logo

الزيارات العائلية ضوابط وآداب


بتاريخ : الثلاثاء ، 29 شوّال ، 1440 الموافق 02 يوليو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الزيارات العائلية ضوابط وآداب

الإنسان اجتماعي بطبعه، هذا ما جبله الله تعالى عليه، فلا يحب العزلة ولا يفضلها، ويحيا باللقاء بجماعاته، وتداول الأحاديث معهم لفترات، فالعلاقات الاجتماعية بالنسبة للإنسان هي شيء أساسي في الحياة، لكنها تأخذ طابعًا مميزًا لدى كل مجتمع، فالمجتمع الإسلامي يختلف عن غيره في نظرته للزيارات الاجتماعية، وخاصة الأسرية منها، التي ينظر لها بعين الواجب وصلة الرحم.

إن زيارة الأقارب والجيران والأصدقاء، وغيرهم من عموم المسلمين، وسيلة من وسائل توثيق المودة، وتآلف القلوب، وتقوية الروابط، وفيها يتذكر الناسي، وينبه الغافل، ويعلم الجاهل، ويروح بها عن النفوس، وتخفف المصائب والأحزان، وغير ذلك من الفوائد المرجوة من وراء الزيارات.

والزيارات أنواع متعددة؛ فمنها الزيارة الواجبة؛ كزيارة الوالدين، وصلة الأرحام، ومنها المستحبة؛ كزيارة الجيران، والأصدقاء والخلان، وما إلى ذلك.

وإن من أيسر أسباب صلة الرحم تبادل الزيارات بين الأقارب في المناسبات الشخصية والدينية والاجتماعية، والتعرف إلى أحوال ذوي الأرحام، والمشاركة الوجدانية في السراء والضراء، وإدخال السرور على الزائر والمزور.

وهذه الفضيلة رغم بساطتها إلا أن البعض أهملها مع الأسف، وأصبح بعض الأبناء لا يسأل عن الأمهات ربما لعدة أشهر، كما أن البعض حوَّلها إلى وسيلة للتكلف والتفاخر، وربما لكشف العورات والتباهي، وكثرة القيل والقال، أو تجديد الخصومات القديمة في جلسات الغيبة والنميمة.

والشريعة الإسلامية قائمة على التواد والتحاب بين البشر وبين المسلمين عمومًا، وبين الأقارب على وجه الخصوص، ولقد خص الإسلام الأقارب بفضائل خاصة، يأتي على رأسها تبادل الزيارة والتهادي والسؤال عن أحوال ذوي الأرحام، وإذا كان الخالق يقرر في إجمال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، ويقرر في حق المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فما بالنا بالمسلم، وهو أخو الدم والنسب، وصاحب القرابة والرحم، من الآباء والإخوان والأعمام والخالات، وغيرهم من ذوي الأرحام وأقاربهم؟

ومن هنا حث الإسلام على مبدأ الزيارة والتراحم؛ لأنه تجسيد لوحدة المسلمين، وحذر من التنابذ والتقاطع على نحو ما قد يحدث مع بعض المسلمين، حيث لا يزور قريبه إلا عند حدوث مصيبة له، ولا يزور أخاه إلا عند زواج أولاده، وقد لا يسأل عن والده بالهاتف إلا في أضيق الحدود.

تعددت صور الحث على تبادل الزيارة بين الأقارب وثوابها العظيم في الدنيا والآخرة، ففي الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من عبد أتى أخاه يزوره في الله إلا ناداه مناد من السماء: أن طبت وطابت لك الجنة، وإلا قال الله في ملكوت عرشه: عبدي زار فيّ، وعليّ قراه، فلم يرض الله له بثواب دون الجنة»(1).

وفي حديث معاذ بن جبل: «يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، وللمتجالسين فيّ، وللمتزاورين فيّ»(2).

وعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»(3).

ويلاحظ في هذا الحديث الشريف هذا الربط الواضح بين الإيمان بالله من ناحية وبين خُلُق إكرام الضيف، وخلق صلة الرحم، وخلق القول الحسن، وهي فضائل أخلاقية وسلوكية تصب في الأساس في تقوية صلات المجتمع وفي إزالة أسباب التقاطع.

