أهمية الدعاء في تربية الأبناء
تزكية النفس وتربيتها طريق الفلاح وعنوان النجاح، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9- 10]، وإن مما يعين على هذه التزكية، الدعاء واستجلاب معونة الله وتوفيقه، فبه تدفع الشرور والمصائب، وبه يتقى العبد مصارع السوء والآفات، وبه تقضى الحاجات وتتحقق الأمنيات، وهو حرز من وساوس الشيطان وخطرات النفس، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالدعاء في سائر أحوالهم، فقال عز من قائل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
إننا بحاجة ماسة للدعاء في ظل سيل جارف من الشبهات والشهوات والفتن والمغريات فندعوا دائمًا: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [عمران: 8].
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» (1).
قال ابن القيم: إذا كان كل خير أصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضلّه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجا دونه (2).
وإذا كان الأبناء نعمة عظيمة؛ فإن حسن تربيتهم مسؤولية الآباء، وهم أمانة ملقاة على عاتقهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].
قال السعدي: الأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب.
وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع فمسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» (4).
والدعاء لهم بصلاح الحال من وسائل التربية، فدعوات الوالدين مستجابة، قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده» (5).
قال المناوي: لأنه صحيح الشفقة عليه، كثير الإيثار له على نفسه، فلما صحت شفقته استجيبت دعوته، ولم يذكر الوالدة مع أن آكدية حقها تؤذن بأقربية دعائها إلى الإجابة من الوالد؛ لأنه معلوم بالأولى (6).
إن الدعاء بالخيرية والصلاح للأبناء والأحفاد والصغار منهج نبوي، فقد ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم علمه الكتاب» (7)، وفي رواية أخرى، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: «اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل» (8).
ويستفاد من الحديث فضل ابن عباس رضي الله عنهما، وتميزه عن غيره بهذا الدعاء المبارك، الذي استجاب الله فيه دعوة نبيه، فأصبح ابن عباس رضي الله عنهما مضرب الأمثال، وبحر العلوم، وحَبر الأمة، وترجمان القرآن، وتفوق في الفقه على من هم أكثر منه حديثًا وروايةً حتى قال ابن القيم: أين تقع فتاوى ابن عباس واستنباطاته من فتاوى أبي هريرة، وهو أحفظ منه إلا أنه يؤدي الحديث كما سمعه (9).
وسعيد بن جبير رحمه الله، يقول: إني لأزيد في صلاتي لولدي (10).
ولذلك كان من دعاء الصالحين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
المعنى: ومن صفات عباد الرحمن أنهم يدعون ربهم، يسألونه أن يهب لهم أزواجًا وذريةً، تقر بهم أعينهم، بأن يكونوا موصوفين بمثل صفاتهم سائرين على منهاجهم، معينين لهم على ما هم عليه، ويسألونه أن يكونوا على أكمل حال في العلم والعمل والاستقامة، يقتدي بهم فيها المتقون (11).
هذا النص السامي يدل على أن أخلاق عباده أن يطلبوا الولد صالحًا تقيًا مؤمنًا صادق الإيمان لَا أن يطلبوا النعم؛ لأن عمارة هذا الوجود بالولد، ولذا طلبوا هبته، ولم يطلبوا الحرمان، كما يطلب فجرة هذا الزمان المشئوم، كرر طلب الولد الصلبي في قوله تعالى: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا}؛ لأن الولد المنسوب إلى الأزواج وهو جمع زوج هو الولد الصلبي، وأما الولد من الذرية فهو من بعد الولد الصلبي، والذرية الأولاد من الظهور كالابن وابن الابن وبنت الابن، وذلك على اصطلاح الفقهاء، وهو مشتق من اللغة، ونرى أن النص يومئ إلى أنه من يكون من دمه، سواء أكان من أولاد الظهور، أم من أولاد البطون (12).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يعنى الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له (13).
