logo

تأخر الزواج


بتاريخ : الخميس ، 23 جمادى الآخر ، 1440 الموافق 28 فبراير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
تأخر الزواج

إن الناظر لتاريخ الأسرة على مر العصور ليشعر بمدى هذه النعم التي أنعم الله بها على البشرية، فقد اختار الله للبشر طبيعة خاصة للتكوين والتعامل مع بعضهم البعض، فالرجل والمرأة والارتباط بينهما وتنظيم علاقتهما لم يأت مصادفة، وإنما كان هناك تدرج في هذه العلاقة، من أسرة مكونة من زوجين، هما آدم وحواء عليهما السلام، الذين خرج منهما بقية البشر، ثم علاقة أبنائهما بعضهما ببعض، ومن ثم تكاثر البشر وتطورت العلاقة بينهم.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189].

وتكوين الأسرة واستقرارها وسعادتها هو الوضع الذي ارتضاه الله لحياة البشر، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، وقال تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72].

والإنسان يحتاج إلى الأسرة، طفلًا وشابًا وراشدًا ومسنًا؛ للتربية والرعاية، والأسرة هي أهم عوامل التنشئة الاجتماعية، وهي أقوى الجماعات تأثيرًا في تكوين شخصية الفرد وتوجيه سلوكه، وتختلف الأسر من حيث الطبقة الاجتماعية، ومن حيث المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ونحن نعلم أن الحياة الأسرية تؤثر في التوافق النفسي، إيجابيًا أو سلبيًا، حسب نوع التجارب والخبرات الأسرية.

وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداءً على أساس الأسرة، حين جرى قدر الله أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى، وكان الله سبحانه قادرًا على أن يخلق الملايين من الناس دفعة واحدة، ولكن قدره جرى بهذا لحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق، حيث تلبي حياة الأسرة فطرته واستعداداته، وحيث تنمي شخصيته وفضائله، وحيث يتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته.

ثم جرت هذه العناية في النظام الإسلامي، منهج الله الأخير في الأرض، مع القدر الإلهي في خلقه الإنسان ابتداءً، كما هو الشأن في تناسق كل ما يصدر عن الله بلا تفاوت ولا اختلاف.

ومن هنا نرى اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله؛ واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية، لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية، وعند أتباع الديانات المحرفة، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.

إن الأسرة ليست فقط التقاء جسدين؛ بل التقاء نفسين وقلبين وروحين، وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد، الذي ينشأ في العش المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان.

كان الناس أمة على نهج واحد وتصور واحد، وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة، من أسرة آدم وحواء وذراريهم، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات، فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد، وهم أبناء الأسرة الأولى؛ أسرة آدم وحواء، وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعًا نتاج أسرة واحدة صغيرة؛ ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم، وليجعلها هي اللبنة الأولى، وقد غَبَر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد، واتجاه واحد، وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى، حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها، وتفرقوا في المكان، وتطورت معايشهم، وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة التي فطرهم عليها لحكمة يعلمها، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع والاستعدادات والطاقات والاتجاهات.

عندئذ اختلفت التصورات, وتباينت وجهات النظر، وتعددت المناهج، وتنوعت المعتقدات...، وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين(1).

أسباب تأخر الزواج:

إنَّ بعض الأولياء خانوا الأمانة التي حُمِّلوها في بناتهم؛ بمنعهن من الزواج من الأكفاء دينًا وخلقًا وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكفء فيماطلونه، ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، يسألون عن ماله، وعن وظيفته وشهادته، وعن وجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته، يتساهلون في شأن كبائر الذنوب؛ كترك الصلاة ونحوها؛ بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته سلعةً للمساومة وتجارةً للمزايدة، ولعل أبرز أسباب التأخر ما يلي:

أولًا: غلاء المهور: مما يجعل الزواج يتعسر أو يتعذر على كثير من الشباب؛ فيتأخر الزواج لذلك، وهذا خلاف ما شرعه الله من تخفيف المهور، فالإسلام لم يحدد مقدار المهر وكميته؛ وذلك لتباين الناس واختلاف أحوالهم وعاداتهم، ولكنه ندب إلى التقليل فيه، فذاك أقرب لروح الدين، الداعي دائمًا إلى التيسير لا التعسير، ويكون ذلك حسب القدرة وحسب التفاهم والاتفاق، لكن هذا المهر وتبعاته المبتدعة صارت مدعاةً للتفاخر والرياء والسمعة عند الكثيرين، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]، وتزوجت امرأة على أن يكون مهرها أن تتعلم آيات من كتاب الله جل وعلا، وأخرى مهرها من زوجها الإسلام، وقال رجل: «يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على أربع أواق»، يعنى مئة وستين درهمًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على أربع أواق؟!، كأنما تنحتون الفضة من عُرْضِ هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث فتصيب منه»(2).

