غيرة المرأة من ضرائرها
غيرة المرأة من ضرائرها أمر جبلت عليه، وهو غير مكتسب، ولذا فإنها لا تؤاخذ عليه إلا أن تتعدى، وتقع بسبب الغيرة فيما حرم الله عليها من ظلم أختها، فتقع في غيبة أو نميمة، أو تؤدي بها غيرتها إلى طلب طلاق ضرتها أو الكيد لها وما شابه ذلك.
والغيرة تغيُّر القلب، وهيجان الغضب؛ بسبب الإحساس بمشاركة الغير فيما هو حقُّ الإنسان، فهي حمية تشتعل في النَّفس لمزاحمة الآخرين لها في شيء تحبه، وتحمل صاحبَها على ما لا يليق؛ من الأقوال، والأعمال.
وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين، وما من خُلق إلَّا وله طرفان ووسط، والغيرة المعتدلة من الأخلاق المحمودة في الإسلام، بل من منازل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنزلةُ الغيرة (1).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأصل الغيرة غير مكتسب للنساء، لكن إذا أفرطت في ذلك بقدر زائد عليه تلام، وضابط ذلك ما ورد في الحديث عن جابر بن عتيك الأنصاري رفعه: «إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله عز وجل، فأما الغيرة التي يحب الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله عز وجل فالغيرة في غير ريبة» (2)، فالغيرة منهما -أي: من الزوج والزوجة- إن كانت لما في الطباع البشرية التي لم يسلم منها أحد من النساء، فتعذر فيها، ما لم تتجاوز إلى ما يحرم عليها من قول أو فعل، وعلى هذا يحمل ما جاء من السلف الصالح عن النساء في ذلك (3).
وقال ابن مفلح: قال الطبري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك (4).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله شرحًا لحديث كسر عائشة لإناء إحدى ضرائرها: وقالوا: أي جميع من شرحوا الحديث: فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها، لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة، وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعًا: «أن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه» (5).
وما وقع من فضليات النساء من الغيرة إنما هو مما لم يسلم منه أحد، وهن غير مؤاخذات عليه؛ لأنه ليس في فعلهن تعد على شرع الله تعالى.
والغيرة بين أزواج النبي حاصلة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرى ذلك ويبتسم ويقرهن على هذا، لأن هذا من طبائع النساء، ولم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرتهن، كما في حديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمكم» ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت (6).
ومما يدل أيضًا على غيرتهن، ما جاء عن عائشة، قالت: افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسست ثم رجعت، فإذا هو راكع أو ساجد، يقول: «سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت»، فقلت: بأبي وأمي، إنك لفي شأن، وإني لفي آخر (7).
أي إني لفي ظني ما ظننت، وإنك لعلى نقيض من ظني، حيث تركت متعة النساء إلى متعة عبادة ربك.
فقولها: إني لفي شأن، تعني أمر الغيرة، وإنك لفي شأن، تعني من نبذ متعة الدنيا الإقبال على الله عز وجل.
عن عروة، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلًا، قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: «ما لك؟ يا عائشة أغرت؟» فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقد جاءك شيطانك» قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: «نعم» قلت: ومع كل إنسان؟ قال: «نعم» قلت: ومعك؟ يا رسول الله قال: «نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم» (8).
أي: كيف لا يغار من هو على صفتي من المحبة، ولها ضرائر على من هو على صفتك من النبوة والمنزلة من الله تعالى، وقد خرج في مثل هذا الوقت من عندها (9).
وعنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة؛ من كثرة ذِكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، قالت: وتزوَّجني بعدها بثلاث سنين (10)، هكذا هي الغيرة في النِّساء، فإذا دخلن الجنة نُزعت منهن الغيرة، يقول ابن القيم في تفسيره قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]: أي: طهرن من الحيض والبول، وكل أذى يكون في نساء الدنيا، وطهرت بواطنهن من الغيرة، وأذى الأزواج، وإرادة غيرهم (11).