وهذه التربية لم تعد توجيه عابر؛ بل هي عملية منهجية مستمرة، تتطلب جهودًا كبيرة ووسائل متعددة، والدعاء هو أحد هذه الوسائل والتي ينبغي للآباء والمربين أن يقوموا به في تربية الأبناء والنشء، والذين تعول عليهم الأسر والمجتمعات والأوطان الكثير من الآمال.
معاشر الآباء: إن تعليم الأبناء الدعاء لأنفسهم ولمن حولهم، وتعويدهم على أذكار الصباح والمساء، وتقوية صلتهم بربهم الذي بيده كل شيء، يكسبهم استقامة الحال وطمأنينة النفس وراح البال، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أبناء الصحابة وشبابهم حفظ الأذكار والالتزام بها تزكية لنفوسهم وصقل لأرواحهم، فعن البراء بن عازب، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك، فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به» قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك، قال: «لا، ونبيك الذي أرسلت» (14).
عن عبد الله بن عباس، أن رسول صلى عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» (15).
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن (16).
يقول سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار فقال لي يومًا: ألا تذكر الله الذي خلقك، فقلت: كيف أذكره؟ فقال: قل: الله معي، الله ناظري، الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته، فقال لي خالي: احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يومًا: يا سهل من كان الله معه وناظرًا إليه وشاهده، أيعصيه؟ إياك والمعصية (17).
كما أن الدعاء يُتقبل حين يكون صاحبه مخلصًا لله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14].
ويوم القيامة يفرح المؤمنون حين يعلمون أن الله استجاب لدعائهم حين التجأوا إليه في الدنيا، يقولُ أهل الجنة معترفين بفضله سبحانه: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28].
إنك حين تدعو لنفسك تشعر بالأمن والأمان، والهدوء والاطمئنان، وحين تدعو لذريتك وأهلك تنزل البركات عليهم، ويحوطهم الله برعايته، وحين تدعو للمسلمين تزداد أواصر الحب، وتنمو الصلات، وتنتشر المودة، وحين تدعو على أعداء الله وأعدائك تتفتح السماء بنصرك عليهم، وتتزلزل الأرض من تحت أقدامهم.
نماذج من دعاء الأنبياء والصالحين لذرياتهم وأتباعهم:
ونظرًا لما للدعاء من أثر عظيم في صلاح الأبناء، وجدنا خير الخلق وصفوتهم من الأنبياء والرسل يسألون الله تعالي ويلحون عليه سبحانه أن يصلح لهم ذرياتهم، وإن المتتبع لكتاب الله تعالى وسنة النبي صلي الله عليه وسلم في هذا الموضوع يمكنه أن يخرج بنتيجة مفادها أن دعاء الآباء للأبناء منهج الأنبياء والصالحين من عباده.
دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام:
فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام يسأل ربه الولد الصالح؛ فيدعو ربه قائلًا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]؛ أي: وأسألك يا ربي بجانب هذه الهداية إلى الخير والحق، أن تهب لي ولدًا هو من عبادك الصالحين، الذين أستعين بهم على نشر دعوتك، وعلى إعلاء كلمتك (18).
فماذا كانت النتيجة؟ {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، قال صاحب الكشاف: وقد انطوت البشارة على ثلاثة: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليمًا (19).
ولم ينقطع دعاء إبراهيم عليه السلام لأبنائه بعد أن استجاب الله تعالى له، ورزقه الولد الصالح، بل استمر في الدعاء، مع الأخذ بجميع أسباب حسن التربية والإصلاح، فيسأل إبراهيم عليه السلام ربَّه لنفسه ولولده أن يُجنِّبهم عبادة الأوثان، وأن يجعله وذريته من مقيمي الصلاة؛ قال تعالي: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].
ويستمر الخليل في الدعاء بأن تمتدَّ الرسالة في ذريته من بعده؛ فيقول عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]، فيكون من ذريته سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم» (20).
