logo

فن التفاهم بين الزوجين على هدي القرآن والسنة


بتاريخ : السبت ، 1 جمادى الآخر ، 1447 الموافق 22 نوفمبر 2025
فن التفاهم بين الزوجين على هدي القرآن والسنة

تقوم الأسرة في التصور الإسلامي على دعائم راسخة من المودة، والرحمة، والتفاهم، والتعاون، فهي ليست رابطة مادية تُبنى على المصالح، ولا عقدًا مدنيًّا تحكمه الأعراف والقوانين فحسب، بل هي ميثاق غليظ سماويٌّ يقوم على الإيمان بالله والامتثال لأمره، والعيش وفق هديه، يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة.

ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجًا، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكنًا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارا للحياة والمعاش، وأنسًا للأرواح والضمائر، واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء (1).

ففي هذه الآية جمع الله أركان السعادة الزوجية كلها: السكن، والمودة، والرحمة؛ والسكن هو الطمأنينة التي تغمر القلب حين يجد في الآخر أنسه، والمودة هي حرارة العاطفة التي تبعث في النفس حب البذل والعطاء، والرحمة هي الغطاء الذي يحفظ هذا الحب من الزوال حين تهبّ عليه رياح الحياة، ومن هنا كانت فنّ التفاهم بين الزوجين هو الصلة التي تحفظ هذه النعم الثلاث، وهو اللغة التي تُعبّر بها المودة، والجسر الذي تعبر عليه الرحمة.

فهي صلة النفس بالنفس، وهي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل، وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوًا ورفقًا، ويستروح من خلالها نداوة وظلًا، وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق، ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها، بما فيها امتداد الحياة بالنسل، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة، ويعترف بطهارتها وجديتها، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها (2).

وإنّ كثيرًا من البيوت اليوم تهتزّ، لا لأن المال قليل، أو لأن المسؤوليات ثقيلة، ولكن لأن لغة التفاهم غابت، وغلبت الأصوات على القلوب، والكلمات الجافة على العواطف الرحيمة، فالتفاهم ليس ترفًا في الحياة الزوجية، بل هو ركنها الذي تقوم عليه، وسرّ نجاحها ودوامها.

وقد أفسد على الناس تلك المودة والرحمة، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة، وأضعف في نفوس الأزواج ذلك السكون والارتياح؛ غرور الرجال بالقوة وطغيانهم بالغنى، وكفران النساء لنعمة الرجال وحفظ سيئاتهم، وتماديهن في الذم لها والتبرم بها، وما مضت به عادات الجاهلية في بعض المتقدمين وعادات التفرنج في المعاصرات والمعاصرين، وقلد به الناس بعضهم بعضًا، فالله سبحانه وتعالى ذكرنا أولًا بنعمته علينا في أنفسنا لنزيح عن الفطرة السليمة ما غشيها بسوء القدوة واتباع الهوى، ونشكرها له سبحانه بالمحافظة عليها بتمكين صلة الزوجية واحترامها وتوثيقها، وثانيًا بهذا الدين القويم الذي هدانا إلى ذلك، وحد لنا كتابه الحدود ووضع الأحكام مبينًا حكمها وأسرارها، مؤيدًا لها بالوعظ السائق إلى اتباعها (3).

فإن المودة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما، والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان (4).

الزواج ميثاق يقوم على المودة لا على الصراع:

الزواج في الإسلام ميثاق غليظ، لا ينعقد إلا بشهادة الله، ولا يستمر إلا على تقواه، قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21].

فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هي أقوى ما تعتمد عليه المرأة في ترك أبويها، وإخوتها، وسائر أهلها، والرضا بالاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء، فمن آيات الله تعالى في هذا الإنسان أن تقبل المرأة بالانفصال من أهلها ذوي الغيرة عليها، لأجل الاتصال بالغريب، تكون زوجًا له ويكون زوجًا لها تسكن إليه ويسكن إليها، ويكون بينهما المودة والرحمة أقوى من كل ما يكون بين ذوي القربى، فكأنه يقول: إن المرأة لا تقدم على الزوجية وترضى بأن تترك جميع أنصارها وأحبائها لأجل زوجها إلا وهي واثقة بأن تكون صلتها به أقوى من كل صلة، وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة، وهذا ميثاق فطري من أغلظ المواثيق، وأشدها إحكامًا، وإنما يفقه هذا المعنى الإنسان الذي يحس إحساس الإنسان.