وصلة الأرحام من أعظم القربات إلى الله وأجلها، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، والمسلم في هذه الدنيا يجدّ في السير إلى رحاب جنة عرضها السماوات والأرض، ومما يعينه في ذلك السير تلمس ثمار القيام بصلة الأرحام، ومنها:

1- امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم، حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرنها بعبادة الله تعالى دلالة على عظم شأنها، كما في حديث عمرو بن عبسة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي شيء أرسلك الله؟، قال: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوَحَّدَ اللهُ لا يُشْرَكُ به شيء»(4).

2- طلب القرب من الله تبارك وتعالى؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟، قالت: بلى، قال: فذاك لك»(5).

3- طمعًا في دخول الجنة، كما في الحديث عن عبد الله بن سلام قال: «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قبله، وقيل: قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: (يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)»(6).

4- كسب الرزق والبركة في الذرية والذكر الحسن، كما في الحديث عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سرَّه أن يُبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه»(7).

5- دفع العقوبة المترتبة على قطيعة الرحم، كما في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23-22]، وكما في الحديث عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة قاطع رحم»(8)، وكذلك في الحديث عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ذنب أجدر أن يُعجل الله بصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم»(9).

من آداب زيارة الأقارب:

وإذا زار رحمه فإن عليه أن يتوخى آداب الزيارة؛ في مواقيتها، وكذلك في الدخول والاستئذان، وفي الجلوس، فيراعي الحرمات، ولا يبالغ في الدخول إلى البيت والجلوس ساعات طويلة، والدخول في عورات البيت، إلى غير ذلك مما لا يليق بالكريم ولا ينبغي للمؤمن؛ بل عليه أن يزور زيارة يحفظ بها ماء وجهه، ويكون متسربلًا بسربال التقوى، الذي يحبهُ الله ويرضاه، ومن هذه الآداب ما يلي:

1- استصحاب الإخلاص لله تعالى في كل عمل تقوم به، وأن تلزم الالتجاء إلى الله سبحانه ودعائه بأن يوفقك وأن يفتح على يديك، وأن تنطلق مع محبوبات الله أنى استقلت ركائبها، مع الاجتهاد في دفع كل ما يعارض هذا الأصل العظيم، الذي هو أنفع الأصول وأصلحها للقلب، وأعظمها فوائد ونتائج، مع اجتهادك فيه تلجأ إلى الله تعالى في إعانتك عليه وتيسيره لك.

2- أن تستشعر دائمًا أن أقاربك وأرحامك أولى الناس بك، وأحقهم بعطفك وخيرك {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75]، وعن سلمان بن عامر الضبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي القرابة اثنتان؛ صدقة، وصلة»(10).

3- أن تدرك أن صلة الرحم من أخص صفات المؤمنين؛ بل إنها من أبرز صفات سيد المرسلين؛ كما قالت خديجة رضي الله عنها لرسول الله مطمئنة له، ومهدئة من روعه: «كلا، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم...»(11).

4- أن يروا منك الإيجابية في التعاون معهم، ومسارعتك في قضاء حوائجهم، والوقوف في صفهم في الحق، وبذل جاهك وشفاعتك لهم، ومحاولة إيجاد البدائل فيما لم توافقهم عليه من أعمال أو تصرفات.

5- العفو والتجاوز عن حقوقك الذاتية تجاههم؛ بل تحاول أن تتناساها تمامًا، ومن ذلك المكافأة في الصلة؛ فالواصل ليس بالمكافئ، فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمُه وصلها»(12).

وعن أبي هريرة أن رجلًا قال: «يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: «لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك»(13).

6- مشاركتهم في أفراحهم ومناسباتهم، والمباحات من أعمالهم، دون زيادة تسقط الهيبة، وتضعف الشخصية.

7- الاهتمام بالمناسبات التي يحث عليها ديننا الإسلامي وإحياؤها؛ مثل: الأعياد، وقدوم مولود جديد، والعقيقة، والزواج، والوفاة...، وهكذا(14).

8- الاستئذان قبل الزيارة: من أبرز هذه الآداب أن على الزائر أن يستأذن عند الزيارة؛ إذ من غير المناسب أن يزور الإنسان قريبه من دون استئذان تحت داعي أنه قريبه، فالزيارة من دون استئذان تفتح باب الحرج، وربما التأفف والضيق، فضلًا عن أن الاستئذان مبدأ شرعي لكل أمر.

