logo

تعلم قبل أن تربي


بتاريخ : الاثنين ، 20 جمادى الأول ، 1437 الموافق 29 فبراير 2016
بقلم : تيار الاصلاح
تعلم قبل أن تربي

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].

كلنا يعلم قيمة العلم وأهميته في حياة الإنسان، وأن الإنسان لكي يكون متقنًا في مجال من المجالات أو فن من الفنون لا بد له أن يتعلم وأن يستفيد من خبرات الآخرين وتجاربهم، أما الذين يسيرون أمورهم هكذا بفوضوية فإنهم يخبطون خبط عشواء، ولا يجنون في النهاية إلا الفشل والإحباط.

إن من أكثر المفارقات غرابة في تصرفات كثير من البشر أن تجدهم يعيبون على أسلوب التجربة والخطأ كمنهج للتعلم في أبسط ممارساتهم اليومية، رغم ضآلة قيمتها، وضعف تأثيرها فيهم، في حين يتبعون نفس النهج في التعامل مع أغلى ما يمتلكون!

ففي أبسط المواقف اليومية قد لا تلجأ ربة المنزل لتجربة طهي صنف جديد من الطعام لا تعرفه إلا بعد سؤال المجربين، أو البحث عن معلومات حول كيفية طهيه، والمقادير الواجبة لكي لا تقع في الخطأ، وبينما يتطلب شراء جهاز إلكتروني بسيط من رب الأسرة أن يبحث ويقرأ المواصفات والخصائص، وسبل التشغيل، والمشاكل وحلولها، والمحاذير لتلافيها، وكلاهما يرفض مطلقًا فكرة أن يجرب ثم يتعلم من خطئه، ويعتبرها فكرة خاطئة تمامًا؛ إذ تكلفهم ضياع الوقت أو الجهد أو المال.

لكن نفس الرجل والمرأة قد يقعان فيما هو أكبر من ذلك، ويتصرفان بنفس المنطق الذي رفضاه من قبل في تربيتهم لأبنائهم، فيعتمدان على أسلوب تجربة الوسيلة التربوية والتعلم من الخطأ فيها مستقبلًا، ومن ثم لا يكررانه بعدها، متناسين أن الولد أثمن وأغلى ما يمتلكون مما رزقهم الله في هذه الحياة الدنيا، وأن الخطأ في تربيته من الخطورة بمكان، وربما قد لا يجدان طريقة لإصلاحه بعد ذلك.

قليل من الآباء والأمهات من يطلع ويبحث ويقرأ في طرق ووسائل التربية، وقليل منهم أيضًا من يلجأ إلى كبار السن والخبرة بأسئلة حول كيفية التصرف في المواقف التربوية، ونادر من يحاول أن يحضر في ذلك مؤتمرات أو ندوات أو لقاءات تعريفية بالوسائل التي يجب اتباعها في التربية، والمخاطر التي يتعرضون لها، والمشكلات التي تواجههم، والحلول المثلى لفهم نفسيات أبنائهم ومحاولة التأثير فيها؛ بل الأغلبية من الناس لا تعترف أصلًا بأن تربية الأبناء علم يحتاج للتوقف عنده وسؤال المختصين.

إن قليلًا من الصداع في الرأس أو ألم بسيط في الأسنان يجبران الآباء على سرعة الذهاب للطبيب للخوف على صحة الطفل البدنية، وهذا صحيح لا ينكر، في حين أن هناك أمراضًا وأوجاعًا شديدة الألم على الطفل، وعميقة الأثر على حاضره ومستقبله لا ينتبه لها الآباء إطلاقًا، ولا يعتبرون أن الطفل في حاجة للوقوف بجانبه؛ بل يعتبرون شكواه من الترف غير المباح.

