التربية المتسلطة
هل نحن بالفعل عاجزون عن فهم أبنائنا واستيعاب خصائص وثقافة عصرهم، أم هم العاجزون عن تقدير عواقب أفعالهم ومشاعر الندم التي سوف تراودهم في المستقبل إذا لم يسيروا وفقًا للطريق التي نحددها لهم؟
في الحقيقة أن هذه المعضلة لاقت اهتماماً كبيراً في الأوساط التربوية وخاصة بالنسبة للمراهقين وكان الحكم فيها يثير الحيرة إزاء الميل أو التحيز نحو أحد هذين الموقفين دون الآخر، فمن جهة نحن هنا نتعامل مع مراهق لم يصل بعد لمستوى كافي من النضوج الاجتماعي أو النفسي أو الفكري، ومن جهة أخرى هذا المراهق فعلًا له الحق في اختيار قراراته وتحمل عواقبها كما من الجائز في بعض الأحيان أن نكون نحن المخطئون وهو المحق من وجهة نظره.
لقد وهب الله الإنسان القدرة على إدراك الزمن والمكان، وهو القادر على جعله يتمكن من استحضار الماضي ومعايشة الحاضر وتصور المستقبل، مما جعل الإنسانية تتوارث ثروة حضارية تتمثل في القيم والعادات والتقاليد والاتجاهات التي يعبر عنها في ضوء أنماط من السلوك.
وتضيف الإنسانية لهذه الثروة يومًا بعد يوم نتيجة للتغير والتطور، وتستثمر الإنسانية التراث بنقله للأجيال، بحيث يصبح للفرد في هذه الأجيال وعي وإمكانية للاستجابة إلى المؤثرات الاجتماعية، وما تشتمل عليه هذه المؤثرات من ضغوط وما تفرضه من واجبات كي يعيش مع غيره ويسلك مع الآخرين مسلكهم في الحياة، ويتعلم الأنماط السلوكية التي تميز ثقافة مجتمعه عن الثقافات الأخرى.
ومن هنا يحتوي ذهن الفرد على أفكار وممارسات ومعايير وقيم المجتمع الذي يعيش في إطاره، ولا يصبح مجرد راوية أو مقلد.
تعتمد التربية بشكل كبير على نوعية وكيفية التواصل بين الوالدين والأبناء؛ فهو الطريق الأمثل لإحلال الثقة بينهما، وبالتالي يولد التقبل من كلاهما للآخر، وتتحول العلاقة من علاقة أبوية مع الأبناء، إلى صداقة تنبني على الصراحة والمشاركة والثقة؛ نتيجة التواصل الجيد بينهما.
فوجود الآباء في حياة أي شخص نعمة لا يضاهيها أي نعمة، فلا أحد بإمكانه أن يضحي بحياته في سبيل أن يراك سعيدًا فقط سوى أبويك، لا أحد يخاف عليك أو يُقدم لك الرعاية والحنان سواهما، لكن في بعض الأحيان يبالغون في حمايتهم ورعايتهم، أو يسلكون طريق خاطئ لتوجيه أبنائهم، فينتهي بهم الأمر لإضرارهم، غالبًا لا يُلاحظ الأبوين مدى الضرر الذي يُسببانه لأبنائه بحجة أنهم يعرفون أكثر وقادرون على تحديد الطريق الأمثل الذي يجب أن يسلكه الأبناء، فيرغبون في أن يصل أولادهم لتلك الآمال والأحلام التي لم يستطيعوا تحقيقها، غير مدركين أن كل شخص له طموحه الخاص، ما يُنشئ جو من التوتر والاحتقان بين أفراد الأسرة (1).
لكن المشكلة التي أصبحت ظاهرة للعيان هي: أن التواصل التربوي أصبح في حدود ضيقة، فقد تغير في كميته وكيفيته؛ نتيجة تعدد مشاغل الحياة بشكل عام، وتعدد الاتجاهات التربوية غير الأسرية؛ مما أخل بالرابط بين الوالدين والأبناء، وذلك أثر بشكل كبير على النمط التربوي الذي ابتعد بشكل واضح عن التوجيه بأشكاله المتعددة، من خلال القصة والقدوة والمشاركة الفعالة والحوار بينهما، ليُختزل في دقائق تربوية قليلة، لا تتسع لأي من الأساليب التربوية، فاتخذ من منهج الأمر والنهي والسلطة الأبوية منهجًا تربويًا، بناءً على اعتقادهم أن قوة شخصية الوالدين مع سلطتهما الأبوية: تقوّمان كل اعوجاج لسلوك أبنائهم، وتوجههم لكل ما ينفعهم.