فليتأمل تلك الحالة التي ينشئها الله تعالى بين الرجل وامرأته يجد أن المرأة أضعف من الرجل، وأنها تقبل عليه تسلم نفسها إليه، مع علمها بأنه قادر على هضم حقوقها، فعلى أي شيء تعتمد في هذا الإقبال والتسليم؟ وما هو الضمان الذي تأخذه عليه، والميثاق الذي تواثقه به؟ ماذا يقع في نفس المرأة إذا قيل لها: إنك ستكونين زوجًا لفلان؟

إن أول شيء يخطر في بالها عند سماع مثل هذا القول، أو التفكر فيه، وإن لم تسأل عنه هو أنها ستكون عنده على حال أفضل من حالها عند أبيها وأمها، وما ذلك إلا لشيء استقر في فطرتها وراء الشهوة، وذلك الشيء: هو عقل إلهي، وشعور فطري أودع فيها ميلًا إلى صلة مخصوصة لم تعهدها من قبل، وثقة مخصوصة لا تجدها في أحد من الأهل، وحنوًا مخصوصًا لا تجد له موضعًا إلا البعل، فمجموع ذلك هو الميثاق الغليظ الذي أخذته من الرجل بمقتضى نظام الفطرة الذي يوثق به ما لا يوثق بالكلام الموثق بالعهود والأيمان، وبه تعتقد المرأة أنها بالزواج قد أقبلت على سعادة ليس وراءها سعادة في هذه الحياة، وإن لم تر من رضيت به زوجًا، ولم تسمع له من قبل كلامًا، فهذا ما علمنا الله تعالى إياه، وذكرنا به- وهو مركوز في أعماق نفوسنا- بقوله: إن النساء قد أخذن من الرجال بالزواج ميثاقًا غليظًا (5).

وهو ميثاق لا يراد به الصراع أو الغلبة، بل السكن والمشاركة والتكامل، فالزوجان في التصور القرآني ليسا خصمين، بل شريكان في عبادة، كلٌّ منهما يعين الآخر على الطاعة، ويكمّل نقصه، ويصبر على زلّته، ويستر عيبه، لأن الحياة المشتركة لا تستقيم إلا على الاحترام المتبادل.

ولذلك كان أول مفتاحٍ للتفاهم أن تصحّ النية منذ البداية، فيُقبل كلٌّ منهما على الزواج طاعة لله لا نزوةً عابرة، فحين يكون الدافع الإيماني حاضرًا، يهون الخلاف، ويُغفر الخطأ، وتبقى المودة، أما حين تُبنى العلاقة على المصلحة والهوى، فإن أول هبة ريح تُسقطها.

التفاهم لا ينشأ في أجواء التحدي، ولا يعيش في ظلال العناد، بل في بيئةٍ من التقدير المتبادل، الزوجة حين تشعر أن زوجها يحترم رأيها ويصغي إليها، تفيض حبًّا وحنانًا، والزوج حين يجد من زوجته تقديرًا لموقفه، وثقةً بقراراته، يزداد رحمةً وعطفًا، فالحياة الزوجية ليست معركة إثبات ذات، بل ميدان تنافسٍ في البرّ والإحسان.

التفاهم فطرة إنسانية وهدي نبوي:

من تأمل حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، وجد أنه مدرسة في فنّ التفاهم، لم يكن نبيًّا يُلقي الأوامر، بل زوجًا رحيمًا يُشارك أهله الحياة بكل تفاصيلها، كان صلى الله عليه وسلم يدخل بيته مبتسمًا، يُمازح أهله، ويساعدهم في شؤونهم، ويُصغي لحديثهم، حتى إذا أطالوا الكلام لم يملّ ولم يُظهر الضجر.

روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تُحدثه طويلًا في قصة إحدى عشرة امرأة، كل واحدة تصف زوجها، فاستمع إليها النبي صلى الله عليه وسلم صابرًا مبتسمًا حتى انتهت، ثم قال: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع» (6)، فأيّ فنٍّ في التفاهم أرقى من هذا! لم يُقاطعها، ولم يُطفئ شغفها بالحديث، بل استمع حتى النهاية ثم أجاب بكلمةٍ لطيفة تحمل حبًّا وطمأنينة.

قال المهلب: فيه جواز نقل الأخبار عن حسن المعاشرة وضرب الأمثال بها، والتأسي بأهل الإحسان من كل أمة، ألا ترى أن أم زرع أخبرت عن أبى زرع بحسن عشرته، فتمثله النبي عليه السلام.