ومن المفارقات المفجعة أيضًا أن هناك قوانين ودراسات وتراخيص تمنح للأفراد لكي يسمح لهم بممارسة أي عمل، فلا يمكن لإنسان أن يمارس الطب أو الهندسة أو التعليم، أو غيرها من المهن مهما كانت بسيطة، إلا إذا كان مؤهلًا؛ بل لا يمكنه قيادة أبسط سيارة إلا إذا حصل على شهادة تفيد صلاحيته لذلك، في حين أن أهم وأعقد وأخطر الأدوار التي يقوم بها الإنسان في حياته، وأكثرها اتصالًا بمجتمعه وتأثيرًا فيه وهي تربية الأبناء قد لا تقوم على أسس سليمة، ولا يوجد لها برامج ولا إرشادات ولا تنبيهات مجتمعية مسئولة عن ذلك؛ بل ويُترك فيها الأمر لاجتهادات الناس غير المبنية على علم أو دراسة أو خبرة.

ربما لم تظهر مشكلة لهذه الممارسات قديمًا لاتصال الحفيد بالأجداد والجدات، الذين كانوا يشتركون بصورة حقيقية وواقعية في عملية التربية، ولم تكن تُترك فيها تربية الأبناء للأبوين وحدهما دون سابق خبرة أو تجربة، ولكن مع تغير الأحوال، وانفصال كل أسرة صغيرة بنفسها، وقيامها على شئون تربية أبنائها منفردة ظهرت المشكلات التربوية، وصار الأبناء ميدانًا لتجارب الأبوين التربوية، فما يثبت فشله من الوسائل التربوية في التعامل مع طفل يتم تلافيه في الآخر، دونما نظر أو اعتبار للخسارة الرهيبة التي يخسرها المجتمع لوجود أطفال ظلوا فترة طويلة كفئران تجارب تربوية لآباء لم ينالوا قسطًا من الثقافة التربوية، ولم يكن معهم، أو ربما رفضوا تمامًا أن يتدخل، من يوجههم في تربية أبنائهم(1).

إن مما يحز في النفس أن تترك وتساق عقول الأطفال صريعة للضياع، والسبب الأول والأخير هو الجهل التربوي، ألا يعلم أرباب الأسر أن عقول الأطفال لوحة، الآباء والأمهات هم أصحاب الفن لهذه اللوحة، كلما كان إتقانهم لرسم هذه اللوحة ثقيلًا وجميلًا كلما كان لهم أن يفاخروا بلوحة جميلة تريح القلب.

إن ظاهرة الجهل التربوي تتفشى حتى بين الطبقات المثقفة، فتجد أغلب من يتعامل مع الأطفال، بداية من الأهل مرورًا بالمعلمين ومدربي الرياضة والهوايات المختلفة، يجهلون فنون التربية، إلا من رحم ربي، وبدلًا من أن يبنوا شخصيات قوية متميزة يصبحون هم مصدر الهدم؛ فتنشأ الشخصية غير السوية المضطربة.

قد يسخر البعض منك لو وجهت له نصيحة كي يتعامل مع الطفل بطريقة تربوية، تجده يتهمك بأنك تجهل طبيعة طفله، مؤكدًا لك أنه لا يستجيب إلا بالضرب، وهذا نوع من الكبر والدفاع عن النفس؛ حيث يأبى أن يُتهم بالجهل أو التقصير، وهناك من يتقبل النصح، ويندم على ظلمه لطفله ومعاملته بقسوة، ويشعر بتأنيب الضمير ويعتزم أن يغير طريقته، ويبدأ بالفعل لكن سرعان ما يفقد صبره ويعود لطريقته السابقة في التربية، وهذا يصيب الطفل بالارتباك النفسي، فالتربية العشوائية تجعله يفتقد المنهج الذي يرسم له القواعد التي تضبط تصرفاته، فيشعر الطفل بعدم الارتياح والطمأنينة لأنه لا يستطيع تقييم تصرفاته، ولا يمكنه توقع رد فعل أهله، وإن كانوا سيستقبلون تصرفه باستحسان أم باستياء، وهنا يفقد الطفل ثقته بنفسه.

