logo

الزواج آية كونية وآيات شرعية


بتاريخ : الخميس ، 7 ذو الحجة ، 1440 الموافق 08 أغسطس 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الزواج آية كونية وآيات شرعية

الزواج حرث وسكن ومتاع وطمأنينة وإحصان، كما أنه نعمة وراحة وسنة وستر، وهو عقد لازم وميثاق غليظ، وواجب اجتماعي، وسبيل مودة ورحمة بين البشر، يزول به أعظم اضطراب فطري في القلب والعقل والفكر، ولا ترتاح النفس ولا تطمئن بدونه؛ كما أنه عبادة وطاعة وقربة يستكمل الإنسان بها نصف دينه، ويلقى ربه بها على أحسن حال من الطهر والنقاء والعفاف.

والزواج هو أساس تكوين الأسرة، فهو يربط بين رجل وامرأة رباطًا شرعيًا وثيق العرى، مكين البنيان، مؤسسًا على تقوى من الله ورضوان، وقد اعتبر القرآن هذا الزواج آية من آيات الله؛ مثل خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان من تراب.

يقول الله تعالى مبينًا أن حقيقة الرجل والمرأة إنما هي نفس واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].

وإذا كان كلاهما من نفس واحدة فلا بد أن يبحث الرجل عمن يكمله من النساء، وكذلك المرأة تفعل حتى تجد من يكملها من الرجال؛ إذ لا يكتمل أيهما إلا بوجود صاحبه، وقد اعتبر القرآن الكريم أن هذا الارتباط الفطري بين الرجل والمرأة هو من آيات الله في الخلق والإبداع، فبهذا الرباط تستمر الحياة، ويجد الإنسان سكينته وطمأنينته فيها، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].

فهذا توجيه الله تعالى إلى عظيم صنعه وفائق قدرته، وقد ذكر أنه خلق الزوجين من نفس واحدة؛ أي من جنس واحد، حيث يحتفظ كل جنس من هذه الأجناس الموجودة في هذا الكون على خصائصه وميزاته، فلا يختلط في الأجناس الأخرى، وقد ورد ذلك في سياق الدلالة على قدرة الله على الخلق والإبداع، قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى:11].

فالزوجية سنة الله الكونية، والتي تشمل كل الكائنات، وقد بين الله تعالى هذه السنة في العديد من الآيات، منها ما يتعلق بالحيوان؛ كقوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143].

ومنها ما يتعلق بالنبات، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3]، وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه:53]، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:7].

بل نص عز وجل على أن الزوجية سنة في المخلوقات، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس:36]، وقال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49].

قال ابن كثير: «أي: جميع المخلوقات أزواج؛ سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات، ولهذا قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49]؛ أي: لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له»(1).

ومن ذلك الإنسان؛ فقد خلقه الله أيضًا من زوجين، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم:45].

ومن لوازم الزوجية اجتماع الزوجين لتحقيق مقتضى الزوجية ولازمها، وتحصيل المراد من الزواج، وذلك يحصل بعقد الزواج، الذي يجتمع بموجبه ذكر وأنثى، ويرتبطان ارتباطًا وثيقًا له ثمراته وآثاره، وقد رغب القرآن الكريم في الزواج في آيات شتى؛ فتارة يرد ذلك بصيغة الأمر؛ كما في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]، وتارة يصف الزوجة بالسكن؛ كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189].

وذكر سبحانه أنه جعل بين الزوجين مودة ورحمة؛ كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وفي هذا المعنى يقول سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]؛ ولهذا قيل: لا ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين.

ونعمة الزوجية تتجلى في أن يكون للشخص أليف في الحياة يقطع معه بيداءها، ويتحمل معه لأواءها، ويكون بيت الزوجية فيها كواحة في وسط صحراء الحياة، وروضة يأوي إليها بعد المشاق وبعد الكد واللغوب، فمن عبث بهذه النعمة فقد ظلم نفسه، ونسي أنعم الله سبحانه وتعالى عليه، ثم حق عليه أن يتذكرها، ومن كمال نعم الله أن ذكَّره بها في مقام نسيانه لها(2).

