logo

المغالاة في المهر


بتاريخ : الثلاثاء ، 24 ذو الحجة ، 1439 الموافق 04 سبتمبر 2018
بقلم : تيار الاصلاح
المغالاة في المهر

الزواج ضرورة اجتماعية، وحاجة فطرية ونفسية، وحصانة أخلاقية؛ إذ به تحصل مصالح الدين والدنيا، ويحصل به الارتباط بين الناس بالقرابة والمصاهرة، وبسببه تحصل المودة والتراحم، ويسكن الزوج إلى زوجته، والزوجة إلى زوجها، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].

فهذا الذي فطر الله الناس عليه، والمجتمع الإسلامي ينبغي له أن يكون متكافلًا متعاونًا على البر، ومن البر تحقيق الصون والعفاف لأفراده، وإعانتهم على تيسير الزواج، وعدم ترك المطلقة والأرملة دون زوج، فهذا من شأنه أن يثير الفتنة في المجتمع، ويشجع على ارتكاب المحرمات، خاصة وأننا في مجتمعات تكالبت الوسائل فيها على بث الإباحية والمجون والفساد، وبالتالي كان لزامًا سد أبواب الفتنة والانحراف، بالوسائل الشرعية الفاعلة، فأي عفاف وصون أعظم للمرأة من الزواج والستر؟!(1).

وكما أن النكاح سنَّة خاتم النبيين، فهو كذلك سنة المرسلين من قَبل، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].

ففي النكاح امتثال أمر الله ورسوله، وبامتثال أمر الله ورسوله تتحقق الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة، وفي النكاح قضاء الوطر، وفرح النفس، وسرور القلب، وفيه تحصين الفرج، وحماية العرض، وغض البصر، والبعد عن الفتن.

والنكاح من أسباب الغِنى وكثرة الرزق؛ {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].

إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية، وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة.

فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها، والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس، والإسلام نظام متكامل، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء، فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدًا غير مضطر.

لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].

والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين، والمقصود هنا الأحرار، وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ}.

وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}.

وهذا أمر للجماعة بتزويجهم، والجمهور على أن الأمر هنا للندب، ودليلهم أنه قد وُجِد أيامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُزَوَّجوا، ولو كان الأمر للوجوب لَزوَّجَهم، ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يَجبُر الإمام الأيامى على الزواج، ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة، وهو واجب، ووسيلة الواجب واجبة.

وينبغي أن نضع في حسابنا، مع هذا، أن الإسلام، بوصفه نظامًا متكاملًا، يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجًا أساسيًا؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال، ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات، فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله، وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقًا على الدولة واجبًا للأفراد.

أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية، لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام.

فإذا وجد في المجتمع الإسلامي، بعد ذلك، أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم، وكذلك العبيد والإماء، غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين.

ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقًا عن التزويج، متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه، رجالًا ونساءً، فالرزق بيد الله، وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32](2).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف»(3).

لكن في زمننا هذا وجدت عقبة كئود، تَحول بين الشباب وبين تحقيق هذه المصالح العظيمة، حتى صار الزواج عند الشباب من الأمور الشاقَّة أو المستحيلة.

فقد أصبح المعوق الرَّئيسي أمام الشباب، والمانع من التقدم إلى الزواج؛ الغلو في المهور، على خلاف ما أمر الشارع سبحانه، ففي الشريعة الحض على تيسير أمر الزواج، وتخفيف تكاليفه، ومن ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الصداق أيسره»(4).

يبدأ الزوج حياته الزوجية وهو مثقل بالديون والهموم، يراوده هَمُّ الدَّيْن من حين لآخر، يعكر عليه صفو حياته، فكلما أراد أن يشعر بالسعادة فاجأته ديونه وهمومه من جديد، وقد يضطر للبحث عن عمل إضافي لسداد ديونه؛ فيكثر غيابه عن البيت، وعندها تشعر الزوجة بالوحدة، وتتبخر مع هذا الوضع آمال المستقبل الجميلة، وأحلامه الوردية، ووعود الزوج النرجسية، ومع مرور الوقت تسوء الحالة المزاجية للزوجة؛ بسبب الشعور بالوحشة والوحدة، وكذلك الزوج بسبب كثرة الأعباء والحمل الثقيل الذي تحمله من أجل تحصين نفسه؛ تسوء الحالة المزاجية له فلا يتحمل النقاش ولا الحوار.