إن الغالبية العظمى من الآباء والأمهات عندهم نوع من الانفعالية في تربية أبنائهم، وقلما تتابع الأسرة الإشراف على تربية أبنائها وفق خطة هادفة محكمة، ولعل الخطأ الأكثر شيوعًا على الإطلاق هو عشوائية التربية، وعدم اتخاذ العلم والتدريب طريقًا لتحسين أداء الوالدين فيها؛ لذلك نرى الكثير من أوجه القصور في التربية يقف سببًا وراء ما نراه من عيوب وعلل؛ مثل: عدم متابعة الأبناء في دراستهم وتأدية واجباتهم، أو التعاون مع المدرسة لرفع مستواهم العلمي والتربوي، أو التركيز على تعديل سلوكياتهم في المنزل، وتصحيح أخطائهم بشكل منتظم وهادف أولًا بأول، فهذا هو الأسلوب الارتجالي في التربية، أو ما نطلق عليه عشوائية التربية.

إنّ التربية عملية تطوير مستمرة، وليست بالعمل الذي نعتمد فيه على ما علق في أذهاننا من تربية والدينا لنا، أو بما يرشدنا إليه الأصدقاء والأقرباء؛ بل تستلزم منا الشعور العميق بالمسئولية وثقلها، وبضرورة الإعداد والتدريب لها، ومعرفة عديد من قواعد وأصول التربية السليمة، والتسلح بمهارات التربية الصحيحة، نعم، إن الأمر يستلزم في كثير من الأحيان تعديل سلوك الوالدين والمربين أنفسهم، وتطوير أدائهم التربوي، ومن دون هذه النظرة الجادة للتربية سنخرج جيلًا عشوائيًا تمامًا مثل التربية العشوائية التي تلقاها(2).

كلما زادت معرفة الوالدين بالطفل زادت إمكانية تزويد طفلهما بالنوع المناسب من البيئة المحفزة للنمو الآمن في الحياة.

كلما زادت معرفة الوالدين بالتغيرات السلوكية التي تطرأ على سلوك الطفل أثناء نموه زاد نجاحهم في توجيه طفلهما.

معرفة خصائص الطفل تعطيك فكرة عما يجب أن تتوقعه من طفلك، فلا تحمله ما لا يحتمل، ولا تتوقع منه أعمالًا ومهارات تفوق عمره.

إن التربية العشوائية، أو التقليدية، غالبًا ما تبدد الطاقات، وتخلق الاضطرابات النفسية والسلوكية، وتحرف الأهداف، كما أنها تغري كثيرًا باختراق الثوابت، وتضييع القيم، والاجتراء على الثوابت، وهل ما نراه من استهانة واجتراء على الحرمات وعدم تعظيمها إلا مظهرًا من تلك المظاهر(3).

ماذا تعني الثقافة التربوية؟

تعني الثقافة التربوية: مجموعة المعلومات والخبرات التي نحتاج إليها في تكوين البيئة التربوية، وفي طرق تهذيب الأبناء وتنشئتهم النشأة الصالحة، وفي التعامل مع مشكلاتهم وأخطائهم.

وتعني الثقافة التربوية كذلك: فهم جوهر التربية، وأنها قائمة على التفاعل وبناء الروح الجماعية، وما يتطلبه ذلك من مبادئ وقيم وتضحيات وأفكار ومفاهيم، وهذه المكونات لن تكتمل أبدًا؛ حيث سنظل نشعر بأننا نواجه مواقف تربوية لا نعرف كيف نتصرف فيها على النحو المناسب، وما ذلك إلا لأن التربية عملية معقدة جدًّا، وتتطلب قدرًا جيدًا من الاتزان الانفعالي لدى المربي، إلى جانب قدر من الخبرة والممارسة العملية، وإن كل ذلك لا يعني كثيرًا إذا لم يصحبه شيء من توفيق الله تعالى وهدايته وتسديده، وهذا ما لا يصح أن نغفل عن طلبه والدعاء به(4).