وقال عمر رضي الله عنه: «لا تغلوا صدق النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم»(3).

لقد كان مهر سيدة نساء أهل الجنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم درعًا حطمية، وهذا يؤكد أن الصداق في الإسلام ليس مقصودًا لذاته.

قال شيخ الإسلام: «فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة، فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة»(4).

وكثير من الناس يغالي في المهور لمقاصد مذمومة؛ إما متاجرة وطلبًا للمال، أو مفاخرة وطلبًا للرياء, أو مجاراة للأعراف واتباعًا لرأي النساء, فينبغي على الأولياء التيسير في ذلك، وعدم إثقال كاهل الزوج وإشغال ذمته بالديون، واللائق بالوجهاء وأعيان الناس أن يكونوا قدوة في المجتمع، وألَّا يشقوا على إخوانهم الذين لا يستطيعون مجاراتهم في غلاء المهور، ومن المؤسف أن بعض الأسر تكثر من الشروط مع علمها بضعف حال الزوج، والولي الحكيم هو الذي يحرص على نجاح الزواج ولا يلتفت إلى المال؛ بل ربما أعان الزوج على ظروف الحياة، أما إذا بذل الزوج المال الكثير وكان موسرًا ولم يشق عليه ذلك فلا بأس بذلك, والصحيح أنه لا حد لأقل الصداق أو أكثره في الشرع(5).

ثانيًا: عضل الأولياء للمرأة: وعدم تزويجها مع تقدم الكفء لها ورضاها به, وهذا محرم نهى الشرع عنه، قال تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [البقرة:232].

العَضْل تحكُّم في عواطف النساء ومشاعرهن، وإهدار لكرامتهن؛ بل هو إلغاء لإنسانيتهن من غير خوف من الله، ولا حياء من خلق الله، ومن غير نظر في العواقب، ولا رعاية لحقوق الرحم والأقارب، مخالفة لدين الله والفطرة، ومجانبة لمسلك أهل العقل والحكمة، ومجافاة للخلق الكريم، وسمي العضل عضلًا لما يؤدي إليه امتناع الأولياء من تزويج مولياتهم من الشدة والحبس والتشديد والتضييق والتأثير المؤلم؛ بل المؤذي للمرأة في نفسها وحياتها وعيشها.

العضل مسلك من مسالك الظلمة، الذين يستغلون حياء المرأة وخجلها وبراءتها وحسن ظنها وسلامة نيتها، وما ذلك إلا لعصبية جاهلية، أو حمية قبلية، أو طمع في مزيد من المال، أو أنانية في الحبس من أجل الخدمة، يجب على الأولياء أن تكون غايتهم تحقيق مصالح مولياتهم الدينية والدنيوية، مبتعدين عن المصالح الشخصية والأنانية الذاتية.

من صور العضل ما جاء في قول الله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ}، فإذا طُلِّقت المرأة أقل من ثلاث طلقات ثم انتهت عدتها، وبانت بينونةً صغرى، ورغب زوجها الذي طلقها في العودة إليها بعقد جديد، ورغبت أن ترجع إليه، قام وليها بمنعها من ذلك من غير سبب صحيح، لم يمنعه إلا التمسك ببعض رواسب الجاهلية والعادات البالية والعناد المجرد.

ومن أنواع العضل ما بيَّنته الآية الكريمة الأخرى في قول الله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ الَّلاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127]، وفي هذه الصورة يمتنع وليّ اليتيمة عن تزويجها لغيره؛ لرغبته في نكاحها لنفسه من أجل مالها، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل، لعلها أن تكون شريكته في ماله، وهو أولى بها، فيرغب عنها أن ينكحها، فيعضلها لمالها، ولا ينكحها غيره، كراهية أن يشركه أحد في مالها»(6).