ومعناه: أن الله تعالى لما قضى أن يجعل محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأثبت ذلك في أم الكتاب، أنجز هذا القضاء بأن قيض إبراهيم عليه السلام للدعاء الذي ذكرنا ليكون إرساله إياه بدعائه كما يكون تقلبه من صلبه إلى أصلاب أولاده (21).
دعاء سيدنا زكريا عليه السلام:
وكذلك سيدنا زكريا عليه السلام يدعو ربه أن يرزقه الذرية الطيبة؛ فيقول: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]، ثم بيَّن وصف هذه الذرية الطيبة؛ فقال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم: 5- 6]، فهو يطلب من ربه ولدًا وليًّا مرضيًّا، يرث النبوة من أبيه ومن آل يعقوب؛ ليدعو الناس إلى الله تعالى، واستجاب الله دعاءه وبشره؛ فقال تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 7]، وأما عن صفات هذا الغلام؛ قال تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: 13- 15]، فكانت كل هذه البركة في يحيى بسبب دعاء أبيه له.
دعاء امرأة عمران أم مريم:
وحتى لا يظن أحد أن الدعاء خاص بالرجال فقط دون النساء؛ فقد ذكر لنا القرآن مثلًا فريدًا لصلاح المرأة ودعائها لأبنائها وذريتها، وأثر هذا الدعاء على الذرية، فقد ذكر القرآن على لسان امرأة عمران أم مريم؛ فقالت لربها عز وجل: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35]، فلما خرج المولود أنثى، لم يمنعها ذلك أن تَهَبَها لخدمة بيت المقدس، وأن تدعوَ ربها ليحفظها ويُنبتَها نباتًا حسنًا، بل دَعَتْ بما هو أكبر من ذلك؛ فقالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].
فاستجاب الله دعاءها، وبارك في ابنتها، واصطفاها على نساء العالمين، واختارها لتكون فيها آية من آياته الكبرى بأن وهبها عيسى عليه السلام بكلمةٍ منه دون أبٍ، وأعاذها وابنها من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليها سبيل، كل ذلك ببركة دعاء الأم الصالحة المباركة.
ولم يذكر القرآن الكريم دعاء الأنبياء لأبنائهم فحسب؛ بل فاض كتاب الله تعالى بأدعيةِ زُمرة من عباده المؤمنين الصالحين، فهذا دعاء الذي بلغ أربعين سنة فقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].
كما ذكر القرآن أن من صفات عباد الرحمن الذين أضافهم إلى نفسه تشريفًا؛ فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
قال ابن عباس رضي الله عنه: يعنون: من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة، وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يعني الذين يسألون الله أن يُخرجَ من أصلابهم وذرياتهم مَن يُطيعه ويعبده وحده لا شريك له (22)، فقرة العين لا تكون إلا بصلاح الأولاد وهدايتهم حتى يكونوا أئمة للمتقين.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء للأبناء:
وكان من هديِ النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأبنائه وأحفاده الحسن والحسين، وأبناء الصحابة الكرام، رضي الله عنهم أجمعين؛ كما في صحيح البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن ويقول: «اللهم إني أحبهما فأحبهما» (23).
عن أنس رضي الله عنه، قال: قالت أمي: يا رسول الله، خادمك أنس، ادع الله له، قال: «اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته» (24)، فكان أكثر الأنصار مالًا، وبلغ أولاده وأحفاده المائة، وحلَّت البركة في عمره وفي ذريته.
وسار على الدرب سلف الأمة في الدعاء للأبناء بالهداية والصلاح والتضرع إلى الله أن يتولى تربيتهم وتأديبهم، رغم ما بذلوه من جهد في تنشئتهم على تعاليم الإسلام، فقد ورد أن الفضيل بن عياض كان يدعو لولده عليٍّ، وهو صغير؛ فيقول: اللهم إنك تعلم إني اجتهدت في تأديب ولدي عليّ، فلم أستطع، اللهم فأدِّبه لي، ويستجيب الله تعالى لدعائه، ويصلح ولده، حتى إن بعض العلماء قالوا بفضل (علي بن الفضيل) على أبيه، رغم منزلة وقدر أبيه رحمهما الله، وهكذا كان أكثر السلف.