كيف السبيل؟

يجب أن يتفهم الأبوان أن تربية الأبناء علم يحتاج للدراسة والتثقيف، ولا يمكن اكتساب الخبرة فيه بالتجربة التي قد تجني على قطاع كبير من أبنائنا، ويجب ألَّا تخضع لهذا الأسلوب المرفوض وهو التعلم بالمحاولة والخطأ؛ لأن الأبناء أثمن من أن يكونوا ميدانًا للتجارب التربوية، فالمجتمع يخسر أبناءً يخرجون كنماذج تحمل من العيوب الشخصية والتشوهات النفسية نتيجة الأخطاء التربوية الشديدة لآبائهم، وربما يمتد تأثيرهم لأجيال تليهم(5).

لنتبصر؛ فتربية العقول والقلوب فلسفة تحتاج لمن يمسك بزمامها دون كلل أو ملل، فهي في المقام الأول مسئولية ملقاة على عاتق كل أب وأم، يتطلب نجاحها وعي فكري ومنهجي يوازن بين جوانب التربية الناجحة، يتم بسطه على شخصية الطفل منذ الوهلة الأولى لبزوغ النور إلى عينه إلى أن يشب ويشيب بين أحضان الحياة.

وعلينا أن نتخذ من تربية الأبناء ذوي الطبائع الصعبة والمزعجة مفتاحًا لثقافتنا التربوية والأسرية، فعلى سبيل المثال: إذا كنا نعاني من (عناد) أحد الأبناء، وضعف استجابته للإرشاد والتوجيه، فإن المطلوب ليس الشكوى، ولكن أن نقرأ حول التعامل مع الطفل العنيد، تمامًا كما نقرأ لو كان أحد الأبناء مصابًا بفصام الشخصية، أو بمرض غريب يحتاج إلى عناية خاصة.

تعاملنا مع الحالات الخاصة والصعبة يشكل اختبارًا لنا، وعلينا أن ننجح في ذلك الاختبار.

أسرة لديها ولد كسول، ولا يحب الدراسة، ما الذي عليها أن تفعله؟

عليها أن تقرأ وتتثقف حول التعامل مع الطفل الكسول، وأن تتخذ موقفًا موحدًا وصارمًا تجاه محاولته تَرْك المدرسة، بالإضافة إلى استشارة متخصص، واستخدام كل وسائل التشجيع على التعليم، وهكذا تصبح الصعوبات التربوية مصدرًا لإثراء ثقافتنا التربوية، وتجديد عزمنا على المضي قدمًا في التهذيب والتوجيه، عوضًا عن أن نقف موقف اللامبالاة، أو موقف العجز والاستسلام.

إن ما يصلح في التعامل مع أحد الأبناء قد لا يصلح في التعامل مع أخيه، وإن ما يرغب فيه أحد الأبناء قد يمقته ابن آخر، وهكذا...، والمطلوب هو إثراء ثقافتنا التربوية على نحو مستمر، وتنويع أساليبنا التربوية مع أبنائنا، وأنا أعرف أن هذا شيء صعب وشاق، ولكن لا بد منه، وإلا فإن الإخفاق قد يكون حليفنا(6).

______________

(1) الابن الأول وأخطاء الأبوين التربوية، يحيى البوليني، موقع: المسلم.

(2) التربية الناجحة عمل يحتاج إلى تخطيط، سحر شعير، مجلة البيان.

(3) المناهج التربوية والحماية من الإساءة لحرمات الله، د. خالد روشة.

(4) القواعد العشر، أهم القواعد في تربية الأبناء، د. عبد الكريم بكار، ص8.

(5) الابن الأول وأخطاء الأبوين التربوية.

(6) القواعد العشر، أهم القواعد في تربية الأبناء، ص11-13.