والثابت أن مبدأ الاستئذان واجب من كل أحد؛ بل هو دعوة قرآنية حتى من أقرب الناس إليك، كما في الأطفال، وفي أوقات محددة.

ففي القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)} [النور:27]، وغير البيوت هنا معنى ينطبق على كل ذوي الأرحام والأقارب، حتى قيل إنه من الأفضل أن يستأذن الرجل بالدخول على زوجته؛ حفظًا له، وحتى تتهيأ له قدر المستطاع.

وفي آيات سورة النور تحديد لأوقات الاستئذان، حتى للطفل وما ملكت اليمين، وهما من أقرب الناس لصاحب البيت، يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور:58].

والمعنى أن مبدأ الاستئذان مطلوب، ولا يتعلل البعض بالقرابة فيفاجئ من يزورهم بوضع قد لا يحبونه، وقد تيسرت الآن صور الاستئذان عبر الهواتف وغيرها من وسائل الاستئذان، التي تجعل فضيلة زيارة ذوي الأرحام مناسبة لتوسيع صور المحبة والتعاطف والبر.

9- البعد عن التكلف: وحتى تكون الزيارة خطوة في هذا الصدد ينبغي أن يبتعد الزائر والمزار عن بعض صنوف التقاطع، من ذلك مثلًا بعض التكلف والتفاخر الذي قد يمارسه الزائر على أهل المزور من ذوي رحمه.

ولهذا نحذر من المفاخرة والتباهي، في المأكل والملبس والمشرب، بين ذوي الأرحام بشكل خاص، وبين الناس جميعًا بشكل عام.

وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل هذا فقال: «من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة»(15).

ولهذا نهى الرسول عن بعض صور التباهي في السلوكيات الاجتماعية؛ مثل الشرب في آنية الذهب والفضة، ومثل لبس الحرير والديباج والذهب للرجال، ومثل الإسراف في الثياب أو التشدق في الكلام، ومراعاة حال الأخ المسلم فضيلة واجبة، وهي أكثر وجوبًا عند زيارة الأهل ذوي الأرحام.

إذن فالزيارة والتهادي من الفضائل الشرعية والاجتماعية التي يجب أن يقوم بها المسلم لأقاربه، ولكن ما نشدد عليه كذلك أن تتم هذه الزيارة في جو أسري حميم بدلًا من الترصد والتزيد والتكلف.

10- تطفل مرفوض: ومن الآداب ألا يضع الزائر نفسه في موضع لا يحب أن يراه فيه صاحب الدار، خاصة والدة الزوج أو والدة الزوجة؛ حيث تتطفل على بيت ابنها أو ابنتها بحجة الخوف عليه أو عليها، وتقع عندئذ في مخالفات شرعية عديدة، خاصة مخالفة التجسس والتحسس وكشف الأسرار، وربما تتبع العورات، وهي من أرذل السلوكيات التي تؤدي بالفعل إلى تقاطع الأرحام.

وفي إجمال يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة»(16)، وفي حديث ابن عباس: «من كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته»(17).

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة»(18).

والواجب أن يلتزم المسلم بأخلاق الزيارة الشرعية؛ بأن يستأذن، ويلقي السلام، ولا يطرق الباب بعنف، ولا يدخل إذا أرجعه رب المنزل، ويجلس هو وأولاده حيث يريد صاحب الدار، وأن يصافح ببشاشة من يقابله، وأيضًا أن يجلس بجوار الناس وليس في وسطهم، وحيث انتهى به المجلس، وأن يستأذن قبل انصرافه من الزيارة، وهي آداب وردت في أكثر من موضع في السنة النبوية، ومن ذلك أن رسول الله قال: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع»(19)، وكان الصحابة يقرعون أبواب الرسول صلى الله عليه وسلم بالأصابع أو بالأظافر، تعبيرًا عن الرغبة في عدم الإزعاج، وفي الحديث: «من دخل دار قوم فليجلس حيث أمروه، فإن القوم أعلم بعورة دارهم»(20).

فواجب المسلم أن يداوم على زيارة أهله، وألا يقطع الاتصال المعنوي والمادي بهم، وأن يكون حريصًا على عدم إثارة أي مظهر من مظاهر الحساسية والخلاف.