ومن صور العضل ما جاء في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، ومعنى ذلك أن يضيق الزوج على زوجته إذا كرهها، ويسيء عشرتها، أو يمنعها من حقها في النفقة والقسم وحسن العشرة، وقد يصاحب ذلك إيذاء جسدي بضرب وسب، كل ذلك من أجل أن تفتدي نفسها بمال ومخالعة: {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ}، أي: لكي تفتدي المرأة نفسها من هذا الظلم بما اكتسبته من مال المهر والصداق، وبهذا العضل اللئيم والأسلوب الكريه يسترجع هؤلاء الأزواج اللؤماء ما دفعوه من مهور، وربما استردوا أكثر مما دفعوا، فكل ما أخذوه من هذا الطريق بغير وجه حق فهو حرام وسحت وظلم.

ومن صور العضل المقيت أن يمتنع الولي عن تزويج المرأة إذا خطبها كفء وقد رضيته، وما منعها هذا الولي إلا طمعًا في مالها أو مرتبها، أو طلبًا لمهر كثير، أو مطالبات مالية له ولأفراد أسرته، تلكم صورة لئيمة يرتكبها بعض اللؤماء من الأولياء؛ من أجل كسب مادي، أو من أجل حبسها لتخدمه وتقوم على شئونه(7).

وثمة تصرفات من بعض الناس قد تؤدي إلى عضل النساء، وحرمانهن من الزواج وصرف الخُطَّاب عنهن، من ذلك تعزز ولي المرأة واستكباره وإظهار الأنفة للخطاب، فيتعاظم عليهم في النظرات، ويترفع عنهم في الحديث، فيبتعد الرجال عن التقدم لخطبة ابنته أو موليته؛ لشدته، وتجهم وجهه، واغتراره بنفسه ومركزه وجاهه وثرائه.

وعضل المرأة بسبب وظيفتها كثير في الناس؛ بل قد يكون في عصرنا أهم سبب للعضل، وهو من الآثار السيئة في إخراج المرأة من منزلها، مع أن الأصل قرارها فيه، والرجل ملزم بالنفقة عليها، ولكن كثيرًا من الناس، تأثرًا بالحضارة المعاصرة، قلبوا الأمر رأسًا على عقب، فجنوا من ثمار ذلك عضل النساء العاملات.

وجاء في تفسير عائشة رضي الله عنها للآية أن جمال اليتيمة سبب لطمع القائم عليها فيها لنفسه أو لولده، وهذا يفيد أن من أسباب العضل حبس القريبة على قريبها، وهو منتشر في بعض القبائل، فيحبسون بناتهم على أولاد عمومتهم أو أبناء قبيلتهم، وأحيانًا لا يكون الواحد منهم مرضي الدين والخلق، أو تجبر الفتاة عليه وهي لا تريده، ويرد عنها من يخطبها من أكفاء الرجال حتى يذهب عمرها وهي على هذا الحال، ولربما اختصم أبناء عمومتها عليها لجمالها فآثر أبوها عضلها، ومنعها من جميعهم؛ لئلا يحرج في بني عمه فتكون ابنته ضحية لذلك.

ومن الآباء من غرته نفسه أو نسبه أو مكانته، فيعضل بناته يريد الأكابر لهن، ويرد الأكفاء عنهن، حتى يذهب شبابهن بسبب كبرياء أبيهن.

ومن الأولياء من يعضل الفتيات، ولا يزوجهن إلا بالأغنياء، ولو كان الغني شيخًا هرمًا وهي شابة صغيرة؛ وذلك لمال يبذله لوليها، أو دَين له عليه يسقطه عنه بهذا الزواج، وتكتوي الفتاة بهذه الصفقة الخاسرة الظالمة، وتكره من فعل ذلك بها ولو كان أباها، ولربما دعت عليه عمرها كله؛ لأنه أضاع أمانته فيها.

ومن الآباء من يكون ذا مال وعقار، ويظن أن كل خاطب طامع، فيعضل بناته بسبب ذلك.

