كيف تؤمن مستقبل أبنائك؟
لا شك أننا، كآباء، نبتغي مستقبلًا مشرقًا لأبنائنا؛ بل ونريدهم أفضل منا، ونتمنى لهم السعادة في الدنيا والآخرة؛ ولذلك لا يألو الواحد منا جهدًا ولا يدخر وسعًا في تحقيق ذلك لهم، ويسعى سعيًا حثيثًا لأن يكونوا في أفضل حال وأرفع مكانة، كيف لا وهم فلذات أكبادنا وحبات قلوبنا تمشي على الأرض.
من أجل ما سبق فإن مستقبل الأبناء يشغل حيزًا من تفكير الأكثرين منا، إن لم نقل الجميع، والبعض يطرح حلولًا ويتبنى اتجاهات لا ترضي المولى تبارك وتعالى؛ كوضع أموال في البنوك تُدر عليهم فوائد ربوية، أو فتح دفتر للتوفير، والبعض يتجه إلى عقود التأمين على الحياة المحرمة...الخ.
المستقبل الحقيقي:
من الجيِّد أن يكون للوالدين تفكير في حالة أولادهم المعيشية كيف ستكون بعد وفاتهم، ولكنَّ الأجود من ذلك أن يكون تفكيرهم واهتمامهم بحالتهم الدينية، وحالهم مع الله في اعتقادهم ومنهجهم وسلوكهم، والمسلم لم يُخلق للطعام والشراب، ولا رُغِّب الأزواج بالإنجاب للاهتمام، فقط، بطعام أولادهم ولباسهم؛ بل هذا من القصور، وليعلموا أنهم مسئولون عن رعيتهم تلك، نصحوا لهم أو فرَّطوا فيهم(1).
وعلى ذلك فإن المستقبل الحقيقي للأبناء هو الآخرة، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23-24].
إن الذي ينبغي أن يشغل تفكير كل أب وأم، ويجب عليه أن يؤمنه لرعيته، مع إنفاقه عليه وسده لحاجياته وتأمينه لضروريات معاشه وحياته، أن يعلمهم دينهم، وأن يربيهم على طاعة الله، وأن يجنبهم ما حرم الله، وأن يغرس في نفوسهم تقوى الله فهي خير زاد في الدنيا والمعاد.
فإنهم إن كانوا أتقياء ومات هو عنهم فلن يخلف لهم أفضل من تقوى الله، وإن كانوا غير ذلك فلا يترك لهم ما يستعينون به على معصيته.
أما رزقهم فهذا ليس إلينا ولا بأيدينا؛ بل هو بيد من بيده ملكوت السماوات والأرض، من خزائنه لا تنفد وما عنده لا يفنى ولا يغيض، فمَن رَزَقنا حتمًا سيرزقهم، ومن منحنا سيمنحهم، ومن أطعمنا سيطعمهم، ومن رزق النملة في البر، والطير في السماء، والحوت في البحر سيرزقهم.
قال ابن الجوزي: بلغني أن المنصور قال لعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: عظني، قال: مات عمر بن عبد العزيز رحمه الله وخلف أحد عشر ابنًا، وبلغت تركته سبعة عشر دينارًا؛ كفن منها بخمسة دنانير، وثمن موضع قبره ديناران، وقُسم الباقي على بنيه، وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهمًا، ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابنًا، فقسمت تركته، وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف، ورأيت رجلًا من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلًا من ولد هشام يتصدق عليه(2).
وجرينا ولهثنا وراء سراب المستقبل لن يزيد في رزقهم ولن ينقص منه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود:6].
وكان أبوهما صالحًا:
يقول العلامة الفقيه أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن [يعني: إسماعيل والد الإمام البخاري] عند موته فقال: «لا أعلم من مالي درهمًا من حرام، ولا درهمًا من شبهة»(3).
بهذه العفة والطهارة والنقاء والتقوى وفي هذا المنبت الطيب يخرج حافظ الإسلام وإمام الأئمة الأعلام، العلم الفرد، تاج الفقهاء، وعمدة المحدثين وسيد الحفاظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تبارك وتعالى.
وهذا الإمام، شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن، كان سيدًا من سادات المسلمين، وكان مشهورًا بالعلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه، وكان غنيًا، شاكرًا، رأس ماله نحو الأربع مائة ألف(انظر سير أعلام النبلاء، للذهبي).