مفسدات الزيارات العائلية:

إن مما يفسد الزيارات، ويؤجج نيران الفتنة بين الأقارب، ويحول الطاعة إلى معصية، تللك المحرمات التي تصاحب الزيارة، فالتهاون في اللباس والاختلاط والخضوع بالقول، وغير ذلك من المحرمات، مما يقدح في الزيارة ويفسد ودها، ويحول نعيمها إلى عذاب، وثوابها إلى عقاب، ومن هذه المفاسد المحرمة ما يلي:

1- التبرج:

غالب الناس في مجالس الاختلاط حجابهن معدوم أو مختل، فتبدي المرأة الزينة التي نهاها الله عن إبدائها لغير من يحل لها أن تكشف عنده، في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، ويحدث أن تتزين المرأة للأجانب في مجلس الاختلاط ما لا تتزين به لزوجها مطلقًا.

قال ابن كثير: «ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلًا»(21).

ولذا قال الزمخشري في الكشاف: «قدّم غض الأبصار على حفظ الفروج؛ لأن النظر بريد الزنى ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدّ وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه...، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصوّن والتستر؛ لأنّ هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء»(22).

2- المصافحة:

ومصافحة النساء حرام؛ لما ورد عن معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له»(23).

وقد قال صلى الله عليه وسلم في البيعة: «إني لا أصافح النساء»(24)، ومن حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «لا والله، ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، إنما يقول: (قد بايعتكن) كلامًا»(25).

والضابط في ذلك أن كل النساء اللاتي هن محرمات عليك تحريمًا مؤقتًا لسن محارم لك، فزوجة الجار مثلًا محرمة عليك، لكنه تحريم مؤقت، بحيث إذا مات عنها أو طلقها يمكن أن تتزوجها، فالأصل في الفروج التحريم، والأصل أن كل النساء حرام عليك.

فيختلط الأمر على بعض الناس أحيانًا، ويظن أنه يجوز له أن يصافح أخت زوجته؛ لأنه لا يقدر أن يجمع بينهما.

ولا يقال للمرأة إنها محْرم إلا أن يحرم الزواج منها على التأبيد؛ كالأم والأخت والبنت وأم الزوجة والعمات والخالات.

وفي حديث أميمة بنت رقيقة، وأبوها عبد الله بن بجاد، وأمها رقيقة بنت خويلد أخت أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، قالت: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه على الإسلام، فقلن: (يا رسول الله، نبايعك على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما استطعتن وأطقتن)، فقلن: (الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم بنا نبايعك يا رسول الله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)»(26)، وفي بعض الروايات: «لا أمس أيدي النساء»(27).

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فإذا امتنع عن المصافحة في حال المبايعة، التي تقتضي المصافحة، فهذا يدل على تحريم ذلك على الأمة بطريق الأولى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مشرع لهذه الأمة، ولا شك أن أخف أنواع اللمس هو المصافحة، ومع ذلك امتنع منها النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها، وهو وقت المبايعة.

وقد سدت الشريعة ذرائع الافتتان، وحرمت هذا المس؛ لأنه قد يكون ذريعة إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى؛ لقلة تقوى الله في هذا الزمان، وضياع الأمانة، وعدم التورع والريبة.

إن الشريعة تمنع الفعل المؤدي إلى الفساد، بغض النظر عن نية صاحبه، فهي تنظر إلى مآلات الأفعال، فإذا كان المآل فاسدًا كان الفعل المؤدي إليه ممنوعًا، سدًا لذريعة الفساد وإن لم يقصد الفاعل الفساد بفعله.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبًا فإنه يحرمها مطلقًا، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي، لكن الطبع يقضي بإفضائها، فيرجح جانب إفضائها إلى التلذذ بذلك، فيحرم على الإنسان، فهذا الكلام المتعلق بهذه المسألة باختصار»(28).

قال الشنقيطي: «وكونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيعة دليل واضح على أن الرجل لا يصافح المرأة، ولا يمس شيء من بدنه شيئًا من بدنها؛ لأن أخف أنواع اللمس المصافحة، فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها، وهو وقت المبايعة، دل ذلك على أنها لا تجوز، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره»(29).