وأحيانًا يكون الإخوة شركاء في الأموال والعقار بإرث أو تجارة، فيحبس كل واحد منهم بناته على أبناء أخيه؛ لئلا يدخل الأغراب عليهم في أملاكهم، فيتزوج الابن ابنة عمه وهو لا يريدها، وهي لا تريده، فتكون أسرة تعيسة بسبب جشع الآباء، وحياطتهم المبالغ فيها لأموالهم، وينقلب المال من مصدر سعادة إلى تعاسة، ويُسَخر الأولادَ وحياتهم في خدمة المال بدل أن تخدمهم أموال آبائهم، ويضحي باختيارهم واستقرارهم لأجل المال، وكم من ابنة غني قد عضلها أبوها بسبب المال تمنت أن أباها كان فقيرًا ولم تحبس عن الزواج أو زوجت بمن لا تريد، وماذا ينفعها مال أبيها حينئذ؟!

كم فتاة لا ينقصها عن الزواج شيء، ويرغب كرام الرجال في مثلها، لولا أنها ابتليت بولي يرد الخاطبين الأكفاء عنها، حتى شاب رأسها، واغتيلت سعادتها، وتلاشت أحلامها وأمانيها.

إن من الآباء من يئد ابنته وهي حية، يظن أنه أدرى بمصلحتها فيقدم دراستها وشهادتها على زواجها؛ لتأمين مستقبلها، ومستقبل المرأة الحقيقي في زواجها وإنجابها ذرية ترى نفعهم في كهولتها وشيخوختها، ولو أن المرأة مُلِّكت خزائن الأرض، وأعطيت أموال قارون، وحازت أعلى الشهادات، فلا سعادة لها إلا بزوج وأولاد.

وكم من فتاة محتاجة للزواج قد حيل بينها وبينه، فأشبعت عواطفها وأحاسيسها بالحرام، وجرّت على أسرتها العيب والعار، وكان السبب في ذلك وليها حين منعها حقها، وحال بينها وبين ما أحل الله تعالى لها(8).

وفي هذا العمل ثلاث جنايات: الجناية الأولى على نفسه بمعصية الله ورسوله، وجناية على المرأة بمنعها من الكفء الذي رضيته، وجناية على الخاطب بمنعه من حقه.

ثالثًا: امتناع بعض الفتيات عن الزواج لمفاهيم خاطئة وأفكار مثالية؛ سعيًا وراء الأمل المنشود وفارس الأحلام, وكل ذلك خيالٌ قَلَّ أن يتحقق في الواقع، وكم من فتاة ندمت أشد الندم على فوات شبابها، والواجب على الفتاة عند خطبتها التعقل والمشاورة والاستخارة والموازنة بين المصالح والمفاسد، والتركيز على توفر صفة الدين والخلق في الشاب.

رابعًا: كثرة الشروط من قبل الفتاة وأهلها, وتضخيم الجانب المادي والغنى في اختيار الزوج والرضا به، وعدم الاهتمام بالصفات المهمة الأخرى؛ كالدين والخلق والكفاءة، والشارع اعتبر في الزوج خصلتين عظيمتين؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد»(9).

والعجب كل العجب ممن يزوج ابنته من لا يصلي ولا يخاف ريه من أجل غناه وكثرة ماله، في الوقت الذي يرفض الرجل الصالح لعدم غناه.

خامسًا: انتشار البطالة بين شباب المسلمين، وقلة الفرص الوظيفية أو ضعف الدخل لدى الشاب العامل؛ مما يجعله غير قادر على فتح بيت وتكوين أسرة، والمسئول عن هذه المشكلة العظيمة هو الدولة وجهات العمل والشئون الاجتماعية، وينبغي للقطاع الخاص وذوي الغنى واليسار أن يكون لهم حضور في هذا المجال(10).

ولا شك أن الله تكفل بإعانة العبد الصادق على الزواج، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم؛ المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف»(11).

سادسًا: الإعلام الفاسد؛ ومن أعظم العوامل التي تعيق الزواج وتؤخره عند كثير من الشباب والفتيات الإعلام الفاسد، المتأثر بنظريات الغرب ومبادئه، الذي يبث لأبناء المسلمين أنماطًا اجتماعية بعيدة عن روح الإسلام وآدابه؛ مما يجعل الفتى والفتاة يتروون جدًا في قرار الزواج المبكر، في الوقت الذي ينساقون وراء العلاقات غير الشرعية والأماني الكاذبة.