فالزوجية آية من آيات الله، وهي حرية بالتفكر فيها، وتدبر عظيم حكمة المولى سبحانه؛ إذ المرأة بعد عقد نكاحها تترك أبويها وإخوانها وسائر أهلها، وتنتقل إلى صحبة رجل غريب عنها، تفضي إليه ويفضي إليها، تقاسمه السراء والضراء، وتكون زوجةً له، ويكون زوجًا لها، تسكن إليه ويسكن إليها، ويكون بينهما من المودة والرحمة أقوى من كل ما يكون بين ذوي القربى، فسبحان الحكيم العليم.

ولما لهذه العلاقة الزوجية من أهمية وأثر لم يترك الشارع الحكيم هذه العلاقة دون توجيه وبيان لما يجب على كل طرف نحو الآخر، وإيضاح ما يمليه هذا الاقتران من حقوق؛ كي يسعد الزوجان ويهنئا في حياتهما؛ بل ورد في الشريعة الإسلامية بيان هذه الحقوق والواجبات المتبادلة بين الطرفين؛ كيلا تنحرف الأسرة عن المسار الصحيح، ولا ريب أنه بانحراف الأسرة عن جادتها السوية ينحرف جزء من المجتمع، وما المجتمع إلا مجموعة أسر، فالأسرة هي النواة للمجتمع، وهي التي تشكل سداه ولحمته، وبصلاح الأسرة يصلح المجتمع، وبفسادها يفسد.

وإن المتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أن القرآن الكريم قد اعتنى بالعلاقات الزوجية وأحكامها أيما عناية، ولم تخل مرحلة من مراحل تكون الأسرة من توجيه رباني وهدي قرآني(3).

فالله سبحانه خلق البشر من تراب، وذلك حيث خلق أولهم آدم عليه السلام ثم خلق من آدم زوجه حواء، وهذا دليل على عظمته وكمال قدرته: {ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}؛ فأصل بني آدم من تراب، ثم من ماء مهين، ثم تصور فكان علقة ثم مضغة، ثم صار عظامًا، شكله على شكل الإنسان، ثم كسا الله تلك العظام لحمًا، ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير، ثم خرج من بطن أمه صغيرًا ضعيف القوى والحركة.

ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل إليه الحال أن صار يبني المدائن والحصون أو يسافر في أقطار الأقاليم، ويركب متن البحور، ويدور أقطار الأرض، ويكتب ويجمع المال، وله فكرة وغور ودهاء ومكر، ورأي وعلم واتساع في أمور الدنيا والآخرة، كل بحسبه.

فسبحان من أقدرهم وسيرهم وسخرهم، وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكر، والحسد والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20](4).

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض؛ فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن وبين ذلك»(5)، وهذه هي الخلقة الأولى المتضمنة لنوع البشر، ثم ينتقل الحديث عن مجال الحياة المشتركة بين جنس البشر، فيقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].

وهذه آية من آيات الله، ونعمة من نعمه على عباده؛ حيث جعل زوج الإنسان من بني جنسه، من نفسه، حتى يتم التعايش، ويسهل التفاهم في هذه الحياة الدنيا، فإنه لو كانت زوجة أحدنا من الجان أو غيره فكيف ستكون العيشة؟ وكيف سيتم التفاهم على هذه الأرض؟ وفي هذه الآية دليل تكريم الله لهذا الإنسان، الذكر والأنثى، حيث جعل كل واحد يسكن للآخر، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}؛ أي خلق لكم من جنسكم إناثًا تكون لكم أزواجًا لتسكنوا إليها، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]؛ يعني بذلك حواء، خلقها الله من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر.