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله إلى أهمية مراعاة ما طبعت عليه المرأة من الغيرة، فكان عليه الصلاة وسلم يتيح لنسائه أن ينفذن شيئًا من غيرتهن، بحيث لا يتجاوزن الحد المشروع، ويضفي على فعلهن المرح والابتسامة، فعن أبي سلمة قال: قالت عائشة: زارتنا سَودة يومًا، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينها؛ إحدى رجليه في حجري، والأخرى في حجرها، فعملت لها حريرة، أو قال: خزيرة، فقلت: كلي، فأبَت، فقلت: لتأكلي أو لألطخن وجهك، فأبت؛ فأخذت من القصعة شيئًا، فلطخَت به وجهها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلَه من حجرها تستقيد مني، فأخذت من القصعة شيئًا فلطخت به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يَضحك، فإذا عمر يقول: يا عبد الله بن عمر، يا عبد الله بن عمر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوما فاغسِلا وجوهَكما، فلا أحسب عمر إلَّا داخلًا» (12).
وما حصل من غيرة سارة من هاجر هو من هذا الباب، فطلب الزوجة من زوجها أن لا ترى ضرتها أو أن لا تجاورها أمر غير مستنكر، مع أن الذي ذكره أهل العلم أن إبراهيم عليه السلام هو الذي خرج بهاجر وابنه لا أن سارة زوجه طلبت منه ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويقال: إن سارة اشتدت بها الغيرة فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة لذلك (13).
ويدل عليه قول هاجر: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: أالله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا (14).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان: خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء ... (15).
قال الحافظ: قوله -أي: ابن عباس-: لما كان بين إبراهيم وبين أهله، يعني: سارة، ما كان يعني: من غيرة سارة لما ولدت هاجر إسماعيل (16).
لكن الظن بالسيدة ساره أن تكون غيرتها من الغيرة التي جبلت عليها النساء نعم أليست زوجة الخليل وأم اسحاق وجدة يعقوب وابنه يوسف؟ أليست هي من جاءتها الملائكة بالبشرى؟ ومن خلد القرآن تحية الملائكة لها قائلين {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].
قال ابن القيم: فإن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه وسلم غارت من هاجر وابنها أشد الغير، فإنما كانت جارية، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة، فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها، ويسكنها في أرض مكة، لتبرد عن سارة حرارة الغير، وهذا من رحمته تعالى ورأفته، فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها ويدع ابن الجارية بحاله، هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها، بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها، وتتبدل قسوة الغير رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتًا هذه وابنها منهم، وليري عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة، وهذ سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره.
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء الله ذو الفضل العظيم (17).
أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع من النسوة إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فإن الرجل إذا لم يستطع إعطاء كل منهن حقها اختل نظام المنزل، وساءت معيشة العائلة، إذ العماد القويم لتدبير المنزل هو بقاء الاتحاد، والتآلف بين أفراد العائلة.
والرجل إذا خص واحدة منهن دون الباقيات، ولو بشيء زهيد كأن يستقضيها حاجة في يوم الأخرى امتعضت تلك الأخرى، وسئمت الرجل لتعديه على حقوقها بتزلفه إلى من لا حق لها، وتبدل الاتحاد بالنفرة، والمحبة بالبغض، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة الصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الراشدون، والعلماء، والصالحون من كل قرن إلى هذا العهد يجمعون بين النسوة مع المحافظة على حدود الله في العدل بينهن، فكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون من أمته لا يأتون حجرة إحدى الزوجات في نوبة الأخرى إلا بإذنها.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطاف به وهو في حالة المرض على بيوت زوجاته محمولًا على الأكتاف حفظًا للعدل، ولم يرض بالإقامة في بيت إحداهن خاصة، فلما كان عند إحدى نسائه سأل: في أي بيت أكون غدًا؟ فعلم نساؤه أنه يسأل عن نوبة عائشة فأذن له في المقام عندها مدة المرض، فلم يقم في بيت عائشة حتى علم رضاهن.
وقد قال الفقهاء: يجب على الزوج المساواة في القسم في البيتوتة بإجماع الأئمة، وفيها، وفي العطاء أعني النفقة عند غالبهم حتى قالوا: يجب على ولي المجنون أن يطوفه على نسائه، وقالوا لا يجوز للزوج الدخول عند إحدى زوجاته في نوبة الأخرى إلا لضرورة مبيحة غايته، ويجوز له أن يسلم عليها من خارج الباب، والسؤال عن حالها بدون دخول، وصرحت كتب الفقه بأن الزوج إذا أراد الدخول عند صاحبة النوبة فأغلقت الباب دونه وجب عليه أن يبيت بحجرتها، ولا يذهب إلى ضرتها إلا لمانع برد ونحوه.