وهناك مفهوم خاطئ، لا يمت للإسلام وأهله بِصِلة، ينتشر عند بعض الفتيات، وهو أن الزواج لا يكون ناجحًا إلا إذا سبقه حب بين الطرفين؛ مما يستدعى إقامة علاقة لفترة طويلة يتعرف كل واحد على الآخر، ويفهم شخصيته ويقع في شراك حبه, ولا شك أن هذه العادة محرمة في الشرع، وكثير من هذه العلاقات باءت بالفشل بعد أن اطلع كل واحد على عيوب الآخر, وقد يستغل ذلك ضعاف القلوب فيعبثون في أعراض بنات المسلمين ومشاعرهم تحت غطاء الخطوبة المزعومة، ثم ينسحب أحدهم، بكل وقاحة، وقد أثر على سمعة البنت ونفسيتها(12).

سابعًا: ومن أكبر أسباب تأخر الزواج ارتباط بعض الشباب بعلاقات غير شرعية، والجري وراء الشهوات المحرمة، والاغترار بسراب الحب الكاذب؛ وهذا من أعظم الفتنة، فليتق الله الشاب، وليعلم أن العمر يمضي، والمال يفنى، والدين يذهب، والشهوة تنقضي وتعقبها حسرة وندامة، ولا يزال يسعى في شؤم الذنب وجحيم المعصية، ولن يهنأ أبدًا ويذوق طعم السعادة إلا إذا تزوج المرأة الصالحة وسكن إليها، وملأت عليه حياته وفراغه العاطفي، فذاق طعم العفة واللذة المباحة, قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].

ومن أعظم ما يعين على انتشار الزواج سعي الولي في البحث عن الرجل الكفء، وعرضها على الصالحين، وهذه سنة عمل بها السلف، وقد عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة، لما طُلِّقت، على أبي بكر وعثمان بن عفان رضي الله عنهم, وينبغي لمن عمل ذلك أن يحسن اختيار الزوج ذي المروءة، ويستخدم التعريض في ذلك، أو يبعث وسيطًا يعرض عليه، ويراعي أعراف الناس وأحوالهم.

ثامنًا: ضعف المفهوم الشرعي لمقاصد الزواج: وعدم اعتبار الزواج عبادة وقربة إلى الله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا علم أن هذه عبادة يهون عليه ما يلاقيه، ويسهل عليه حل المشاكل والعوائق التي تحول دون تحقيقه.

وفي الزواج من أنواع العبادات الكثير؛ ويكفي إعفاف الشاب وإحصان الفتاة، وإخراج جيل يعبد الله عز وجل ويصلي ويصوم.

تاسعًا: ربط الزواج بالدراسة: وبعض الشباب لا يفكر مطلقًا بالزواج إلا بعد انتهاء الدراسة، ومنهم من يواصل الدراسة العليا في بلاد الكفر سنوات طويلة، أما الفتاة فالدراسة نصب عينها، ويتأخر الكثيرات لحين انتهاء الدراسة الجامعية، ولو تأملنا ما بين سن البلوغ وانتهاء الدراسة الجامعية فإذا بها سبع سنوات أو تزيد.

عاشرًا: كثرة الملهيات والمفسدات: ووسائل السفر وانتشار الفتن، التي ربما تجرف الشاب أو الفتاة إليها، وتصرفهم عن الزواج(13).

الحلول المقترحة:

حيث إن أمر تأخر الزواج للفتى والفتاة خطره عظيم، وسلبياته كثيرة، هذه بعض المقترحات للمجتمع عامة، ولكل أب وأم خاصة، للخروج من هذا المأزق الخطر:

أولًا: تكثيف التوعية بمقاصد الزواج ومحاسنه وفوائده وأحكامه وآدابه، وذلك بشكل مبسط وسهل؛ لغسل ما لحق بالأذهان من تيار مضاد يرغب في الزهد والتأخر عن الزواج، وعلى أئمة المساجد وحملة الأقلام والدعاة التركيز على هذا الجانب.

ثانيًا: إشاعة أخبار من تزوجوا من الشباب والفتيات في سن مبكرة، والثناء على والديهم، وحسن التدبير، والفهم الصحيح، وليكن ذلك في المجالس والمنتديات.

ثالثًا: التذكير بأن أفضل سن للزواج هي السن المبكرة للشاب والشابة؛ حفاظًا لهم، وقد أحسن من أجاب عندما سئل عن السن المناسب للزواج، فقال: «متى ينبغي للإنسان أن يأكل؟» فأجاب العاقل اللبيب: «عندما يجوع»، وبعد البلوغ تبدأ المرحلة المناسبة للزواج؛ للحاجة الفطرية ولضرورة الإعفاف.