قال الطاهر بن عاشور: «وهي آية تنطوي على عدة آيات، منها: أن جعل للإنسان ناموس التناسل، وأن جعل تناسله بالتزاوج ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه ولم يجعلها من صنف آخر؛ لأن التآنس لا يحصل بصنف مخالف، وأن جعل في ذلك التزاوج أنسًا بين الزوجين ولم يجعله تزاوجًا عنيفًا أو مهلكًا كتزاوج الضفادع، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة، فالزوجان يكونان من قبل التزاوج متجاهلين، فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة، فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما، فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة، فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما، فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة.

ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل ويتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آيات عدة في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَرُون}.

وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الصنفين من الإنسان: صنف الذكر، وصنف الأنثى، وإبداع نظام الإقبال بينهما في جبلتهما، وذلك من الذاتيات النسبية بين الصنفين.

وقد أدمج في الاعتبار بهذه الآية امتنان بنعمة في هذه الآية، أشار إليها قوله: {لَكُمْ}؛ أي لأجل نفعكم»(6).

وجعل بينهم مودة، وهي المحبة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبة، أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، وغير ذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن الناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، ويدفع خطاهم ويحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة، ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجًا، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكنًا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارًا للحياة والمعاش، وأنسًا للأرواح والضمائر، واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيدركون حكمة الله في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موفقًا للآخر، ملبيًا لحاجته الفكرية والنفسية والعقلية والجسدية.

بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة، تمثل في جيل جديد(7).

إن العلاقة الزوجية هي علاقة عاطفية بالدرجة الأولى، وربما كان ارتفاع الذكاء الذهني المعرفي عند أحد الطرفين، وانخفاض الذكاء العاطفي عنده سببًا في إخفاق الزواج، وانفصام عراه، فكيف إذا كان كلا الزوجين على هذه الصورة؟ وسبب ذلك أن صاحب الذكاء الذهني المعرفي يكون أقدر على الجدل والدفاع عن نفسه، وملاحظة أخطاء الطرف الآخر وهفواته، وقد يصاحب ذلك أن يشعر بالتفوق على الطرف الآخر، وأنه وحده يفهم الأمور على الوجه الصحيح، ويحسن تقدير العواقب، بخلاف صاحبه، وهذا ما يؤدي إلى ظهور الاختلافات والمشاحنات على أتفه الأمور، وضمور الحب بين الطرفين، وفتور علاقة المودة والرحمة.

وإن هذه الآية الكريمة لتؤكد أن قوام الحياة الزوجية السعيدة هي العلاقة العاطفية المتألقة؛ إذ إنها لم تتحدث إلا عن حقائق عاطفية روحية، وقد عدها الله تبارك وتعالى آيةً من آيات إبداعه في خلقه، وعظمته في قدرته.

وأول ما نلاحظ في هذه الآية أن الله تعالى وجه الخطاب إلى الرجال بقوله: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، وهذا يعني أن السكينة يطلبها الرجل، وهي في المرأة مطلوبة، وأن الرجل يبحث عنها حتى يجدها، فإذا وجد الرجل سكينته هدأ، واستقرت نفسه، وقابل هذا السكن النفسي بالمودة والرحمة، وهو أمر يلائم فطرته ويناسبها، إذن هناك مطلوب واحد من المرأة، وهو أن تكون سكنًا للرجل، ومطلوبان من الرجل، وهو أن يدفع ثمن هذه النعمة بتقديم المودة والرحمة.

يقول الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]: «وذلك أن المرء إذا بلغ سن الحياة الزوجية يجد في نفسه اضطرابًا خاصًا، لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحدا، ذلك الاقتران والاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به»(8).

وقال القرطبي: «إن الرجل أصله من الأرض، وفيه قوة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بدئ خلقه، فيحتاج إلى سكن، وخلقت المرأة سكنًا للرجل، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن، وبها يتخلص من الهياج، وللرجال خلق البضع منهن، قال الله تعالى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:166].

فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم، ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها»(9)، وفي لفظ آخر: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح»(10).

إنها معادلة تبادلية واضحة، يجد الرجل في المرأة الأنس والسكينة، فيمنحها المودة والرحمة، وتجد منه المودة والرحمة فتبادله مثلها، فتتوثق عرى المحبة، ويزداد الأنس والألفة، ويصبح الزوجان كالنفس الواحدة.

ومن وجهة نفسية فطرية فإن السكينة تلائم فطرة المرأة أكثر، والمودة والرحمة تلائم فطرة الرجل أكثر.

ويترتب على هذه الحقيقة أن السكينة أمر وهبي فطري، أو يغلب عليها ذلك، قال ابن عباس: «كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة، إلا التي في البقرة»(11).

وقال الألوسي في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِيْنَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ}: «فسروها بشيء يجمع نورًا وقوة وروحًا، بحيث يسكن إليه، ويتسلى به الحزين والضجر، ويحدث عنده القيام بالخدمة، ومحاسبة النفس، وملاطفة الخلق، ومراقبة الحق، والرضا بالقسم»(12).

وقال الرازي: «وفي السكينة وجوه؛ أحدها: هو السكون، الثاني: الوقار لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من السكون، الثالث: اليقين، والكل من السكون»(13).

وقيل: السكينة ما يسكن إليه القلب من البصائر والحجج، فيرتقي القلب بوجودها عن حد الفكرة إلى روح اليقين وثلج الفؤاد، فتصير العلوم ضرورية، وهذا للخواص، فأما عوام المسلمين فالمراد منها: السكون والطمأنينة واليقين.

ويقال: من أوصاف القلب في اليقين المعارف والبصائر والسكينة، وكل هذه المعاني تدور حول أمر وهبي، أو يغلب عليه ذلك.

والمودة والرحمة أمران كسبيان، أو بالأدق يغلب عليهما ذلك، بالنظر إلى مظاهر ذلك وآثاره، ولعل هذا ما يفسر لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الخاطب: «انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما»(14).

والحديث عما يطلب من الرجل من المودة والرحمة يقودنا إلى بيان أصناف الرجال في ذلك، وهم أربعة أصناف بحسب القسمة العقلية والواقعية:

- رجل صاحب مودة ورحمة، وهو الرجل المثالي، الذي يسعد في حياته، وتسعد المرأة به.

- رجل صاحب مودة بلا رحمة، وهو الرجل الأناني المزاجي، تنال المرأة من مودته على قدر ما تحقق له من أنانية ومزاجية، وربما تدنت العلاقة بينهما إلى أدنى درجة إذا ضاق صدرها بنفسيته وأسلوبه.

- رجل صاحب رحمة بلا مودة، وهو الرجل الكاره لزوجته، ولكنه صابر عليها؛ لأسباب إنسانية أو أخلاقية، وتبعًا لذلك فهو يشفق عليها ويرحمها، وإن لم يستشعر من قلبه مودتها.

- رجل لا هو صاحب مودة، ولا صاحب رحمة، وهو الرجل الشاذ، وقد لا يكون الخلل منه وبسببه، ولا يتصور في هذه الحال أن تدوم العلاقة الزوجية طويلًا.

ولا تعني السلبية في أصناف هؤلاء الرجال أنها مستعصية على الحل، وإنما يعنينا هنا أن نكتشف مظاهر الخلل والداء من خلال العلاقة بين المودة والرحمة.

وأحب أن أؤكد أن المودة الصادقة متلازمة مع الرحمة، ولا تنفك عنها، إلا إذا كانت مدخولة ذات غرض، وعندئذ يمكن أن يلحظ فيها هذا التصنيف.