وفي العصر الحديث الكثير من النماذج الحية التي تؤكد مدى أهمية دعاء الوالدين لأبنائهم في صلاحهم وهدايتهم، فهذا أحدهم يسأل أحد الآباء، الذي رزقه الله تعالى الكثير من الأبناء المعروفين بصلاحهم؛ فيقول: ما سِرُّ صلاح أبنائك وهم كثير؟ فيقول: والله لا أترك الدعاء لهم.
والحقيقة أن مصدر غفلة الكثير من الآباء والأمهات عن مدى أهمية وأثر دعائهم لأبنائهم في استقامتهم وعدم اعوجاجهم أو انحرافهم، قد يكون اعتمادهم على الأسباب والمسببات في تربيتهم فحسب، فتلاحظ أن لسان حال أحدهم حين تسأله عن عدد المرات التي يدعو فيها لأبنائه بالهداية والصلاح في صلاته أو قيامه أو خلواته في اليوم أو الأسبوع أو حتى الشهر يقول: وهل يحتاج ولدي إلى دعائي بعد أخذي بجميع الأسباب لصلاحه وهدايته؟
واحذر -أيها الوالد وأيتها الوالدة- أن تدعوا على أبنائكم، مهما أساؤوا وأخطأوا؛ فرُبَّ دعوة أفسدته أو أهلكته، ثم يكون الندم بعد ذلك، ولقد نهى النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أن النبي قال: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم» (25).
فكم من دعوة خرجت من أب أو أمٍّ على أحد الأبناء، فصادقت ساعة إجابة؛ فكانت سببًا في ضلال، أو ضياع، أو عقوق، أو حتى موت هذا الابن! فقد جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك يشكو عقوق ولده، فقال له ابن المبارك: أكنت تدعو عليه؟ قال: نعم، قال: أنت أفسدته.
إن أخطاء أبنائنا تحتاج إلى صبر ودعاء، ولا نقصد بالدعاء أن يكون مرة واحدة أو مرتين، ولكن علينا أن ندعو الله تعالى لهم ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، ولا نيأس من رحمة الله تعالى ولا نستعجل الإجابة، فربما تأتى الإجابة بعد شهور وسنين من الدعاء العريض.
فيا أيها الآباء والأمهات، يا من يشتكي سوء أخلاق ولده، وقلة التزامه وطاعته، إن الله تعالى قد جعل بين أيديكم سلاحًا فعَّالًا لإصلاح أولادكم، فلا تبخلوا على أولادكم بالدعاء سرًّا وجهرًا، في الصلاة وخارج الصلاة، ويا حبذا لو أسمعت ولدك بعض دعائك له؛ مثل أن تقول: الله يهديك، الله يصلح حالك، الله يرضى عنك، فإن هذا الكلام يسري في روحه، ويملأ قلبه بمحبتك؛ لِما يرى من حرصك عليه، وحبك له، ويشجعه أن يكون أهلًا لدعائك، وأن يعمل لتحقيق ذلك.
فالدعاء له أبلغ الأثر في صناعة الأبناء الصالحين وهدايتهم، فربَّ دعوة صادقة من أب أو أم ردَّت شاردًا، أو أصلحت فاسدًا، أو هدت ضالًّا، أو قربت بعيدًا.
الأبناء زينة الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 4]، ومهما عصفت بهم الحياة وتقلبت أحوالهم وظروفهم وساءت بعض تصرفاتهم ينبغي على الآباء والمربين أن يدعوا لهم لا أن يدعو عليهم فتصعب حياتهم.
والدعاء على الأولاد فيه ضرر كبير عليهم، قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: {ولَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، قال: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.
فأكثروا لأنفسكم ولأولادكم ومن حولكم بالدعاء، واسألوا الله أن يصلح أحوالكم وذرياتكم، وأن يجعلهم قرة عين لكم في الدنيا والآخرة (26).