وهذه الصورة تتكرر في مجتمعاتنا؛ فتعطي الانطباع السيئ لكل مقبل على الزواج، عندما يرى صديقه أو قريبه وهو محمل بالهموم والديون، يدور في ساقية الحياة لا يشعر بنفسه إلا وقد ظهر الشيب في رأسه، فعندها يصبح الزواج كابوسًا يخنق الآمال ويحطم الأحلام.

إن تيسير المهور فيه مصلحة اجتماعية؛ وهي إقبال الناس على الزواج إذا كانت المهور ميسرة؛ ولهذا نجد الآن الناس في حال سيئة بالنسبة للصداق وكثرته، تجد الواحد من الناس يذهب إلى بلاد بعيدة من أجل أن يحصل على زوجة، ثم تحصل بعد ذلك المشاكل التي لا نهاية لها(5).

إن الآثار السلبية لمشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج أصبحت مشكلة تؤرق المجتمع، تؤثر في قواه الفاعلة، وهم الشباب، طاقة الأمة ومستقبلها.‏

وليس من الحكمة ولا من المصلحة التغالي في المهور، والإسراف في حفلات الزواج، وطلب الأولياء من المتزوج الأموال الباهظة، التي يعجز عنها الكثير من الناس اليوم، فيقعون في الدَّين والسلف؛ مما يكون سببًا للحرمان من الزواج، وتأيم الفتيان والفتيات.

والمغالاة في المهور يجعل الزوجة كأنها سلعة، تباع وتشترى؛ مما يخل بالمروءة، وينافي الشيم، ومكارم الأخلاق.

لقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام أهمَّ أمر في قبول الشابِ الخاطبِ الخُلقَ والدِّينَ، لا المال والدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم مَن تَرضَون دينه وخُلقه، فزوجوه؛ إلَّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»(6).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «إني تزوجت امرأة من الأنصار»، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئًا»، قال: «قد نظرت إليها»، قال: «على كم تزوجتها؟»، قال «على أربع أواق»، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «على أربع أواق؟!، كأنما تنحتون الفضة من عُرْضِ هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه»، قال فبعث بعثًا إلى بني عبس بعث ذلك الرجل فيهم(7).

قال النووي: «العرض: بضم العين وإسكان الراء، هو الجانب والناحية، وتنحتون، بكسر الحاء، أي: تقشرون وتقطعون، ومعنى هذا الكلام كراهة إكثار المهر بالنسبة إلى حال الزوج»(8).

وزوَّج صلى الله عليه وسلم امرأةً على رجل فقير ليس عنده شيء من المال بما معه من القرآن، بعد أن قال له: «التمِس ولو خاتمًا من حديد»، فلم يجد شيئًا(9).

وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: سألتُ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: «كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟»، قالت: «كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونَشًّا»، قالت: «أتدري ما النَّشُّ؟»، قلت: «لا»، قالت: «نصف أوقيَّة»، فتلك خمسمائة درهم، فهذا صَداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه(10).

وعن أبي العجفاء السلمي قال: خطبَنا عمر رحمه الله فقال: «ألَا لا تغالوا بصُدُق النساء، فإنها لو كانت مَكرُمةً في الدنيا، أو تقوى عند الله لكان أَولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أَصدق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية»(11).

ويظل تلقين آية سورة النور والأحاديث النبوية وإيعاز عمر واردًا واجب الاحترام؛ بل ومخولًا للحكام الإشراف على مقادير المهور ومنع المغالاة فيها، في كثير من الظروف التي لا يكون أكثر الناس فيها قادرين على دفع مهور عالية، حيث يؤدي هذا إلى تعسير الزواج وتزايد الأيامى؛ أي العزاب، من رجال ونساء وعبيد وإماء، وبعبارة أخرى إلى تعطيل أمر الله الوارد في آية سورة النور، أما القادرون فالذي يتبادر لنا أنه ليس في التلقين المشار إليه ما يحول دون زيادة المهر بينهم عن المقدار المحدد في الروايات المروية.

ولعل حكمة عدم تحديد المقدار في الكتاب والسنة مع حضهما على التساهل فيه بالنسبة للناس الذين لا يقدرون على الكثير، وهم الأكثرية الساحقة، تلمح في كون طبيعة الحياة التي فيها التفاوت في المقدرة والمراتب الاجتماعية لا تتعارض مع الزيادة بالنسبة للقادرين؛ بل تجعل ذلك مما لا يمكن تفاديه.

وهكذا تتسق الشريعة الإسلامية مع مصلحة الأكثرية الساحقة من الناس، ومع طبيعة الحياة في مختلف الظروف، وهذا من مرشحاتها للشمول والخلود.