3- النظر:

نعمة البصر من النعم العظيمة التي امتن الله تعالى بها على العباد، مع نعمتي السمع والعقل؛ فبها ينظرون إلى عجائب قدرة الله تعالى وبديع صنعه في البر والبحر، والأرض والسماء؛ {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس:101]، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ} [العنكبوت:20]، وبها يبصر الناس العلوم والمعارف ويقرءونها، وبها يتمتعون بما أودعه الله تعالى في الكون من جمال الخلق.

والبصر قوة للمبصر، لا يحتاج معه إلى دليل في سيره، ويتقي به المخاوف، وبه يحرز ماله، ويدرأ عن نفسه، ولا يطمع فيه الأعادي واللصوص.

ولكن هذه النعمة العظيمة تنقلب إلى نقمة حين يطلقها صاحبها فيما حرم الله تعالى عليه، فيكتسب بها آثامًا كثيرة، ويحمل بسببها أوزارًا ثقيلة؛ ذلك أن العبد يُسأل يوم القيامة عن نعمة البصر: فيم سخرها؟ وكيف انتفع بها؟ فإن سخرها فيما يرضي الله تعالى عادت عليه بالخير والأجر، وإن سخرها في معصية الله تعالى باء بالإثم والوزر، يقول الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وأخبرنا ربنا جل جلاله أن الأبصار تكون من الشهود يوم القيامة؛ {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20]، وثبت في الأحاديث أن العبد يختم على فيه وتنطق جوارحه بأعماله السيئة، ومن جوارحه عيناه تشهدان عليه بما نظر إليه.

وجاء نهي صريح في القرآن عن الاغترار بزينة الدنيا، وإدامة النظر إلى المباح منها؛ لئلا تتعلق القلوب بها، فكيف إذن بالمحرمات؟! {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «يتناول النظر إلى الأموال واللباس والصور، وغير ذلك من متاع الدنيا...؛ وذلك أن الله تعالى يمتع بالصور كما يمتع بالأموال، وكلاهما من زهرة الحياة الدنيا، وكلاهما يفتن أهله وأصحابه، وربما أفضى به إلى الهلاك دنيا وأخرى، والهلكى رجلان؛ فمستطيع وعاجز؛ فالعاجز مفتون بالنظر ومد العين إليه، والمستطيع مفتون فيما أوتي منه، غارق قد أحاط به ما لا يستطيع إنقاذ نفسه منه»(30).

إن ربنا تبارك وتعالى محاسبنا على أعمالنا، ويجازينا بها، وقد أمرنا بغض أبصارنا عما حرم علينا، فخص الرجال بقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، وخص النساء بقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، فكما أنه لا يجوز للرجل أن يقصد النظر إلى المرأة التي لا تحل له، فكذلك المرأة لا يجوز لها أن تقصد النظر إلى الرجال الأجانب عنها؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب من الرجال، بشهوة ولا بغير شهوة أصلًا»(31).

والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه.

4- الخضوع بالقول ولين الحديث:

قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] لا ترفقن بالقول ولا تلن الكلام، {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] زنى وفجور، والمعنى: لا تقلن قولًا يجد به منافق أو فاجر سبيلًا إلى الطمع في موافقتكن به، والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة؛ لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة، {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]؛ أي: ما يوجبه الدين والإسلام بغير خضوع فيه؛ بل بتصريح وبيان.

قال السدي وغيره: «يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال»؛ ولهذا قال: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}؛ أي: دغل، {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}، قال ابن زيد: «قولًا حسنًا جميلًا معروفًا في الخير».

ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم؛ أي: لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها(32).

قال القرطبي: «أمرهن الله أن يكون قولهن جزلًا وكلامهن فصلًا، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين، كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه؛ مثل كلام المريبات والمومسات؛ فنهاهن عن مثل هذا...

والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب، وكذا المحرمات عليها بالمصاهرة، إلى الغلظة في القول، من غير رفع صوت، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام»(33).

والنساء في كلامهن رقة طبيعية، وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولين النفس ما إذا انضم إلى لينها الجبلي قربت هيئته من هيئة التدلل؛ لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة، فإذا بدا ذلك على بعض النساء ظن بعض من يشافهها من الرجال أنها تتحبب إليه، فربما اجترأت نفسه على الطمع في المغازلة، فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة(34).