هذا الإمام العظيم من أبوه؟
إنه المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم، يُحكى عنه أنه كان يعمل في بستان لمولاه، وأقام فيه زمانًا، ثم إن مولاه جاءه يومًا وقال له: «أريد رمانًا حلوًا»، فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رمانًا فكسره فوجده حامضًا، فحرد عليه وقال: «أطلب الحلو فتحضر لي الحامض، هات حلوًا»، فمضى وقطع من شجرة أخرى، فلما كسره وجده أيضًا حامضًا فاشتد حرده عليه، وفعل كذلك دفعة ثالثة، فقال له بعد ذلك: «أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟!»، فقال: «لا»، فقال: «كيف ذلك؟!»، فقال: «لأنني ما أكلت منه شيئًا حتى أعرفه»، فقال: «ولم لم تأكل؟»، قال: «لأنك ما أذنت لي»، فكشف عن ذلك فوجد قوله حقًا، فعظم في عينه وزوّجه ابنته(4).
إن هذه النماذج جاءت تصديقًا لما قرره الله في كتابه العزيز من حفظه مال الغلامين اليتيمين تحته الجدار بسبب صلاح أبيهما {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)} [الكهف:82].
قال ابن عباس في قوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} قال: «حُفِظا بصلاح أبيهما، ولم يَذكر منهما صلاحًا»(5).
وقال سعيد بن المسيب لابنه: «لأزيدن في صلاتي من أجلك؛ رجاءَ أن أُحْفَظَ فيك»، ثم تلا هذه الآية {وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحًا}.
وقال ابن المنكدر: «إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر»(6).
فالتقوى هي التي تحفظ الأبناء من بعدنا، مراقبة الله جل وعلا، والخوف من الله هو أعظم تأمينٍ على الحياة، وأعظم تأمينٍ على الذرية، وأعظم تأمينٍ على الأموال، وأعظم تأمينٍ على الزوجات والأولاد والبنات {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)} [النساء:9].
الفهم الصحيح للمسألة:
وأحب ألا يفهم كلامي فهمًا خاطئًا، بأن الكاتب يريد أن ينقطع الآباء إلى العبادة، وينشغلوا عن الدخول في الأسباب لتوفير المال الحلال الطيب لورثتهم، كلا.
فإن الأمر بالتقوى لا يعارض ألبتة الدخول في الأسباب، فإن الدخول في الأسباب كما قال الشاطبي في الموافقات: «أمر واجب شرعًا».
يجب علي وعليك أن ندخل في الأسباب، فلا مانع أن تدبر المال الحلال الطيب لولدك، ولا مانع من أن تسعى ومن أن تكدح، شريطة ألَّا تضيع حق الله أو حق ولد من أولادك، فإن كثيرًا من الناس قد يظن أن الكدح والسعي على الأولاد لا حرج فيه أن يضيع الصلوات، وإذا ما قلت له يرد عليك ويقول: أليس العمل عبادة؟ أنا في عبادة، فلماذا أترك هذه العبادة لآتي للصلاة؟!
فنقول لمن هذا حاله: لا حرج أن تسعى على رزقك من الحلال لتيسر لأولادك السعة والرخاء في الدنيا وبعد موتك، شريطة ألا يشغلك هذا الكدح عن حق الله جل وعلا أو عن حقوق أولادك، فإننا نرى كثيرًا ونقرأ كثيرًا عن آباء قد تركوا أولادهم وانصرفوا عنهم، واهتموا بأن يدبروا لهم الطعام والشراب فقط، وظنوا أن الأمر متوقف عند المال، وعند الطعام والشراب، ثم عاد هذا الرجل وهذا الوالد المسكين بعد فترة ليرى ولده، عياذًا بالله وحفظنا الله وإياكم، مدمنًا للمخدرات، أو مدمنًا للهروين، أو شاربًا للخمر، أو زانيًا أو مسك في بيت من بيوت الدعارة؛ لأن الوالد المسكين قد ظن أن كل ما عليه تجاه ولده أن يدبر له الطعام والشراب فقط.
وهذا خطأ كبير، أحذر نفسي وأحبابي منه، فإن الولد في حاجة إلى أبيه، لا إلى مال أبيه فقط، فإن وفرت له المال ويسرت له السعة والرخاء مع كل ما تملك من فكر ورحمة، وعطاء وحنان وبذل ونصح وإرشاد، وتربية على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الخير؛ بل هو قمة الخير؛ بل وجزاك الله عن ذلك كل الخير، والأصل في ذلك حديث مسلم أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: «يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟»، قال: «لا»، قال: قلت: «أفأتصدق بشطره؟»، قال: «لا، الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»؛ أي: يسألون الناس(7).
______________
(1) فتوى بعنوان: كيف يمكن للوالدين تأمين مستقبل أولادهم المعيشي بما لا يخالف الشرع؟ موقع: الإسلام سؤال وجواب.
(2) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، 338.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء (12/447).
(4) انظر: وفيات الأعيان، لابن خلكان (3/32).
(5) رواه النسائي في الكبرى (11838).
(6) جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/467).
(7) محاضرة بعنوان: أكل مال اليتيم، موقع: الشبكة الإسلامية.