عن أم المؤمنين أم حبيبة أنها كانت تحت عبد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوّجها النجاشيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأمهرها منه أربعة آلاف درهم، وبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة، حيث يمكن الاستئناس بهذا على ما قلناه والله سبحانه أعلم(12).

قال البغوي: «اعلم أنه لا تقدير لأكثر الصداق، لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20]، والمستحب ألَّا يغالى فيه، قال عمر بن الخطاب: (ألا لا تغالوا صدقة النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئًا من نسائه ولا أنكح شيئًا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية)»(13).

وعن أبي سلمة قال: «سألت عائشة رضي الله عنها كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه؟، قالت: (كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشًا)، قالت: (أتدري ما النش؟)، قلت: (لا)، قالت: (نصف أوقية، فتلك خمسمائة درهم، هذا صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه)»(14).

أما أقل الصداق فقد اختلفوا فيه: فذهب جماعة إلى أنه لا تقدير لأقله؛ بل ما جاز أن يكون مبيعًا أو ثمنًا جاز أن يكون صداقًا، وهو قول ربيعة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق، قال عمر بن الخطاب: «في ثلاث قبضات زبيب مهر»، وقال سعيد بن المسيب: «لو أصدقها سوطًا جاز».

وقال قوم: «يتقدر بنصاب السرقة»، وهو قول مالك وأبي حنيفة، غير أن نصاب السرقة عند مالك ثلاثة دراهم وعند أبي حنيفة عشرة دراهم.

والدليل على أنه لا يتقدر ما رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: «يا رسول الله، إني قد وهبت نفسي لك»، فقامت قيامًا طويلًا، فقام رجل فقال: «يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك فيها حاجة»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عندك من شيء تصدقها؟» قال: «ما عندي إلا إزاري هذا»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعطيتها جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا»، فقال: «ما أجد»، فقال: «فالتمس ولو خاتمًا من حديد»، فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل معك من القرآن شيء؟»، قال: «نعم، سورة كذا وسورة كذا» لسور سماها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد زوجتكها بما معك من القرآن»(15).

وفيه دليل على أنه لا تقدير لأقل الصداق؛ لأنه قال: «التمس شيئًا»، فهذا يدل على جواز أي شيء كان من المال، وقال: «ولو خاتمًا من حديد»، ولا قيمة لخاتم الحديد إلا القليل التافه.

وفي الحديث دليل على أنه يجوز تعليم القرآن صداقًا؛ وهو قول الشافعي رحمه الله، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز، وهو قول أصحاب الرأي، وكل عمل جاز الاستئجار عليه مثل البناء والخياطة وغير ذلك من الأعمال جاز أن يجعل صداقًا، ولم يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه أن يجعل منفعة الحر صداقًا، والحديث حجة لمن جوزه بعدما أخبر الله تعالى عن شعيب عليه السلام، حيث زوج ابنته من موسى عليهما السلام على العمل، فقال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27](16).

وعن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة خطب أم سليم، فقالت: «والله، ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، وما أسألك غيره»، فأسلم فكان ذلك مهرها، قال ثابت: «فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم؛ الإسلام، فدخل بها فولدت له»(17).

قال ابن القيم رحمه الله: «فتضمن هذا الحديث أن الصداق لا يتقدر أقله، وأن قبضة السويق وخاتم الحديد والنعلين يصح تسميتها مهرًا، وتحل بها الزوجة، وتضمن أن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنها من قلة بركته وعسره»(18).

وهذا سعيد بن المسيب، سيد التابعين رحمه الله، خطب ابنته الخليفة عبد الملك بن مروان لابنه الوليد فأبى عليه، وزوَّجها لتلميذه كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة على درهمين أو ثلاثة.

لو عقل المغالون في المهور لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكْفاء، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض ابنتَه حفصة على عثمان ليتزوجها، ثم على أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.

وهذا شُعيب يَعرض ابنته على موسى عليه السلام المطارَد من فرعون وقومه: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27].

فالأرزاق بيده سبحانه، وهو قادر على تغيير حال الفقير حتى يصبح غنيًّا، وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد رغَّبت في الزواج وحثت عليه، فإن على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتيسير الزواج وعدم التكلف فيه، وبذلك ينجز الله لهم ما وعدهم.

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «أطيعوا اللهَ فيما أمركم به من النكاح ينجِز لكم ما وعدكم من الغنى»(19).

غلاء المهور سبب رئيس لقلة الزواج، وكثرة الأيامى، وانتشار الفساد، والتبرج والسفور، والفتن والعري، والشهوات والرذائل، وانتشار الزنا وتنوع الشذوذ، وانتشار العنوسة، وظهور الأمراض الاجتماعية والنفسية، والفقر وعدم البركة في الزواج.