وفيه: جواز تذكير الرجل امرأته بإحسانه إليها؛ لأنه لما جاز من النساء كفران العشير، جاز تذكيرهن بالإحسان (7).

وفي حين غارت عائشة من إحدى نسائه فكسرت الإناء، لم يصرخ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُعنّفها، بل قال برحمة: «غارت أمكم» (8)، كلمة واحدة أطفأت نار الغيرة، وعلمت الأمة كلها درسًا في الرفق وضبط النفس.

اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها (9).

قال الطيبي: الخطاب عام لكل من يسمع بهذه القصة من المؤمنين اعتذارًا منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحملوا صنيعها على ما يذم؛ بل يجري على عادة الضرائر من الغريزة فإنها مركبة في نفس البشر بحيث لا تقدر أن تدفعها عن نفسها (10).

وهكذا نرى كيف كان صلى الله عليه وسلم يفهم طبيعة المرأة، ويتعامل مع اختلاف المزاج والطباع بحكمةٍ وصبر، ويُقدّر مشاعرها دون أن يُهينها أو يُهملها، إنّ التفاهم في بيت النبوة لم يكن مجرد كلمات، بل ممارسة يومية تعبّر عن عمق الفهم والرحمة المتبادلة.

أسس التفاهم في القرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم قد وضع منهجًا محكمًا لبناء العلاقة الزوجية، وجعل من التفاهم ركيزةً لها، ومن الإحسان ضابطًا لكل تصرف فيها.

1- السكينة، قال الله تعالى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، فالسكينة حالة روحية قبل أن تكون مادية، هي طمأنينة القلب حين يجد من يأوي إليه، ويشعر بالأمان في حضرته، فلا تفاهم في ظل القلق والضجيج، ولا حوار مثمر بين نفسٍ مشدودةٍ وأخرى مرهقة، حين يسكن القلب، يلين اللسان، وتثمر الكلمات.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه، ولا نصب» (11).

قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين أعني المنازعة والتعب؛ أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعًا، فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك؛ بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها (12).

2- المودة والرحمة: قال الله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، المودة هي حبّ القلوب، والرحمة هي عطاءها عند الجفاء، فالحبّ وحده قد يضعف إذا غابت الرحمة، والرحمة بلا حبٍّ قد تصبح شفقةً جافة؛ لهذا جمعهما الله لأن أحدهما لا يقوم بدون الآخر، فإذا ساد الحبّ مع الرحمة، سهل التفاهم، وتحوّل الخلاف إلى فرصة للتقارب لا للهجر.

عن عائشة، قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إلا على خديجة وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة، فيقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة» قالت: فأغضبته يومًا، فقلت: خديجة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد رزقت حبها» (13).

وفيه: دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها؛ لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها..

فصان قلبها فيها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها، ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان؛ فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها فيكون لها مثل أجرهن، لما ثبت أن من سن سنة حسنة (14).

3- المعاشرة بالمعروف: قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، المعروف كلمة جامعة تشمل كلّ خُلُقٍ حسنٍ وقولٍ طيبٍ وفعلٍ كريم، فالتفاهم لا يتحقق بالكلام فقط، بل بسلوكٍ يوميٍ يُشعر الطرف الآخر بالاحترام والكرامة، من عاشر زوجته بالمعروف، رأى منها الطاعة بالحبّ لا بالإكراه، والعطاء بالرغبة لا بالواجب.

قال ابن كثير: وقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله (15).

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» أو قال: «غيره» (16).

أي: ينبغي ألا يبغضها؛ لأنه إن وجد فيها خلقًا يكرهه وجد فيها خلقًا مرضيًا، بأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة أو جميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك (17).

هذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم، للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الجميلة، والأمور التي تناسبه، وأن يجعلها في مقابلة ما كره من أخلاقها؛ فإن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها وسوء عشرتها، رآه شيئًا واحدًا أو اثنين مثلًا، وما فيها مما يحب أكثر، فإذا كان منصفًا غض عن مساوئها لاضمحلالها في محاسنها (18).

4- الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان: قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، هذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه. ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال! ولا يحل للرجل أن يسترد شيئا من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها.

ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية وتحس أن كراهيتها له، أو نفورها منه، سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة، أو العفة، أو الأدب؛ فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه برد الصداق الذي أمهرها إياه، أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدي حدوده، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال.

وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه (19).