ثم إن تحقيق السكينة النفسية هو المقصد الفطري الأكبر من الزواج، وإن قانون الفطرة تبعًا لما قدمنا يفرض على الرجل أن يكون هو الباحث عن هذه السكينة بطلب الزواج، وهو الباذل في سبيله ما يبذل من المهر والنفقات، ولكن عندما تنتفي السكينة عن العلاقة الزوجية، ولا تتحقق له، فإن الرجل يبحث عن سكينته في جهات أخرى، مشروعة أو غير مشروعة، كالزواج بثانية، أو تضييع الوقت مع صحبة صالحة أو غير صالحة، أو الهروب من البيت إلى غير هدف، وربما كانت هذه الأمور سببًا ومظهرًا من مظاهر ضياعه وضياع أسرته.

والتحقق بالسكينة النفسية، من حيث النظر العقلي، لا يتطلب جهدًا كبيرًا، إنها أقرب إلى العمل السلبي المنفعل، الذي تملكه أي امرأة ذات فطرة سوية، ولكنها من حيث الواقع العملي تحتاج إلى إعداد نفسي وتربية مهارات، ومجاهدة نفس، أما المودة والرحمة فلهما مظاهر كثيرة، يجب العمل بها لتحقيقها، لتؤدي الحياةُ الزوجية مقاصدَها وأهدافها، وهنا تبرز مسئولية الرجل ومبادراته، وأثره الإيجابي في العلاقة الزوجية، وهذا ما يفسر لنا جانبًا من مفهوم القوامة، التي يسيء فهمها والعمل بها كثير من الناس.

وتتأكد الرحمة في مسئولية الرجل وحق المرأة، نظرًا لما جُبلت عليه المرأة من الضعف، والحاجة إلى العون، ولتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وتأكيده على حقها والوصية بها، وتشبيهها بالأسيرة عند الزوج؛ مما يتطلب مزيد العناية بها ومراعاة حالها.

الفرق بين المودة والرحمة: والمودة أرقى أنواع المحبة، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «وأما الود فهو خالص الحب وألطفه، وأرقه وأصفاه، وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة»(15).

وأما الرحمة فهي عاطفة فطرية، تدعو الإنسان إلى أن يعطف على غيره، ويقدم له ما يستطيع من العون والخدمة، وهي أوسع دائرة من المودة؛ لأن الإنسان قد يرحم من لا تربطه به أية مودة، وإنما يفعل ذلك بدافع الشفقة وحب الإحسان، وابتغاء مرضاة الرحمن.

ثم إن السكينة لها مظاهرها وثمراتها، والمودة والرحمة لها مظاهرها وثمراتها، ولكل ذلك انعكاساته الإيجابية على الأسرة والأطفال بالأمن والانسجام، والحياة الهانئة، والنشأة السوية، ثم على علاقات الأسرة الاجتماعية.

إن هذه العلاقة الزوجية الفطرية، القائمة على أرقى المعاني الروحية العاطفية، ويتبادل فيها الزوجان القيم الإنسانية الرفيعة، من تحقيق السكينة والمودة والرحمة، ويشتركان في توثيقها، هذه العلاقة بهذه الصورة إنْ هي إلا آية من آيات الله الدالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته ورحمته بعباده، وأن يد الغيب المعجزة هي التي تصنع العلاقات الإنسانية الراقية وترعاها، وتجمع القلوب وتؤلف بينها، وصدق الله العظيم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

إنها آية النظام الإنساني، الذي أقام الله به وجوده واستمراره وعلاقاته، بالفطرة التي فطر الناس عليها؛ نظام الزوجية بين الذكر والأنثى، وقيام الأسرة وبنائها، وطريقة التناسل.