وهذه السلطة تبدأ من الدقائق القليلة التي يصوغ فيها الوالدان ما يريدان إيصاله للأبناء بأسلوب الأمر والنهي -افعل ولا تفعل- وبشكل مباشر؛ ليحتفظ بها الأبناء بذاكرتهم فتستمر سلوكياتهم عليها رغم انقطاع التواصل بينهم وبين والديهم لفترات ليست قصيرة.
بالإضافة إلى ذلك فإنهما أيضًا يعتقدان أن قوة السلطة الوالدية تظل مستمرة رغم الانقطاع، حيث تبدأ منذ ضغط الوالدان في الدقائق القليلة أزرار الأوامر؛ ليبقى تأثيرها عبر موجات الريموت وعن بعد ورغم كل البعد.
وتمتد سلطتهما؛ لتمكنهما من التحكم بسلوكيات الأبناء؛ حتى وهم بعيدون عن أنظارهم؛ مما يمكن اعتبارها نظامًا تربويًا سلطويًا، فكما ندير أجهزتنا المنزلية، قد يعتقد بعض الآباء أنهم بسلطتهم الزائفة يمكن أن يديروا من خلاله أوامرهم وما يريدون إيصاله للأبناء دون الحاجة لأكثر من بضع دقائق، سواء مباشرة أو غير مباشرة، عبر الهاتف مثلًا، أو من خلال من يوصل للأبناء ما يريدون إيصاله بعد توكيله بذلك.
ولهذا النمط التربوي صور منهجية يستخدمها بعض المربين، كأن تكون العلاقة بين الأبناء والآباء: علاقة أوامر فقط - افعل لا تفعل - أشبه ما تكون بتحكم الريموت دون نقاش، أو تفهم لآرائهم أو احتياجاتهم فهم مجرد آلات تُنفذ بكبسة زر، على اعتبار أن تكون الكلمات اليسيرة هي نقطة التحكم في الأبناء، بدلًا من الحوار والإقناع، وفي ذلك نمط تسلطي لا تربوي يُظهر الرضا والقبول من الأبناء ويُبطن التقاعس.
فضلًا عن اعتقادهما أن بوسعهما اختصار المسافات عبر موجات الأوامر، فيطلق الوالدان الأمر، وينشغلان ويعتقدان فعالية الاستجابة من الأبناء دون انقطاع أو تردد، وكذلك قد يُستخدم عندما يكون الوالدان بعيدين عن الأبناء بعدًا جسميًا كالانشغال الدائم، أو بعدًا نفسيًا بوجودهما لكن إهمالهما لحاجتهم لقرب الوالدين، والتعلم منهما بالإرشاد الهادئ، والقدوة الإيجابية، والاهتمام بآرائهم ومشاركتهم في قراراتهم، مما ينتج التحكم بسلوكياتهم عن بعد، وهما يعتقدان أن ذلك يشكل نمطًا تربويًا سويًا، يمكن الاعتماد عليه والوثوق بنتائجه دون مراعاة لشخصيات الأبناء المختلفة أو آراءهم.
ومشكلات هذا النمط من التربية كثيرة، أبرزها:
رغم أن المشكلة لهذا النمط التربوي أنها نتجت عن خلل في التواصل، إلا أنها أيضًا تزيد من هذا الخلل، وتوسع الفجوة بين الوالدين والأبناء؛ مما يجعلها بذرة للتفكك الأسري.
اختلاف سلوك الأبناء في وجود الآباء عن غيابهم؛ لأن السلوك فرض عليهم بالأمر والقوة، ولم يكن عن اقتناع ومشاورة، فيتقمصه الأبناء أمام الوالدين؛ لتجنب العقاب ويتجاهلونه حين غيابهم.
والمشكلة الأخطر؛ عدم إدراك خطر مشكلة انقطاع التواصل، مع الاعتقاد أن هذا النمط من التواصل مجدٍ مع الأبناء، ويساهم في توجيههم وحل مشكلاتهم، مما يوحي للوالدين بالاطمئنان أن الوضع الأسري تحت السيطرة، بينما هو بعيد عن الاستقرار.
كما أن لها جانبًا سلبيًا في إحداث الخلل في شخصيات الأبناء، نتيجة عدم تفهم الوالدين لطبيعة الأبناء واحتياجاتهم ومشكلاتهم، بالإضافة إلى أن فرض الأوامر دون مشورة أو رأي منهم، بل من خلال التسلطية الوالدية بالإجبار على الأوامر والطاعة، يشكل شخصيات تحمل صراعًا بين رغباتها وحاجتها للاستقلال، وبين طاعة الوالدين ورغباتهما؛ مما يُنشئ شخصيات كثيرًا ما تعاني من الرهاب الاجتماعي نتيجة التسلط الأبوي، أو أن تكون إمعة منقادة تفتقد الثقة بنفسها.
