logo

في ظلال الأسرة


بتاريخ : الثلاثاء ، 19 ذو الحجة ، 1440 الموافق 20 أغسطس 2019
بقلم : تيار الاصلاح
في ظلال الأسرة

الأسرة هي البيئة التي تخرج أجيال المجتمع، وهي المحضن الذي تتربى فيه فلذات الأكباد، ولقد جاء الإسلام بنظام كامل يشمل كل متطلبات الأسرة، ويرفع شأنها، ويوفر لها عوامل البقاء والاستمرارية.

الإسلام نظام أسرة؛ البيت في اعتباره مثابة وسكن، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر، وفي كنفه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة، ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل.

ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويرًا رفافًا شفيفًا، يشع منه التعاطف، وترف فيه الظلال، ويشيع فيه الندى، ويفوح منه العبير: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:٢١]، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:١٨٧]، فهي صلة النفس بالنفس، وهي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل.

وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوًا ورفقًا، ويستروح من خلالها نداوة وظلًا، وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق، ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها، بما فيها امتداد الحياة بالنسل، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة، ويعترف بطهارتها وجديتها، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها.

ويحيط الإسلام هذه الخلية، أو هذا المحضن، أو هذه المثابة بكل رعايته وبكل ضماناته، وحسب طبيعة الإسلام الكلية، فإنه لا يكتفي بالإشعاعات الروحية؛ بل يتبعها التنظيمات القانونية والضمانات التشريعية(1).

والذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل وضع من أوضاعها ولكل حالة من حالاتها، وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات، وفي الاحتشاد الظاهر حولها بالمؤثرات والمعقبات، وفي ربط هذا الشأن بالله مباشرة في كل موضع، يدرك إدراكًا كاملًا ضخامة شأن الأسرة في النظام الإسلامي، وقيمة هذا الأمر عند الله، وهو يجمع بين تقواه سبحانه وتعالى وتقوى الرحم في أول سورة النساء حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].

كما يجمع بين عبادة الله والإحسان للوالدين في سورة الإسراء، وفي غيرها: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣]، وبين الشكر لله والشكر للوالدين في سورة لقمان: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:١٤].

وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداءً على أساس الأسرة، حين جرى قدر الله أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى، وكان الله سبحانه قادرًا على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانيين دفعة واحدة، ولكن قدره جرى بهذا لحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق، حيث تلبي حياة الأسرة فطرته واستعداداته، وحيث تنمي شخصيته وفضائله، وحيث يتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته.

ثم جرت هذه العناية في النظام الإسلامي، منهج الله الأخير في الأرض، مع القدر الإلهي في خلقة الإنسان ابتداءً، كما هو الشأن في تناسق كل ما يصدر عن الله بلا تفاوت ولا اختلاف.

وللاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية هذا الاحتفال في القرآن كله؛ هي اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله، واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية- لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية، وعند أتباع الديانات المحرفة، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها(2).

إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار، والإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها، وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات، ويفرض الآداب التي تمنع التبرج والفتنة كي تستقر العواطف، ولا تتلفت القلوب على هتاف الفتنة المتبرجة في الأسواق، ويفرض حد الزنا وحد القذف، ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليها، والاستئذان بين أهلها في داخلها.

وينظم الارتباطات الزوجية بشريعة محددة، ويقيم نظام البيت على أساس قوامة أحد الشريكين وهو الأقدر على القوامة، منعًا للفوضى والاضطراب والنزاع... إلى آخر الضمانات والتنظيمات الواقية من كل اهتزاز(3).

قال الله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:٢١]، هو ميثاق النكاح، باسم الله، وعلى سنة الله، وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن وهو يخاطب الذين آمنوا، ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ.

ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي، وهذه العناية بتوثيق عراها، وتثبيت بنيانها، وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء، وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة، وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى(4).

ولكن لما طال الأمد على كثير من أبناء الإسلام انحرف عندهم مفهوم الأسرة، واعتبروا أن المفاهيم التي دعا إليها الإسلام مفاهيم تحتاج إلى تصحيح وإعادة صياغة؛ فحولوا هذه المفاهيم القيمة، التي جاءت لتحافظ على كيان الأسرة وبنية المجتمع، إلى معانٍ أخرى ومفاهيم متغايرة، تعمل على هدم الأسرة وتقويض بنائها.

والأسرة القائمة على الزواج العلني، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه، ويتم به الإحصان، وهو الحفظ والصيانة، هي أكمل نظام يتفق مع فطرة الإنسان وحاجاته الحقيقية، الناشئة من كونه إنسانًا، ويحقق أهداف المجتمع الإنساني، كما يضمن لهذا المجتمع السِّلْمَ المطمئنة: سِلْمَ الضمير، وسلم البيت، وسلم المجتمع في نهاية المطاف.

وأي تهوين من شأن روابط الأسرة، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه هي محاولة آثمة، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب؛ بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع؛ وتهدم الأساس الذي يقوم عليه، ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة المسخرة لتوهين روابط الأسرة، والتصغير من شأن الرباط الزوجي، وتشويهه وتحقيره، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب، والعاطفة الهائجة، والنزوة الجامحة، وتمجيد هذه الارتباطات، بقدر الحط من الرباط الزوجي.

إن جهودًا منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله، ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله، ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله.

والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان، بعد أن تنهار عقائدها، وتنهار أخلاقها، وتنهار مجتمعاتها، ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى، إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله، لا المجتمع الإسلامي وحده، تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان، وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى، أمانة الحياة الإنسانية المترقية.

وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله، إذ يحطم نفسه بنفسه؛ ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة، لتحقيق لذاته هو، وشهواته هو(5).

***

_____________

(1) كتاب (السلام العالمي والإسلام)، فصل: إسلام البيت.

(2) في ظلال القرآن (4/ 2489).

(3) المصدر السابق (6/ 3595).

(4) المصدر السابق (1/ 575).

(5) المصدر السابق (2/ 621-622)، باختصار.