ومن شدة تمكن الغيرة والحقد في أفئدتهن تزرع كل واحدة في ضمير ولدها ما يجعله من ألد الأعداء لإخوته أولاد النسوة الأخريات، فإنها دائمًا تمقتهم، وتذكرهم بالسوء عنده، وهو يسمع، وتبين له امتيازهم عنه عند والدهم، وتعدد له وجوه الامتياز، فكل ذلك وما شابهه إن ألقي إلى الولد حال الطفولة يفعل في نفسه فعلًا لا يقوى على إزالته بعد تعقله، فيبقى نفورًا من أخيه عدوًا له (لا نصيرًا، وظهيرًا له على اجتناء الفوائد ودفع المكروه كما هو شأن الأخ) (18).
عن عوف بن الحارث، قال: سمعت عائشة، رضي الله عنها تقول: دعتني أم حبيبة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها فقالت: قد كان بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله ذلك كله وتجاوز وحللتك من ذلك كله، فقالت عائشة: سررتني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك، وتوفيت سنة أربع وأربعين في إمارة معاوية رضي الله عنهما (19).
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط» (20).
أسباب ودوافع الغيرة المذمومة:
إنَّ الغيرة المذمومة لها أسباب كثيرة ومختلفة، يمكن تَجنُّبها، والحذر منها، كل هذا بعد دعاء الله وتوفيقه، من تلك الأسباب التي تولد الغيرة المذمومة:
التنافس القَبيح، والأثَرة وحب الذَّات، والحرص والطَّمع، والتي يمكن تداركها خاصة بين الضرائر والأبناء، وبين الأمَّهات والآباء، والإخوان والأخوات من ناحية، والزوجات من ناحية أخرى.
ضعف الإيمان في القلب، وعدم الخوف من الله، مما يجعل المرأة تتكلَّم على أختها المسلمة، أو على زوجها؛ حتى تروي غليلَ غيرتها.
ما يبثه الشيطان في قلوب النِّساء من أوهام وخيالات، وظنون سيِّئة، مما يجعل المرأة تشك في تصرُّفات مَن حولها، وقد أخبرنا النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم (21).
الحقد والحسَد، وحب السُّمعة، وهذا يظهر من خلال بعض الأقوال أو الأفعال السيِّئة التي تَظهر على سلوك المرأة والرجل الغيورين.
الإحساس بالنَّقص عند المرأة، فقد يَنقدح في ذهنها أنَّ غيرها من أخواتها أفضل منها، بدليل أنَّ عندهنَّ ما لا تملكه، فيكون سببًا قويًّا، ودافعًا لغيرتها، وتنقيصها للأخريات.
أضرار الغيرة المذمومة:
الغيرة الزَّائدة ربما تَفتك بالزوجين وتنهي ما كان بينهما من الحبِّ، وربما كانت سببًا لكثير من المشاكل التي تَنشأ بين الزوجين، وبين المحبين، وقد تَطغى هذه الغيرة أحيانًا فتصل إلى حدِّ الشكِّ والظن والحرمان، وقد تولد انعدام الثِّقة بين الزوجين، وربما دفعَت الغيرة الإنسانَ ليعمل أعمالًا طائشة.
إنَّ الغيرة كسائر الأمراض النفسيَّة، إذا زادت عن حدِّها، تفتك بصاحبها، فيختل توازنه، ويضطرب حَبل شَخصيَّته، وتضطرب حياته الوجدانيَّة، وينبري جسمه، وتنحط قواه العقليَّة، ويقل إنتاجه، ومما لا شك فيه أنَّ لكلِّ داء دواء، إلا أدواء معلومة، وأمراضًا مفهومة؛ منها الموت، والهرم.
آداب يَنبغي مراعاتها:
فالغيرة لها آداب يَنبغي مراعاتها، وإلا أدَّت إلى اضطراب في الحياة، وتعاسة وشقاء، ومن هذه الآداب:
- أن يكون لها مبرِّر، كوجود ريبة؛ لحديث: «إنَّ من الغيرة ما يحبُّه الله، ومنها ما يبغضه الله؛ فأمَّا الغيرة التي يحبها الله، فالغيرة من الريبة، والغيرة التي يبغضها الله، فالغيرة من غير ريبة...»، فالغيرة مَطلوبة عند وجود ريبة، وأن تكون باعتدال، فلا إفراط، ولا تفريط.