كما أن هذا النمط التربوي يهتم بطاعة الأبناء، دون الاهتمام بشخصياتهم وتنميتها، فالمهم الطاعة ولو على حساب سحب معالم شخصياتهم؛ ليكونوا قابلين للتحكم عن بعد من قبل والديهم.
يساهم هذا النمط من التربية بتنمية الكذب في سلوك الأبناء؛ حتى يتجنبوا العقاب من والديهم عند عدم استجابتهم للأوامر.
ومن مخاطر تحكم الآباء في حياة أبناهم لا تقتصر على منعهم من الخروج وما إلى ذلك؛ بل تمتد لاتخاذ القرارات عنهم ومنعهم من التعبير عن مشاعرهم وطموحاتهم، فيُصاب الأبناء بالعديد من المشاكل النفسية، كالعزلة والانطواء وقلة الثقة بالنفس والتردد وعدم القدرة على اتخاذ القرارات.. إلخ، لذلك أهم خطوة عليك اتخاذها هو تنمية شخصيتك ومواجهة عيوبك ومحاولة حلها، تعلم كيف تفكر وتتخذ قراراتك بنفسك دون تردد حتى تستطيع مواجهة حياتك والمضي قدمًا بمفردك.
ولم يدرك الآباء والمربون أن أبناءهم شخصيات مستقلة لها برمجتها الخاصة، وأن الضغط عليهم ينتج تحكمًا وقتيًا بسلوكياتهم ما داموا بقربهم؛ وعند ابتعادهم تنقطع موجات التحكم والسيطرة، فينطلق الأبناء كيفما يريدون، وبطريقة مضاعفة عن الأبناء الذين تركوا دون ضغوط واجبار الوالدين؛ لعلمهم أنها فرصتهم للحصول على الحرية والانطلاق بابتعاد والديهم، مما يضاعف انشغالهم بما أمروا بتركه والابتعاد عنه.
والأساليب التربوية البديلة كثيرة ومتنوعة، وترتكز في أصلها على مبدأ المصاحبة والحوار، فلن يكون النمط التربوي سليم العناصر والنتائج؛ إلا من خلال رسم خطة المنع عن بعض السلوكيات والأمور بمشاركتهم، وشرح أسباب المنع، والتعريف بالهدف، مع الحرص على التقنين لا الحرمان لبعض ما يرغبونه وينشغلون به عن الأمور الأهم في حياتهم، وتقديم الأوامر بطريقة العرض والاقتراح، وأن تكون بمشورتهم، مع ترك مساحة من الحرية لممارسة بعض ما يرغبون، وتفهم احتياجاتهم، والتغافل عن بعض هفواتهم، والعناية بتنمية شخصياتهم، وتهذيب سلوكياتهم قبل كل شيء.
فالطاعة ناتج تربوي يظهر عند نجاح الأساليب التربوية، وليس هدفًا نسخر له الأبناء، فمتى توقف الوالدان عن اعتبار أبناءهم مجرد أجهزة تنفيذية لأوامرهم الوالدية؛ عندها نحرر أبناءنا من التبعية؛ لتولد شخصياتهم القيادية (2).
أحيانًا يكون تحكم الآباء نابع من رغبتهم في أن يكون أبناءهم الأفضل دائمًا، ولا يرضون بأقل من حصولهم على أعلى العلامات، وبقائهم في المرتبة الأولى دائمًا فيضغطون عليهم؛ بشكل مُبالغ فيه حتى يفقدوا صوابهم.
غالبًا ما يكون هناك حاجز نفسي كبير بين الآباء والأبناء في مثل هذه الحالات، فلا يُحاول أي منهم أن يبني جسر من التواصل مع الآخر؛ بالتالي تزداد المشكلة أكثر، لذلك حاول أن تتواجد معهم بشكل أكبر، أو تجد بعض الأنشطة التي تجمعكما سويًا حتى تكسر هذا الحاجز، وتكون أقدر على التعبير عن مشاعرك، وإخبارهم بما يُزعجك منهم.
مجالات تسلط الآباء على قرارات أبنائهم:
يمكن شرح مفهوم التسلط الحاصل من قبل بعض الآباء على خيارات وقرارات أبنائهم أنه نوع من التدخل وفرض الرأي حتى في الشؤون الشخصية لهؤلاء الأبناء، ومصادرة قراراتهم وحقهم في اختيار ما يشاءون باستخدام السلطة الأبوية، وذلك لعدة ذرائع مثل عدم وعيهم وأهليتهم لاختيار ما يشاءون، ويحدث هذا مع الأبناء سواء في مرحة الطفولة أو المراهقة أو حتى النضوج في بعض الأحيان.