إن التربية بالدعاء من أجل السبل التي يربط الوالد بها طفله بخالقه ورازقه، ومحييه ومميته؛ فهي مما يَغرس اليقين والثقة في الطفل منذ صغره؛ فيعلمه عمليًّا بأن يرفع يديه إلى السماء، ويطلُب من ربه ما يريده، فينبغي للوالدين أن يعودا أطفالهم على رفع اليدين بالدعاء، إذا أخفق في النتيجة الدراسية أو مرض.
ومما يثلج الصدر أن بعض الصالحين من كبار السن -في زماننا- يجمعون أبناءهم عند ختَم القرآن ويؤمنون خلفه، ناهيك عن الأم التي توجه طفلها إذا مرض، بأن يرفع يديه ويقول: يا رب، اشفني.
ومن المعلوم أن قلب الوالدين أشد حنانًا على أطفالهم، فينبغي أن يُكثرا من الدعاء لهم؛ إذ منحهما الله منحة استجابة الدعاء لأولادهم، إذا حققوا ضوابط استجابته، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن دعوة الوالدين لولدهما مستجابة يقينًا، وذلك فيما رواه أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات يستجاب لهن ... ودعوة الوالد لولده (27)، فهذه نعمة عظيمة ينبغي على الآباء ألا يُضيعوها تجاه أبنائهم، خاصة أيام امتحاناتهم أو مرضهم... فليحرص الأبناء على بر والديهم والإحسان إليهم؛ لينالوا دعواتهما الخالصة التي ليس بينها وبين الله حجاب، فإذا اعتاد الطفل أن يرى أمه أو أباه يرفعان يدهما بالدعاء، فسيقلدهما، ويتعلم أن يلجأ إلى الله عز وجل في قضاء حوائجهم، فالطبيب سبب لشفائه، والشافي حقيقة هو الله.
ومما سبق نستنتج بعض اللمسات العملية للتربية بالدعاء؛ وهي:
1- من صفات المربي الناجح الدعاء لمن يربيهم ويوجِّههم.
2- الدعاء عمليًّا أمام الأولاد، ورفع الصوت بما نطلب؛ ليعلموا أن الذي يجيب المضطر هو الله وحده.
3- توعية الطفل برفع يده بالدعاء إذا أتته نعمة أو نقمة.
4- الدعاء للأولاد بالتوفيق والصلاح والتيسير.
5- الاحتراز من الدعاء عليهم، حتى لا نندم حالًا ومآلًا.
6- ألا نكتفي بالأسباب الدنيوية، ونغفل الدعاء، لا سيما الأذكار والأدعية الواردة (28).
-----------
(1)أخرجه الترمذي (2140).
(2) الفوائد لابن القيم (ص: 97).
(3) تيسير الكريم الرحمن (ص: 166).
(4) أخرجه البخاري (2554).
(5) أخرجه ابن ماجة (3862).
(6) فيض القدير (3/ 301).
(7) أخرجه البخاري (75).
(8) أخرجه أحمد (3032).
(9) منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (1/ 176).
(10) الحلية لأبي نعيم (4/ 297).
(11) تفسير ابن باديس (ص: 237).
(12) زهرة التفاسير (10/ 5324).
(13) تفسير ابن كثير (6/ 132).
(14) أخرجه البخاري (247).
(15) أخرجه أبو داود (1542).
(16) أخرجه البخاري (6382).
(17) إحياء علوم الدين (3/ 74).
(18) التفسير الوسيط لطنطاوي (12/ 99).
(19) تفسير الكشاف (4/ 53).
(20) أخرجه الحاكم (3566).
(21) دلائل النبوة للبيهقي (1/ 81).
(22) تفسير ابن كثير (6/ 132).
(23) أخرجه البخاري (3747).
(24) أخرجه البخاري (6344).
(25) أخرجه مسلم (3009).
(26) التربية بالدعاء/ عيون نت.
(27) سبق تخريجه.
(28) فن تربية الأبناء بالدعاء/ شبكة الألوكة.