حتى عند الفراق، أمر الله بالمعروف والإحسان، فكيف في زمن المودة، إذا كان الإحسان واجبًا في الوداع، فهو أولى في الصحبة، فالتفاهم الحقيقي ليس غياب الخلاف، بل حسن إدارته، فلا يُغضب أحدهما ربه بحجة غضبه من شريكه.

مهارات التفاهم بين الزوجين

التفاهم لا يُولد مع الإنسان، بل يُكتسب بالعلم والتجربة والإيمان، وهنا تبرز مهارات ينبغي لكل زوجين أن يتحليا بها:

1- فن الإصغاء:

الإصغاء أرقى لغات التواصل، أن تصغي لشريكك يعني أن تُشعره بأن كلماته تهمك، وأن مشاعره تُقدّر، كثير من الخلافات تُحلّ لو أُعطي أحد الطرفين فرصة ليُعبّر عن نفسه دون مقاطعة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع لزوجاته بكل اهتمام، وفي حديث أم زرع السابق ما يدل على سعة صدره صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنه وهي تقص عليه حديثها ولا يقاطعها حتى تنتهي من حديثها.

2- الرفق في القول:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه» (20).

الكلمة الطيبة تُصلح ما أفسدته أيام من الجفاء، والنبرة القاسية قد تهدم جدارًا بُني بالحبّ، والتفاهم لا يتحقق بارتفاع الصوت، بل بانخفاض الأنانية، فحين يختار الزوج أو الزوجة كلماتهم بعناية، فإنهم يُربّون الحبّ في قلوبهم من جديد.

3- الاعتذار والصفح: قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22]، الاعتذار لا يُنقص الكرامة، بل يرفعها، كم من بيوتٍ أنقذها اعتذارٌ صادق بعد لحظة غضب، وكم من حبٍّ اندثر لأن الكبر منع صاحبه من قول "عذرًا"، والتفاهم الحقيقي ليس في ألا نخطئ، بل في أن نحسن معالجة الخطأ.

عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم برجالكم في الجنة؟» قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «النبي في الجنة، والصديق في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر، لا يزوره إلا لله في الجنة، ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟» قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «كل ودود ولود إذا غضبت أو أسيء إليها قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحل بغمض حتى ترضى» (21).

4- العدل في المشاعر والاهتمام: الزوجة التي تُغرق زوجها في حبها، لكنها تُهمله في اهتمامها، تظلمه من حيث لا تدري، والزوج الذي يُنفق ماله ولا يمنح وقته، يُفقِد العلاقة روحها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله» (22)، والكرم في المشاعر لا يقلّ قيمة عن الكرم في المال.

فينبغي للإنسان أن يكون مع أهله خير صاحب وخير محب وخير مُربًّ؛ لأن الأهل أحق بحسن خلقك من غيرهم.

5- اختيار الوقت المناسب للحوار: ليس كل وقتٍ يصلح للكلام، فالنفس تُقبل وتدبر، والمزاج يتبدل، الحكيم من يعرف متى يتكلم، ومتى يصمت، ومتى يُرجئ الحوار حتى تهدأ النفوس، فالكلمة في غير أوانها سهمٌ يصيب القلب خطأً فيُحدث جرحًا عميقًا.

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى» قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: «أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم» قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك (23).

عقبات التفاهم ووسائل تجاوزها:

لا بد لكل علاقة بشرية من عقبات، لكن المؤمن لا يجعلها معاول للهدم، بل جسورًا للتقويم.

1- الأنانية وحب السيطرة:

حين يُريد كل طرف أن يكون الآمر الناهي، يضيع التفاهم، لأن الحوار يتحول إلى صراع إرادات، علاج هذا أن نتذكر قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، فالتوازن هو سرّ العدالة الزوجية، وكلّ تجاوزٍ للحدّ هو بداية الشقاق.

2- التدخلات الخارجية:

كم من بيتٍ تمزّق لأن الأهل أو الأصدقاء اقتحموا خصوصيته! قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من خبّب امرأة على زوجها» (24)، أي من أفسد العلاقة بينهما، فليحفظ الزوجان سرّ بيتهما كما يحفظان عرضه، وليتذكرا أن العلاقة الزوجية حرمٌ مقدس لا يُدنّس بالفضول.

3- ضعف الإيمان وغياب الذكر:

حين يضعف الإيمان، يكثر الشكّ وسوء الظنّ، ويغيب التسامح، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (25)، فإذا غاب ذكر الله، حضر الشيطان ليؤجج الخلاف، والبيت الذي يذكر الله فيه الزوجان معًا، لا يُمكن أن يكون موطن خصامٍ دائم.