قال شيخ الإسلام: وأمَّا الغيرة في غير ريبة، وهي الغيرة في مُباح لا ريبة فيه، فهي مما لا يحبُّه الله، بل ينهى عنه إذا كان فيه تَرك ما أمر الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله» (22)، وأمَّا غيرة النِّساء بعضهن من بعض، فتلك ليس مأمورًا بها، لكنها من أمور الطباع؛ كالحزن على المصائب (23).
ولهذا قيل: فما أحسن الغيرة في حينها، وما أقبحها في غير حين.
- ومنها: عدم إكثار الإنكار على المرأة ومراقبتها؛ لأنَّ ذلك بمثابة التُّهمة لها، قال السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب: ولا تكثر الإنكار عليها؛ فإنَّك تقوِّي العين عليها، فإن فعلتَ (تُرْمَ) زوجتُك بسبب كثرة إنكارك عليها (بتهمة) في نفسها، فيقول الفسَّاق وأهل الفجور: لولا أنَّه يعلم منها المكروهَ لما أكثر من إنكاره عليها (24).
وفي الفروع: قال سليمان عليه السلام لابنه: يا بني، لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبة، فتُرمى بالشرِّ من أجلك، وإن كانت بريئة؛ انتهى (25).
- ومن الآداب الدُّعاء، وهو من أعظم العِلاج لإطفاء نار الغيرة المذمومة، وقد دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأمِّ سلَمة رضي الله عنها أن يذهب ما تجده في قلبها من مذموم الغيرة (26).
- تقوى الله عز وجل؛ إذ هي عاصِم من كلِّ ما يخل، كما قالت عائشة رضي الله عنها عن زينب بنت جَحش يوم لم تخض مع الخائضين في حادث الإفك: فعَصَمها الله بالورع (27).
- تذكُّر ما أعدَّه الله لمن جاهدَت نفسها وصبرت، وجاهدَ نفسه وصبر، في دفع غوائل الغيرة، فقد أعطى الله الصابرين من الأجر ما لم يعطِ غيرهم، فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
- حسن الظن؛ فإن الكثير من الغيرة تبدأ من سوء الظنِّ، والوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب الغيور، وبعض الأزواج مريض بمرض الشكِّ المر الذي يحيل الحياة الزوجيَّةَ إلى نكد لا يطاق، ويحول استقرار البيوت إلى بُركانٍ محموم، وهذا شرٌّ مستطير، وأذًى كبير، فلا يصح أن يسيء الرجل الظنَّ بزوجته، ولا العكس، وليس له أن يُسرِف في تقصِّي كل حركاتها وسكناتها، وهي كذلك؛ فإن ذلك يفسِد العلاقة الزوجية، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل.
- القناعة: فالغيور تنظر إلى ما في يَد الآخرين، وتستقل ما في يدها ولو كان كثيرًا، فتسخط وتَغار، ولا ترضى بما قسَم الله لها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أَفلَح مَن أسلَم، ورُزِق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه» (28).
- تذكُّر الموت والدار الآخرة؛ فإنَّ من أعظم ما يكف النَّفسَ إذا جمحت ذِكرَ هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات.
ومن أعظم الدواء لهذا المرض: الإعراض عنه، وعدم الاستجابة لداعيه، مع الاستعانة بالله عز وجل، وكثرة ذِكره ودعائه أن يرفع البلوى، ويكشف الغمَّة، وهو سبحانه سميع مجيب (29).
التصرف تجاه الغيرة:
وأما عن تعامل الزوج وتصرفه تجاه هذه الغيرة الفطرية، وكذا تصرف المرأة العاقلة إن بدر منها أفعال تدل على الغيرة فألخصه في هذه النقاط:
- على الزوج أن يتفهم أن هذا الطبع في المرأة إنما هو فطري طبعي جبلت عليه، وعليه أن يتعامل معها بناء على هذا التفهم، قال القاضي قال المصري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك، ولهذا لم تُزجر عائشة عنها (30).