5- الاختلاط:

خلق الله تعالى المرأة وجعلها مكملة للرجل من جوانب عديدة، ومنها جانب الميل الجنسي كل منهما للآخر، فلا غنى لأحدهما عن الآخر.

والاختلاط محرم في الإسلام؛ لما يلحق من جرائه من ويلات على الفرد والمجتمع، من تفسخ وانحلال وذهاب لقيم المروءة والغيرة والعفة، ناهيك عن النتائج المترتبة عن الاختلاط، من ضياع للأعراض، وانتهاك للحرمات، ونشوء جيل من اللقطاء الذين لا يعرفون آباءهم، فضلًا عما ينتج بعد ذلك من مجتمع بعيد كل البعد عن قيم الأخلاق والمبادئ والدين، وأناس لا يعرفون من الحياة سوى إشباع شهواتهم، وحياة كحياة البهائم، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد:12].

الإسلام يمنع الدخول على الأجنبيات والخلوة بهن، فالنبي صلى الله عليه وسلم يسن الحصانة بين الجنسين فيقول: «إياكم والدخول على النساء»، فقال رجل من الأنصار: «أفرأيت الحمو؟»، قال: «الحمو الموت»(35).

والحمو هو أخو الزوج وقريبه؛ كابن أخيه وابن عمه، وتعبير النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بلفظ «الموت» يعني أن الهلاك والمضرة كلها تأتي من هاهنا؛ حيث لا ريبة في دخول هؤلاء، وهم أعلم بِسِرِّ الزوج وموعد دخوله وخروجه، فاحتمال وقوع الفتنة منهم أكبر.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم»(36).

6- الغيبة:

حذار، حذار، حذار من الوقوع في فاكهة المجالس (الغيبة)، قال الإمام النووي رحمه الله: «فأما الغيبة فهي ذكرك الإنسان بما فيه مما يكره، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خُلُقه، أو خَلْقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو مملوكه، أو عمامته، أو ثوبه، أو مشيته، أو حركته وبشاشته وعبوسه وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابك، أو رمزت أو أشرت إليه بعينك أو يدك أو رأسك أو نحو ذلك»(37).

قال الله عز وجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «حسبك من صفية كذا وكذا»، تعني قصيرة، فقال: «لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته»، قالت: «وحكيت له أنسانًا فقال: (ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا)»(38).

قال النووي معلقًا: «قلت: مزجته؛ أي: خالطته مخالطة يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها، وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث يبلغ في الذم لها هذا المبلغ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم:3-4](39).

وكما أن الغيبة محرمة فإن استماعها وإقرار قائلها دون نصحه محرم، فيجب أن تخلوا منها مجالسنا وزياراتنا، فعن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حمى مؤمنًا من منافق» أراه قال: «بعث الله ملكًا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلمًا بشيء يريد شينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال»(40).

7- الإسراف والتبذير:

لا تسرف في الإنفاق في غير حق، قال الشافعي رضي الله عنه: «والتبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير»، وهذا قول الجمهور، وقال أشهب عن مالك: «التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه»، وهو الإسراف، وهو حرام؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27](41).

الإسراف في الطعام: قدم ما عندك, ولا تتكلف مفقودًا، ولا ترد موجودًا، ولا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فاتقوا الله ما استطعتم, ولا تماش الأغنياء، ولا تجعل مشيتك كمشية الآخرين, فعلى قدر دخلك فلتكيف حاجتك.

الإسراف في اللباس: قد ابتلي الناس اليوم بالمباهاة في المآكل والمشارب والمباني، حتى إن البعض قد لحقته الديون بسبب مجاراته للآخرين في التبذير والإسراف.

فأدب الشرع في النفقة ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقًا آخر أو عيالًا ونحو هذا، وألا يضيق أيضًا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام؛ أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك.

ونعم ما قال إبراهيم النخعي: «هو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف».

وقال يزيد بن أبي حبيب: «هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال، ولا يأكلون طعامًا للذة».

وقال يزيد أيضًا في هذه الآية: «أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ كانوا لا يأكلون طعامًا للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابًا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم، ويكنهم من الحر والبرد»(42).