أثر التفاهم على الأبناء والمجتمع:

البيت الذي يسوده التفاهم هو بيئة تُنشئ أبناءً أسوياء، يربّون على الحب والاحترام، ويعرفون كيف يختلفون دون أن يتباغضوا، الأبوان المتفاهمان يزرعان في أولادهما درسًا في الحياة قبل أن يتحدثا به: أن الاختلاف سنة، وأن الحبّ لا يموت بالخلاف.

أما البيت المتوتر، فيورّث أبناءه القلق والعدوانية، فيكبرون وهم يحملون جراحًا نفسية عميقة، فليتذكر كل أبٍ وأم أن تفاهمهما ليس رفاهية، بل تربية.

ومن هنا نفهم أن التفاهم الأسري ليس شأنًا خاصًا، بل قضية اجتماعية كبرى؛ لأن الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، فإذا عمّها التفاهم، نشأ مجتمع متماسك، وإذا تفككت، تمزق نسيج الأمة بأكمله.

كيف نغرس ثقافة التفاهم في الأسرة المسلمة؟

إن بناء ثقافة التفاهم يبدأ من الوعي، بأن الحياة الزوجية عبادة تحتاج إلى علم وصبر.

ينبغي للمقبلين على الزواج أن يتعلموا فنون الحوار قبل الدخول في التجربة، فالعاطفة وحدها لا تكفي، كما أن الجلوس المنتظم للحوار داخل الأسرة ضرورة، لا ترفًا، جلسة أسبوعية بلا هواتف ولا شتات، يُراجع فيها الزوجان مشاعرهما، ويُصححان مسارهما بروح المحبة.

كذلك فإن قراءة القرآن معًا، والاستماع للمواعظ، والدعاء المشترك، يزرع لغة إيمانية موحّدة بينهما، فكلما اجتمع الزوجان على الطاعة، اجتمعت قلوبهما على الودّ.

أما التغافل فهو تاج الحكماء، كما قال سفيان بن عيينة: ما استقصى كريمٌ قط (26)، والتفاهم يحتاج أحيانًا إلى الصمت أكثر من الردّ، وإلى ابتسامةٍ تغلق باب الخلاف.

وإذا استعصى الأمر، فليُستعن بالحكماء، لا بالمغرضين، لأن الله قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].

فالإصلاح عبادة، وطلب الصلح شجاعة، والسكوت على الجفاء جبنٌ وضعف.

 

الخاتمة

إن فنّ التفاهم بين الزوجين ليس مجرّد مهارةٍ اجتماعية، بل عبادة قلبية، تُبنى على الإيمان والصبر والرحمة، وهو ثمرة فقهٍ دقيقٍ بسنن الله في النفس والحياة، واستلهامٍ لنور القرآن وهدي النبي العدنان صلى الله عليه وسلم.

فكلما تعمّق الإيمان في القلب، رقّ اللسان، ولان القلب، وسهل التفاهم. وكلما ابتعد العبد عن ذكر الله، قسا القلب، وضاقت الصدور، والتفاهم في حقيقته جهادٌ يوميّ، يجمع بين عقلٍ حكيم، ولسانٍ رفيق، وقلبٍ كبير.

***

------------

(1) في ظلال القرآن (5/ 2763).

(2) في ظلال القرآن (6/ 3595).

(3) تفسير المنار (2/ 316).

(4) التحرير والتنوير (1/ 644).

(5) تفسير المنار (4/ 377).

(6) أخرجه البخاري (5189).

(7) شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 298).

(8) أخرجه البخاري (5225).

(9) فتح الباري لابن حجر (5/ 126).

(10) عون المعبود وحاشية ابن القيم (9/ 348).

(11) أخرجه البخاري (7497).

(12) فتح الباري لابن حجر (7/ 138).

(13) أخرجه مسلم (2435).

(14) فتح الباري لابن حجر (7/ 137).

(15) تفسير ابن كثير (2/ 242).

(16) أخرجه مسلم (1469).

(17) شرح النووي على مسلم (10/ 58).

(18) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 122).

(19) في ظلال القرآن (1/ 248).

(20) أخرجه مسلم (2594).

(21) أخرجه الطبراني (1743).

(22) أخرجه الترمذي (3895).

(23) أخرجه البخاري (5228).

(24) أخرجه أبو داود (2175).

(25) أخرجه البخاري (2039).

(26) الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 312).