والحياة غنية ومتنوعة في مجلاتها ومواقفها، والأشياء التي تفرض خيارات متعددة يجب على الفرد اتخاذ قرارات بشأنها، سواء كان هذا الفرد طفل أو كبير، ذكر أو أنثى، أب أو ابن، وكل هذه المجلات قد يحدث فيها نوع من التسلط من قبل الآباء على قرارات أبنائهم، فمثلًا:
المواهب والميول والاهتمامات: بدوافع عديدة قد لا تلقى جميع الهويات أو المواهب التي يتمتع بها الأبناء ترحيب من قبل آبائهم، فمثلًا بذريعة أن هذه الأشياء تلهيهم عن دروسهم، أو لأسباب اجتماعية وثقافية أخرى، التي ترفض بعض أنواع الفنون أو المجالات العلمية باعتبارها لا تناسب الثقافة الاجتماعية السائدة، وفي هذه الحالات جميعًا يحرم الابن من اهتمام والديه بمواهبه، وربما تمحى هذه الموهبة وتضمحل مع كبتها وعدم تنميتها.
الخيارات التعليمية والأكاديمية: أما هذا الجانب فيمكن القول أنه الأكثر تأثرًا واهتمامًا في ممارسة الأهل سلطتهم على خيارات أبنائهم، وأيضًا لاعتبارات اقتصادية أو اجتماعية ترغب بعض الأسر في توجيه أبنائها لمجالات تعليمية معينة تضمن لهم مستقبل أفضل من وجهة نظر هؤلاء الأهل، غير آخذين بالاعتبار رغبة وميل أبنائهم وقدرتهم على النجاح في هذه المجلات.
الملابس والشكل: وهنا تأخذ الاختلافات في الثقافة العصرية دورها وتفرض نوعًا من التناقض بين رأي الأبناء والآباء حول الطريقة التي يختارون ملابسهم أو يعتنون بمظهرهم بها، فالابن يريد أن يحاكي الموضة السائدة بين أبناء عصره، والآباء يريدون أن يحافظ ابنهم في مظهره على معايير الأناقة التي يعرفونها.
حرية الحركة والتصرف: سواء في الخروج للتنزه والرحلات والزيارات أو ممارسة رياضة معينة، أو الانتساب لمعاهد أو مراكز تناسب رغبات وميول الأبناء، فكل هذه الأشياء لا تلقى دائمًا الترحيب والقبول من قبل الآباء لأسباب عديدة؛ كالانشغال عن الدروس أو الابتعاد عن المنزل.
العلاقات الاجتماعية بكافة أنواعها: حتى العلاقات التي يحاول الأبناء بنائها وتشكيلها مع الآخرين؛ يحاول بعض الأهل تحديدها والتحكم بها، مثل اختيار الأصدقاء بالنسبة للطفل والمراهق حتى يبعدوهم عن ما يعرف بصديق السوء، أو اختيار شريك الحياة بالنسبة للناضج وخاصة الإناث، وفي هذه الحالة حتى المجتمع قد يفرض رأيه بمعاييره عن الشخص المقبوض للارتباط، وفي الحقيقة تعتبر هذه المسألة بالغة الحساسية، فعدم الاختيار الصحيح من قبل الأبناء للأشخاص الذين سوف يتعاملون معهم أو يرتبطون بهم قد يكون له نتائج مأساوية في بعض الأحيان على مستقبلهم (3).
إن الإسلام دين الوسط والاعتدال يجب: على الوالدين أن يسلكا في ضوئه مع أولادهما نهجًا وسطًا، ليس فيه حماية زائدة أو تدليل أو تسلط أو تصلب أو تحقير، بل إن الأمر دفء في غير ضعف وحزم في غير شدة.
والذي يقرأ قصة سيدنا يوسف عليه السلام أو قصة سيدنا إبراهيم أو سيدنا شعيب عليهما السلام يلتمس تنبيهًا إلى صورة حية واقعية، كان فيها الحوار بين الآباء والأولاد، وليس التسلط والتصلب بل لغة الإقناع، وكان فيها أيضًا تقدير رأي الولد بما يبعث الثقة بالنفس وتقدير الذات.
يقول الله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} [يوسف: 4- 5]، ويقول الله في شأن إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] .