إنها آية معجزة، تنطوي على عدة آيات: فالذكر والأنثى نوعا الجنس البشري، ولكل منهما فطرته، وخصائصه الجسدية والعقلية والنفسية؛ مما يجعله بحاجة إلى الطرف الآخر، يرغب به، ويأنس إليه، وقبل عقد الزوجية لا يعرف كل طرف صاحبه، ولا تقوم بينهما أية علاقة أو عاطفة، وبمجرد العقد تبدأ المحبة، وتتأجج مع الأيام وتتألق، وقيام الأسرة وبناؤها، وحمايتها والدفاع عنها مطلب كل من الزوجين؛ لينشأ الجنس البشري على أحسن حال من السواء الجسمي والنفسي؛ مما يؤهله بحق لعمارة الأرض ومسئولية الاستخلاف، وطريقة التناسل السامية، التي ترقى عن الأسلوب البهيمي المسف، تزيد العلاقة الزوجية توثيقًا وأنسًا، ومودة ورحمة.

ومن آيات الله في هذه الآية أن حاجة الإنسان إلى الزواج حاجة مؤكدة؛ لضعفه وحاجته إلى السكينة والمودة والرحمة، وأخذه بهذه الفطرة سبيل رقيه وكماله، وهذه الحاجة المتأصلة في كيانه وفطرته هي من أهم أدلة عبوديته لله تعالى، واستغناء الله سبحانه عن خلقه، وتنزهه عن الشريك والصاحبة والولد.

أفما ترى، أيها الإنسان، في هذه الآية آيات، ويزيدك يقينًا بهذه الآية الربانية أن الشاذين عن هذه الفطرة الحكيمة المحكمة لم يزيدوا القاعدة بشذوذهم إلا تأكيدًا، وقد أجلبوا على نظام الحق بخيلهم ورجلهم، فنادوا على أنفسهم بالبوار والدمار، وكان عاقبة أمرهم خسرًا.

هذا وإن أعظم ثمرة لتحقق الزوجين بهذه الآية الكريمة أن ينعما بالأمن النفسي، وأن تمتد ظلاله الوارفة لينعم بها الأولاد، فينشئوا نشأة سوية، بعيدة عن أية أزمة أو مشكلة.

والأمن النفسي له ركنان، لا يمكن أن تقوم العلاقة الزوجية وتدوم بدونهما:

الركن الأول: قدرة كل طرف على تحمل المسئولية.

والركن الثاني: قيام الثقة بين الزوجين، وثمرة ذلك الاحترام المتبادل، والشعور بالكرامة الإنسانية؛ ولذلك حده الأدنى، الذي ينبغي ألا تنزل عنه الحياة الزوجية، ولسنا نرضى بالوقوف عند هذا المستوى، إذ هو عرضة مع الأيام للفتور والتدني، وللأمن النفسي مستويات أسمى، من العلاقة المثالية المتألقة، التي لا تزيدها الأيام إلا رسوخًا، ولكن هذه المستويات تحتاج إلى تعهد ورعاية، وتغذية دائبة(16).

والفطرة البشرية هادية إلى الزوجية، فهي تسوق كل رجل إلى طلب الازدواج بامرأة، وكل امرأة إلى قبول الاتحاد مع رجل، وهي التي تربط قلبيهما وتمزج نفسيهما وتوحد مصلحتيهما، وتجعل الصلة بينهما أقوى من كل صلة بين اثنين في هذا العالم، حتى يسكن كل منهما إلى الآخر عند كل اضطراب، ويأنس به ما لا يأنس بالأهل والأصحاب(17).

المقصود بالمودة:

المقصود بالمودة أن يحب كل من الزوجين من يحب الآخر، من أهله وعشيرته وأصدقائه؛ فيسر لسرورهم، ويستاء لاستيائهم، ويتمنى لهم الخير والنعمة، ويقوم بأداء حقوقهم كما جرى من العرف بين أمثالهم في ذلك.

وهذا النوع من التودد هو الذي نأمر به من تزوجا في أنفسهما، سكونًا يبعث كلًا منهما على مودة الآخر ظاهرًا وباطنًا، بقصر كل من الزوجين طرفه على الآخر، وقناعته بالاختصاص به لكمال سكون نفسه إليه، وإخلاصه في مودته ومحبته.

