عقابه لزوجته، عند كل تقصير وكل هفوة منها، هو التهديد بالزواج من أخرى، فيحيل حياة تلك الزوجة المسكينة إلى جحيم، وهذا ليس من مروءات الرجال أبدًا؛ إذ كيف يسمح رجل لنفسه أن يهدد امرأة.
إن الزواج بامرأة أخرى هو حق من حقوق الزوج، شرعه له الإسلام، ولا تستطيع المرأة ولا يحق لها أن تمنع زوجها من هذا الحق، ما دام أنه قائم بكل حقوقه الزوجية، من رعاية ونفقة ومسكن، وما يتبع وما يستلزم ذلك من احتواء ورعاية، إن كان الرجل قائمًا بكل هذا، وعنده القدرة والاستطاعة على العدل بين أزواجه، فلا بأس أن يتزوج بأخرى.
فمتى ما شعر الزوج برغبته بالزواج من امرأة أخرى فليستخر ربه، وليتوكل على الله، لكن لا يجعل حياة زوجته الأولى جحيمًا كلما غدا أو راح، يطرق مسامعها برغبته في الزواج بأخرى، فهو بهذا يهدم سعادتها الزوجية، وينزع من وجدانها الأمان والراحة، ويجعل زوجته تعيش في أرق وقلق على مستقبل أولادها وبيتها، فلا تهنأ بنومة ولا تستلذ بطعمة، فإذا بها تعيش حياتها بين الظنون والأوهام السيئة، والشك والريبة في كل حركة يقوم بها الزوج، وهذا أبدًا ليس من شيم الرجال الصالحين، أن يحولوا حياة زوجاتهم إلى جحيم من الشك والظن خوفًا من الزواج بأخرى.
إن الزوج حين يتزوج بأخرى، لا شك أن زوجته الأولى ستصاب ببعض ما ذكرنا آنفًا، لكن هذا لن يطول، فحياتها لن تكون قائمة على الأوهام والظنون الخبيثة، وإنما هناك حقائق أمامها، وغالبًا ما ستتعامل الزوجة مع الزيجة الثانية بنوع من التفاهم، لأجل أولادها وبيتها؛ بل إنها مع الوقت قد تكتشف بعض المميزات لهذا الزواج، وتحاول التعامل مع الأمر الواقع وكسب قلب زوجها، وتوضح له أنها تريد سعادته، وتريد ما يحبه وما يميل إليه، حتى ولو كان على خلاف مرادها، وحينها حقًا تصبح زوجة متفانية في حب زوجها.
وفي المقابل ينبغي على الزوج العدل بين أزواجه، وألا يفضل إحداهن على الأخرى في أي شيء يملكه، ما عدا الميل القلبي، فهو بيد الله عز وجل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له زوجتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائلٌ»(1).
إن كثيرًا من الرجال الذين منّ الله عليهم بالزواج بأخرى، كثيرًا ما يتحدثون في مجالسهم مع أقرانهم من الرجال ذوي الزوجة الواحدة، عن السعادة الغامرة التي يعيشها بعد زواجه من الزوجة الثانية، وأنها قد ملئت عليه حياته، وأنه لم يتذوق السعادة الحقيقية إلا بعد أن تزوج الزوجة الثانية، وكل هذه أحاديث لغو تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني، فكم من رجل لا يستطيع أن يتزوج بأخرى ولا ينبغي له ذلك، لأجل تقصيره مع أهل بيته، ولأجل قلة ماله، وهو مع هذا الكلام قد تاق إلى زوجة أخرى، وقد يجعله هذا الكلام يفكر في طلاق زوجته، وأم أولاده، لأجل أن يجرب هذه السعادة الوهمية في أكثر حالاتها، ذلك لأن من يرى سعادة مع زوجته، سواءً كانت الأولى أو الثانية، فإنه غالبًا ما يجعلها بينه وبين أهله وربه؛ حتى يحافظ عليها، مستعينًا على قضاء حوائجه بالكتمان.
لذا، ينبغي على الزوج أن يمسك لسانه كي لا ينطق بكلمة يجرح بها مشاعر زوجته، التي جعلها الله عز وجل للزوج سكنًا ومودةً ورحمةً، فأنى تأتي السكينة والمودة والرحمة مع تلك الكلمات الجارحة، التي يطلقها الزوج وهو لا يدري ما تفعل في قلب زوجته.
ثم إن من تزوج بأخرى ينبغي عليه أن يراعي مشاعر زوجته جيدًا، الأولى والثانية، وألا يفضل إحداهما على الأخرى؛ بل لا بد من العدل بينهما، حتى يؤجر ولا يؤزر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه أبو داود (2133)، وصححه الألباني.