وعن وهيب بن الورد أنه قيل لعالم: «ما البناء الذي لا سرف فيه؟»، قال: «ما سترك عن الشمس، وأكنك من المطر»، فقال له: «فما الطعام الذي لا سرف فيه؟»، قال: «ما سد الجوعة»، فقال له في اللباس، قال: «ما ستر عورتك، ووقاك من البرد»(43).

الإسراف في الوقت: تضييع الأوقات قد صار شعارًا لكثير من الناس، يضيعون الأوقات في التوافه، مع أن الوقت هو مخلوق لكي نملأه بالطاعات: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، فالله جعل الليل والنهار لكي نملأهما بالطاعات: {خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، الليل وراء النهار، والنهار وراء الليل، يختلفان لكي نعمرهما بالطاعات، فماذا فعلنا في ذلك؟ قال الحسن: «أدركت أقوامًا كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه».

كان هذا سيماهم رحمهم الله تعالى، يستغلون الأوقات بالعبادات أولًا، وبطلب العلم، يقول الرقاق: «سألت عبد الرحمن بن أبي حاتم عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالاته لأبيه، فقال: (ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه)».

يستغل كل وقت وكل دقيقة يقرأ على أبيه، ويستفيد منه ومن علمه، والآن تضيع الأوقات؛ فلا طلب علم ولا شيء، وأصبح الجهل متفشيًا(44).

إن أعظم ما يمكن اقتناؤه والاعتزاز به في هذه الحياة هو الإيمان والعمل الصالح، أما المظاهر والأشكال والملابس والحلي والمباهاة والتفاخر أمام الناس فهذه أشياء تافهة، تدل على فراغ من يهتم بها، وخلوه من المبادئ والمفاهيم الأساسية لمعنى الحياة، فالحياة ليست أصباغًا ومساحيق، ولا ملابس ملونة ولا حليًا مزخرفة، إن الحياة الحقيقية مبادئ وأخلاق ومثل، إنها إيمان وعمل وصدق ووفاء وكرم وبذل.

***

_______________

(1) صحيح الترغيب والترهيب (2579).

(2) أخرجه ابن حبان (575).

(3) أخرجه البخاري (6018).

(4) أخرجه مسلم (832).

(5) أخرجه مسلم (2554).

(6) أخرجه الترمذي (1855).

(7) أخرجه البخاري (5985).

(8) أخرجه مسلم (2556).

(9) أخرجه الترمذي (2511).

(10) أخرجه ابن ماجه (1844).

(11) أخرجه البخاري (6982).

(12) أخرجه البخاري (5991).

(13) أخرجه مسلم (2558).

(14) صلة الأقارب والأرحام، موقع: طريق الإسلام.

(15) أخرجه ابن ماجه (3606).

(16) أخرجه مسلم (2590).

(17) أخرجه ابن ماجه (2546).

(18) أخرجه أبو داود (4868).

(19) أخرجه مسلم (2153).

(20) أخرجه الطبراني في الصغير (965).

(21) تفسير ابن كثير (6/ 44).

(22) تفسير الزمخشري (3/ 230).

(23) صحيح الجامع (5045).

(24) أخرجه ابن ماجه (2874).

(25) أخرجه البخاري (5288).

(26) أخرجه الترمذي (1597).

(27) صحيح الجامع (7177).

(28) تفسير القرآن الكريم، المقدم (169/ 6، بترقيم الشاملة آليًا).

(29) إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان، ص73.

(30) مجموع الفتاوى (15/ 398).

(31) النظر إلى المحرمات، منتديات الألوكة.

(32) تفسير ابن كثير (6/ 409).

(33) تفسير القرطبي (14/ 177-178).

(34) التحرير والتنوير (22/ 8).

(35) أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172).

(36) أخرجه البخاري (5233).

(37) الأذكار، ص298.

(38) أخرجه أبو داود (4875).

(39) فيض القدير (5/ 411).

(40) أخرجه أبو داود (4883).

(41) تفسير القرطبي (10/ 247).

(42) تفسير القرطبي (13/ 73).

(43) مفاتيح الغيب (24/ 482).

(44) معاتبة النفس، دروس للشيخ محمد المنجد، الموسوعة الشاملة.