رابعًا: السعي لدى الآباء والأمهات، من العقلاء والأقارب، في ندبهم إلى تزويج أبنائهم وبناتهم في سن مبكرة، والتذكير بخطر الانحراف الأخلاقي، وضياع شبابهم دون فائدة.

خامسًا: امتثال حديث النبي صلى الله عليه وسلم في حفلة العرس، وعدم التكلف والبذخ والإسراف: «أَوْلم لو بشاة»، وجعل الأمور سهلة ومختصرة.

سادسًا: دعوة الناس إلى التيسير في المهر، وأن من حسن التوفيق أن يكون مهر المرأة يسيرًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن من يُمْن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها»(14).

سابعًا: الترغيب في الزواج والحث عليه، فهو من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته إليه: «النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم»(15).

وعلى العقلاء نبذ العادات والتقاليد المخالفة للدين؛ من عضل البنات، أو حجرهن على أقاربهن أو غير ذلك.

ثامنًا: ينبغي على ذوي اليسار والموسرين من أصحاب الأموال: الإعانة على زواج أقاربهم وأرحامهم ومعارفهم، والسعي في ذلك لإعفاف الشباب والفتيات، وقد أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أن ذلك من مصارف الزكاة، وقال الشيح محمد بن عثيمين: «تجوز مساعدة الفقير المحتاج للزواج من الزكاة، في دفع المهر وتكاليف الزواج فقط بما يصلح لمثله».

تاسعًا: حث الشباب من قبل زملائهم وأقاربهم على الزواج، وحث ولي الأمر على الإسراع بزواج موليته، وتذكيره بمسئوليته أمام الله عز وجل، وأنه مسئول عن هذه الرعية، والتعريف بالأخيار، وتقديمهم إلى آباء البنات للمصاهرة.

عاشرًا: التبشير بأن الزواج من أسباب الرزق ومفاتحه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله»(16).

الحادي عشر: ليعلم الشاب والفتاة أن الحياة البسيطة في أول الزواج من أسعد الأيام، وهي التي تجعل التقارب أكثر، والود يطول، والنفقة مقدرة بقدرها، قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللهُ} [الطلاق:7].

الثاني عشر: تحذير الشباب من السفر وضياع الدين والأموال، وتذكيرهم بأن الزواج لا يكلف ما ينفقه البعض في سفرة واحدة، وحث من لم يتزوج على الصيام، قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»(17).

الثالث عشر: لا بد للمقدمين على الزواج أخذ الأمور بعقل وحكمة، بعيدًا عن المثالية المفرطة في اختيار شريك الحياة، فقد رسم منهجًا في هذا الأمر فقال عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لأربع...» ثم قال حاثًا على أعلاهن مرتبةً وأكملهن عشرًة: «... فاظفر بذات الدين تربت يداك»(18).

الرابع عشر: قد يواجه الشاب المسارع إلى الزواج رفضًا من بعض الأسر، وعدم موافقة، والأمر في هذا طبيعي؛ نظرًا لما طرأ على الناس من تغير للمفاهيم والأطروحات، وعليه بالصبر والإكثار من الدعاء والاستخارة، وطرق أبواب من يرى أنهم يسارعون إلى تزويج بناتهم(19).

***

_____________

(1) في ظلال القرآن (1/ 216).

(2) أخرجه مسلم (1424).

(3) أخرجه أحمد (285).

(4) مجموع الفتاوى (32/ 194).

(5) المرأة العربية ومشكلاتها الاجتماعية، ص250.

(6) أخرجه البخاري (5128).

(7) عضل النساء ورواسب الجاهلية، موقع: لها أون لاين.

(8) تحريم عضل النساء، شبكة الألوكة.

(9) أخرجه الترمذي (1085).

(10) المرأة العربية ومشكلاتها الاجتماعية، ص251.

(11) أخرجه الترمذي (1655).

(12) أسباب تأخر الزواج، موقع: صيد الفوائد.

(13) أسباب التأخر عن الزواج، موقع: الكلم الطيب.

(14) أخرجه أحمد (24607).

(15) أخرجه ابن ماجه (1846).

(16) تقدم تخريجه.

(17) أخرجه البخاري (5065).

(18) أخرجه مسلم (54).

(19) يا أبي زوجني، ص30، بترقيم المكتبة الشاملة آليًا.