سكون الزوج إلى الزوج سبب من أسباب سعادة الزوجين، وهناء معيشتهما خاص بهما لا يشاركهما فيه أحد من الأقربين والمحبين، وأما المودة بينهما فهي من أسباب سعادة عشيرتهما أيضًا؛ لأنها متعدية؛ فهي مبعث التناصر والتآزر والتعاضد والتساند، وبهذا تكون سببًا من أسباب سعادة الأمة، المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأزواج، فهذا التأليف هو الذي يتكون من مزاج الأمة، فما يكون عليه من اعتدال وكمال يكون كمالًا في بنية الأمة وقرة عين لمجموعها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال يكون مرضًا للأمة، يوردها موارد الهلكة.

ومن المودة بين الزوجين الممازحة والملاعبة، فكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يمازح نساءه ويداعبهن، وكان يسابق عائشة في الجري الشديد.

ويؤثر عن عمر أنه كان يقول: «كل امرئ في بيته صبي»، وكان يقول: «ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلًا».

المراد بالرحمة:

لقد فطر الله تعالى قلوب البشر على الرحمة ليتراحموا، فلا يهلك فيهم العاجز والضعيف، وكل أحد عرضة لاستحقاق الرحمة في يوم من الأيام، وجعل سبحانه حظ الوالدين والزوجين من الرحمة أرجح؛ ليُعنى بكل فرد من الناس أقرب الناس منه عند شدة الحاجة إلى العناية والكفالة؛ فالزوج لزوجه عند الضعف في المرض أو الكبر كالوالدين لولدهما عند ضعفه في الصغر؛ بل تجد المرأة أرحم ببعلها في مرضه أو كبره من أمه لو وجدت، وتجد الرجل أرحم بسكنه في مرضها أو كبرها من أبيها لو وجد، إذا كانت الفطرة سليمة، فإن لم يكن كل من الزوجين أرحم بالآخر في كبره من والديه فإنه يقوم مقامهما؛ إذ لا يضعف كل من الزوجين ويحتاج إلى الرحمة إلا بعد موت الوالدين في الغالب، فإن مرض وهما في صحتهما فإنهما يكونان بعيدين عنه، لا يسهل عليهما ترك بيتهما، ومن عساه يكون فيه من محتاج إلى رحمتهما؛ لأجل لزام ولدهما الكبير المتزوج.

فظهر أن كلًا من الزوجين في حاجة إلى رحمة الآخر به عند ضعفه لا يقوم بها سواه من الأقربين أو المستأجرين مقامه فيها.

لا شيء يخفف أثقال الفقر وأوزاره عن كاهل الرجل يتحمله مثل المرأة التي ترحمه في فقره، فتظهر له الرضا والقناعة، ولا تكلفه ما تعلم أن يده لا تنبسط له، فما بالك إذا كانت ذات فضل تواسيه به.

ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل والرجل للمرأة، إذا ظهرت عاطفة الرحمة في أكمل مظاهرها، فشعر المصاب بأن له نفسًا أخرى تمده في القوة على مدافعة هذه العوارض، التي لا يسلم منها البشر، واعكس الحكم في القضيتين يتجلى لك وجه الصواب في الصورتين.

ما أجهل الرجل يسيء معاشرة امرأته، وما أحمق المرأة تسيء معاشرة بعلها، يسيء أحدهما إلى نفسه من حيث يسيء إلى الآخر، فهو مغبون غالبًا ومغلوبًا، وما رأيت ذنبًا عقوبته فيه كذنب إساءة الزوج إلى الزوج(18).