- على الزوج ألا يهزأ من غيرة زوجته؛ إذا رجع يومًا متأخرًا ووجدها تتذمر وتسأله أين كنت وماذا كنت تفعل، وألا يراوغ في الكلام ويزيد من توترها وقلقها وإنما عليه أن يخبرها بما أخره وله في نبي الله صلى الله عليه وسلم أسوة؛ ففي يوم من الأيام خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته ليلًا فقامت عائشة رضي الله عنها وخرجت وراءه وتبعته ثم عادت إلى البيت وعاد هو صلى الله عليه وسلم بعدها مباشرة وفهم أنها هي التي كانت تتبعه فسألته فأخبرها بالذي كان وقال: «فإنَّ جبريلَ أتاني حين رأيتِ، فناداني، فأخفاه منك، فأجبتُه، فأخفيتُه منك، ولم يكن يدخل عليكِ وقد وضعتِ ثيابَك، وظننتُ أن قد رَقدتِ، فكرهتُ أن أُوقظَكِ، وخشيتُ أن تستَوْحِشي، فقال: إنَّ ربَّك يأمرُك أن تأتيَ أهلَ البقيعِ فتستغفرَ لهم» (31)؛ فأخبرها عليه الصلاة والسلام بما حدث.
- على الزوجة العاقلة أن تصرف نظر زوجها إلى أمر آخر إن بدر منها فعل من أفعال الغيرة، وألا تتمادى في غيرتها كما فعلت عائشة رضي الله عنها في نهاية الموقف السابق؛ فقد صرفت الموضوع إلى الحديث عن كيفية الاستغفار لأهل البقيع؛ قالت: قلتُ: كيف أقول لهم؟ يا رسولَ اللهِ! قال: «قولي: السلامُ على أهلِ الدِّيارِ من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللهُ المستقدمين منا والمُستأخِرين. وإنا، إن شاء اللهُ، بكم لَلاحقونَ» (32).
- على الزوج ألا يثير الشكوك في نفس زوجته وخصوصًا إن كانت من النوع الغيور، وأن يعدل في القسمة بين زوجاته، وأما إذا كان الزوج مقسطًا عادلًا وأدى لكل من الضرتين حقها؛ فالغيرة منهما إن كانت لما في الطباع البشرية التي لم يسلم منها أحد من النساء فتعذر فيها ما لم تتجاوز إلى ما يحرم عليها من قول أو فعل، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف الصالح من النساء في ذلك (33).
- وأخيرًا على الزوجة أن تروض صفة الغيرة في نفسها، وأن تقلل منها قدر الإمكان، وقد كان سلفنا الصالح يوصون بناتهم بذلك: إياك والغَيْرة فإنها مفتاح الطلاق (34).
------------
(1) مدارج السالكين (3/ 44).
(2) أخرجه النسائي (2558).
(3) فتح الباري (9/ 326).
(4) الآداب الشرعية (1/ 248).
(5) فتح الباري (9/ 325).
(6) أخرجه البخاري (5225).
(7) أخرجه مسلم (485).
(8) أخرجه مسلم (2815).
(9) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 2175).
(10) أخرجه البخاري (3817).
(11) روضة المحبين (1/ 244).
(12) أخرجه النسائي في الكبرى (291).
(13) فتح الباري (6/ 401).
(14) أخرجه البخاري (3184).
(15) أخرجه البخاري (3185).
(16) فتح الباري (6/ 407).
(17) زاد المعاد (1/ 70).
(18) تفسير المنار (4/ 300).
(19) أخرجه الحاكم (4/ 24).
(20) أخرجه الترمذي (1141).
(21) أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2174).
(22) أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442).
(23) الاستقامة (2/ 7).
(24) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 400).
(25) الفروع وتصحيح الفروع (8/ 383).
(26) أخرجه مسلم (918).
(27) أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770).
(28) أخرجه مسلم (1054).
(29) الغيرة القاتلة/ شبكة الألوكة.
(30) شرح النووي على مسلم (15/ 202).
(31) أخرجه مسلم (974).
(32) المرجع السابق.
(33) فتح الباري (9/ 326).
(34) عيون الأخبار لابن قتيبة (4/ 76)، غَيرة النساء/ طريق الإسلام.