وإذا كان الثواب مهما بالنسبة للأطفال، فعقاب الطفل إذا أهمل أو جنح إلى الخطأ مباح أيضًا استنادًا إلى إباحة الإسلام ضربه على ترك الصلاة عند بلوغه عشر سنين، ولكن هذا العقاب المباح أمر بالغ الحساسية على الأخطاء الأخرى التي ترتكب من الأطفال، ولا ننسى ما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه» (4).
وبعض الآباء يرون أن تشديدهم على أبنائهم في بعض مظاهر الدين هو الدين كله، مع أنهم يخطئون في حق أبنائهم، فيتهمون أبناءهم في بعض السلوكيات على أنهم «فسقة»، وأنهم «منحلون»، وأنهم يريدون العبث واللهو، وهذا حرام، مع أن هذا الشيء قد لا يكون حرامًا، فهذا التضييق والتشدد يجعل الأبناء في حالة تشتت؛ لأن التشدد من الآباء يلقي بظلاله عليه.
إن احترام آراء الأبناء وسماعهم والتحاور معهم وإقناعهم هو السبيل للتربية الصالحة، أما أن يكون الآباء والأمهات ملائكة لا يخطئون، فهذا هو الخطأ بعينه، ولا يظن الآباء أنهم باعترافهم أنهم كانوا خاطئين في هذا الموقف أن صورتهم تهتز أمام أولادهم، إنها إن اهتزت لأول وهلة، ولكنها ما تعود لتثبت كالجبال الرواسي، كما أنه يولد في الأبناء الاعتراف بالخطأ، وما يتبع هذا من فوائد في حياة الأبناء (5).
وإذا كانت هناك تباينات واضحة توصلت إليها البحوث بخصوص أبعاد أو أساليب المعاملة الوالدية وانعكاساتها على الأطفال، فإنه في ضوء كل ما سبق، وفي ضوء ديننا الإسلامي يمكن تصور أساليب للمعاملة لا يمكن القول بأنها مستقلة في شكل أبعاد على النحو التالي:
1 - دفء المعاملة:
إن دفء المعاملة يتمثل في السعي إلى مشاركة الطفل، والتعبير الظاهر عن حبه وتقدير رأيه وإنجازاته والتجاوب معه والتقارب منه من خلال حسن الحديث إليه والفخر المعقول بتصرفاته ومداعبته بالإضافة إلى رعايته، واستخدام لغة الحوار والشرح لإقناعه، أو توضيح الأمور له مع البعد عن الاستياء منه والغضب من تصرفاته والضيق بأفعاله وإشعاره بعدم الرغبة فيه والميل غلى انتقاده وبخس قدراته وعدم التمتع بصحبته وظهور النفور من وجوده.
2 -الاستقلال:
هو منح الطفل قدرًا من الحرية لينظم سلوكه، دون دفع السلوك للطفل في اتجاهات محددة، أو كف ميوله، من خلال قواعد ونظم يطلب منه الالتزام بها ويشجع على ممارستها، دون مراعاة لرغبات الطفل، أو دون تزويده بمعلومات عن نتائج سلوكه.
3 -الشورى:
البعد عن فرض النظام الصارم على الطفل، أو كبح إرادته من قبل الوالدين معتمدين على سلطتهما وقوتهما، ومقيمين سلوك الطفل وفقًا لمعايير مطلقة محددة للسلوك، ومنتظرين دائمًا الطاعة من قبله عند فرض رأيهما عليه، وإجباره على التصرف بما يرضي رغبتهما.
4- الحزم لا الشدة:
إقامة ضبط متزن على الطفل يتضمن تنبيهه إلى أخطائه، وحثه على الوصول إلى نماذج ناضجة من السلوك، مع توضيح الأشكال السلوكية غير المقبولة في جو من الحب، وتقدير الرغبة، بالإضافة إلى تشجيعه على التحاور وإبداء رؤيته.
5- الاعتزاز التقدير:
الثناء على الطفل وإظهار بأنه محل إعجاب وتقدير، مع البعد عن خداعه أو الاستخفاف بتصرفاته وأفعاله وقدراته وانفعالاته وإنجازاته (6).
***
------------
(1) كيف تتخلص من تحكم والديك بحياتك بحكمة واحترام؟ - منتديات تسعة.
(2) التربية بالريموت/ لها أون لاين.
(3) تسلط الآباء على قرارات الأبناء/ منتديات حلوها.
(4) أخرجه مسلم (2593).
(5) أيها الآباء ارحموا الأبناء/ إسلام أون لاين.
(6) تنشئة الطفل وسبل الوالدين في معاملته ومواجهة مشكلاته (ص: 227).