لماذا لا يستشعر كثير من الأزواج هذه النعمة؟

يجيب محمد رشيد رضا: «وقد أفسد على الناس تلك المودة والرحمة، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة، وأضعف في نفوس الأزواج ذلك السكون والارتياح، غرور الرجال بالقوة وطغيانهم بالغنى، وكفران النساء لنعمة الرجال، وحفظ سيئاتهم، وتماديهم في الذم لها والتبرم بها، وما مضت به عادات الجاهلية في بعض المتقدمين، وعادات التفرنج في المعاصرات والمعاصرين، وقلد به الناس بعضهم بعضًا»(19).

إن الأصل في الإنسان هو الإيمان، والكفر طارئ ناشئ، فكذلك الأصل في الحياة الزوجية والأسرية هو الاستقرار والمودة والرحمة والسكن، فإذا فقدت هذه الأشياء فعلى الزوجين أن يبحثا عن سر هذا الفقد، وليس معنى ذلك أنه لا ينبغي أن تقع مشكلات داخل البيوت، فلو خلا بيت من المشكلات لكان ذاك البيت هو بيت النبوة، لكنه لم يخل منها، لكن فرق بين الشيء العارض اليسير، وبين أن يتحول العارض إلى أصل أصيل!

فالمقصود أن هذه الآية القرآنية تتضمن آيةً من آيات الله الكونية، وهي أن الله تعالى قد جعل الزواج سكنًا، وجعل بين الزوجين، مهما تباعدا في النسب، مودةً ورحمة؛ وبالتالي فإن التنازع والشقاق بين الزوجين هو خلاف الأصل، ويحتمل ما دام أمرًا عارضًا، ولا بد أن يعالج خلله إن تجاوز ذلك.

إن اليقين بهذه القاعدة، وجعلها الأساس والمنطلق للحياة الزوجية، يحد، بإذن الله، من الخلافات بين الزوجين؛ لأن كل واحد منهما، عند حصول الشقاق، يعلم بأنه قد خرج عن الأصل الذي تُبنى عليه العلاقة الزوجية، فتتيسر لهما العودة إلى هذا الأصل.

فالإنسان متى وجد في حياته أو في صحته اعتلالًا أو مرضًا فإنه يبادر إلى علاجه، وكذلك فإن فقدان المودة والرحمة، أو ضعفهما وعدم السكن والاستقرار، في الحياة الزوجية، هو داء دوي، ينبغي معرفة سببه؛ ليتيسر علاجه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم ينزل داءً إلا أنزل معه دواءً، جهله من جهله، وعلمه من علمه»(20)، فليقف الزوجان وقفةً متأملة عند هذه الآية الكريمة، ويجتهدان في النظر إلى مسار حياتهما ليعرفا سبب العلة والداء، ومن ثم يتطلعان إلى معرفة الشفاء والدواء، والعودة إلى حال الصحة والعافية، وهي الحال الأصيلة(21).

***

____________________

(1) تفسير ابن كثير (7/ 424).

(2) زهرة التفاسير (2/ 798).

(3) الزواج في القرآن الكريم، منتديات الألوكة.

(4) تفسير ابن كثير (6/ 308).

(5) أخرجه أبو داود (4693).

(6) التحرير والتنوير (21/ 71).

(7) الزواج آية من آيات الله، موقع: عيون نت.

(8) تفسير المنار (9/ 518).

(9) أخرجه مسلم (1436).

(10) أخرجه مسلم (1436)، تفسير القرطبي (14/ 17).

(11) تفسير القرطبي (16/ 264).

(12) تفسير الألوسي (1/ 242).

(13) تفسير الرازي (14/ 128).

(14) أخرجه الترمذي (1007).

(15) روضة المحبين، ص62.

(16) تأملات ووقفات مع آية السكينة والرحمة، موقع: رابطة العلماء السوريين.

(17) مجلة المنار (8/ 81).

(18) المصدر السابق (8/ 656).

(19) تفسير المنار (3/ 232).

(20) أخرجه ابن حبان (6062).

(21) وجعل بينكم مودة ورحمة، موقع: المسلم.