logo

فليتصاب له


بتاريخ : الأحد ، 4 جمادى الآخر ، 1437 الموافق 13 مارس 2016
بقلم : تيار الاصلاح
فليتصاب له

يظن كثير من الآباء والأمهات أن اللعب مع الأبناء ومداعبتهم يقلل من قيمة الآباء والأمهات في نفوس الأبناء، وبالتالي فإنهم يسلكون الغلظة والخشونة في تعاملهم وتواصلهم مع الأبناء، ولا شك أن هذا أمر غير صحيح، "فإن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ، ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب، ويدفع عن صاحبه من الشر، ويسهل له ما توعر على غيره، فليس الثقلاء بخواص الأولياء، فيجب على الآباء والأمهات أن يكونوا من أحلى الناس وألطفهم وأظرفهم، حتى تزول عنهم ثقالة النفس وكدورة الطبع، فتراهم أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وألطفهم قلبًا وروحًا، وهذه خاصة المحبة، فإنها تلطف وتظرف وتنظف" [مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (3/ 171) بتصرف يسير].

وهكذا كلما كان في حديث الآباء والأمهات لين مع أبنائهم، وخطابهم غير جارح، وينتقون الكلمات الرقيقة، والأجوبة اللطيفة، كان التفاعل محبوبًا للأبناء، ويترك بصمة في نفوس الأبناء لا تغيب عن أذهانهم أبدًا مهما كبروا في السن، فعن جابر رضي الله عنه قال: «ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال: لا»[صحيح البخاري (6034)].

وعن أنس رضي الله عنه قال:«خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت» [صحيح البخاري (6038)].

حتى وإن فعل الطفل فعلًا في غير موضعه، كأن يسكب الإناء على والديه، أو يُخرِج على ملابسهما، فلا ينبغي أبدًا أن يعنفاه؛ بل يحاولان بالهدوء واللطف أن يعالجا الموقف، فعن أبي ليلى قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صدره أو بطنه الحسن أو الحسين، قال: فرأيت بوله أساريع، فقمنا إليه، فقال: «دعوا ابني، لا تفزعوه حتى يقضي بوله»، ثم أتبعه الماء. [مسند الإمام أحمد (19059)].

إن من أهم الوسائل التي تعين الآباء والأمهات على نجاح التواصل مع أبنائهم، معاملتهم للأبناء بالملاطفة وحسن الخلق والتبسط والتصابي لهم ومداعبتهم، فكل هذا يقوي التواصل مع الأبناء،فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟» [صحيح البخاري (6129)، ومسلم (2150)].

وفي رواية أحمد أنه كان لأبي طلحة ابن يقال له: أبو عمير، فكان النبي يضاحكه، قال: فرآه حزينًا فقال: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟».

إن هذا الموقف من أشد المواقف التي تجذب الإنسان لملاطفة أبنائه ومداعبتهم، فالطفل يحتاج إلى التواصل مع أبيه وأمه، وهذا التواصل ينبغي أن يكون كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يصبر كل من الأب والأم على الأبناء كما كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فالتواصل يكون باللعب والملاطفة والممازحة والمداعبة.

وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم تلك المعاني التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم إيصالها إليهم، خاصة أنهم كان يعيشون في زمن تحجرت فيه القلوب، فكان أحدهم ربما يدفن ابنته الصغيرة حية؛ كي لا يعير بها عندما تكبر، فمجتمع بهذه الحالة لا شك أن نظرته لملاطفة الأبناء ومداعبتهم نظرة قاصرة تمامًا؛ لذا فقد وجههم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاهتمام بالأبناء، "فاقتدى الصحابة رضوان الله عليهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فسارعوا إلى مداعبة وممازحة أطفالهم، فنزلوا إلى منازلهم، وتصابوا لهم ولاعبوهم.

قال عمر رضي الله عنه: ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي [أي: في الأنس والبشر وسهولة الخلق والمداعبة مع أولاده]، فإذا التمس ما عنده وجد رجلًا.

وعن ثابت بن عبيد قال: «كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في أهله، وأزمته عند القوم» [رواه البيهقي في شعب الإيمان (7852)].

إن ملاطفة الأبناء ومداعبتهم وممازحتهم من الأمور التي تبقى في ذاكرة الطفل، ولا تغيب عنها أبدًا؛ فهي من اللحظات السعيدة التي يعيشها الطفل، ويبقى متذكرًا لها طوال حياته،فعن محمود بن الربيع قال: «عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو» [صحيح البخاري (77)].

إن على الآباء والأمهات أن يفصلوا بين الجدية التي يريدون أبناءهم أن يكونوا عليها، وبين تعاملهم السليم مع أبنائهم، فلكل مقام مقال، فالطفل الصغير لا بد وأن يستمتع بطفولته؛ لأن الأبناء إذا تم توجيه كل طاقاتهم إلى التعلم، ولم يكن هناك نوع من الترويح للأبناء، فإن الأبناء سريعًا ما سيبحثون عن الخلاص من كبت التعليم.

والإمام الغزالي نبَّه إلى هذا الأمر فقال: "وينبغي أن يُؤْذَن له بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعبًا جميلًا، يستريح إليه من تعب المكتب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائمًا يميت قلبه، ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسًا" [إحياء علوم الدين (3/ 73)].

ومن الأمور المهمة، التي ينبغي التنبه لها عند ملاعبة الأبناء، عدم خلط هذا اللعب بالتوجيه الدائم والمستمر؛ كي لا يشعر الأبناء أن هذا اللعب ثقيل على نفوسهم، وحتى لا يخافوا من اللعب بحرية، وذلك خوفًا من النقد والتوجيه، أو خوفًا من التهديد بأخذ اللعبة منه إذا لم يستجب لرغبات الأب أو الأم.

إن على الآباء والأمهات أن يقدروا روح الطفولة وطبيعتها، وأن الطفل الذي يتواصل معه والداه، من خلال اللعب والممازحة والمداعبة والتصابي له، هو الطفل القادر على التواصل مع مجتمعه بنجاح وتفاؤل، وبالتالي هو الأقدر على الوصول إلى هدفه.