غلاء المهور هو غش من الولي لمَوْلِيَّتِه، وعدم إدراك لقيمة الزواج وأهدافه الرئيسية.

المغالاة في المهور تجعل الزوجة كأنها سلعة تباع وتشترى؛ مما يخل بالمروءة، وينافي الشيم ومكارم الأخلاق.

إن ظاهرة غلاء المهور لها أسباب كثيرة، ولعل أبرزها وأهمها:

1- رغبة الزوج في الظهور بمظهر الغني القادر على تكاليف الزواج، وحرصه على إرضاء أولياء الزوجة، وقد حذر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الشباب من هذه الظاهرة، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني تزوجت امرأة من الأنصار على أربع أواقٍ»، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «على أربع أواقٍ؟! كأنما تنحتون الفضة من عُرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك»(20).

إن عدم إدراك بعض الأولياء لقيمة الزواج وأهدافه الرئيسية؛ كالسكن والرحمة والمودة، وكالاستمتاع والإنجاب، وتربية الأولاد الصالحين، والتقارب الاجتماعي، وغض البصر وحفظ الفرج، وإشاعة الفضيلة، والحد من الرذيلة في المجتمع، وغيرها من الأهداف؛ يقحم كثيرًا من الأولياء إلى المغالاة في المهور، والجدير بهم، كمسلمين، أن يستشعروا ويستحضروا هذه الأهداف النبيلة، لتكون لهم دافعًا لتحصين الشباب وتزويجهم.

2- تغيُّر النظرة إلى الزوج الكفء، فربما نظر البعض إلى أن الكفاءة هي المال، فتصبح عملية الزواج عملية بيع وشراء، الرابح فيها من يكسب المال الكثير.

والشارع اعتبر في الزوج خصلتين عظيمتين؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»(21).

والعجب كل العجب ممن يزوج ابنته مَن لا يصلي ولا يخاف ربه؛ من أجل غناه وكثرة ماله، في الوقت الذي يرفض الرجلَ الصالحَ لعدم غناه.

3- التقليد الذي سلب الناس تفكيرهم، فما عمله فلان لا بد أن يعمله هو وزيادة.

أفلا يقتدي هؤلاء بما عمله الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم؟ أفلا يتأسى هؤلاء بما فعله الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين؟

إن مشكلة غلاء المهور تحتاج إلى نية صادقة، وهمة عالية، ونبذ العادات والتقاليد، والانقياد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالصحابة الكرام والسلف الصلح رضوان الله عليهم أجمعين.

ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته المثل الأعلى في ذلك، حتى ترسخ في المجتمع النظرة الصادقة لحقائق الأمور، وتشيع بين الناس روح السهولة واليسر.

عن ابن عباس أن عليًا قال: «تزوجت فاطمة رضي الله عنها، فقلت: (يا رسول الله، ابن بي) [وهو الدخول بالزوجة]، قال: (أعطها شيئًا)، قلت: (ما عندي من شيء)، قال: (فأين درعك الْحُطَمِيَّةُ؟)، قلت: (هي عندي)، قال: (فأعطها إياه)»(22).

فهذا كان مهر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيدة نساء أهل الجنة، وهذا يؤكد أن الصداق في الإسلام ليس مقصودًا لذاته.

مشكلة ذات وجهين:

الأول: من جهة المغالاة في المهور والتزايد فيها، وجعلها محلًا للمفاخرة حتى بلغت إلى الحال التي هي عليها الآن.

ولقد صار بعض الناس الآن يزيد في تطويرها، ويدخل في المهر أشياء جديدة تزيد الأمر كلفة وصعوبة، حتى أصبح المهر في الوقت الحاضر مما يتعسر أو يتعذر على كثير من الناس، فتجد الكثير يتعب تعبًا كبيرًا في أول حياته وعنفوان شبابه، ولا يكاد يدرك ما يحصل به المرأة التي تحصنه، كل هذا بسبب هذا التصاعد الذي لا داعي له في المهور، وهذا مما يعوق عن النكاح الذي أمر الله به ورسوله.

ولو أننا نسلك طريقة لتسهيل الأمر وتخفيف حدة المغالاة بتأجيل بعض المهر، بأن نقدم من المهر ما دعت الحاجة إليه في النكاح، ونؤجل الباقي في ذمة الزوج لكان هذا جائزًا وحسنًا، وفي ذلك تسهيل على الزوج ومصلحة للزوجة، فإن ذلك أدعى لبقائها معه؛ لأنه لو طلقها لحل المهر المؤجل إذا لم يكن له أجل معين، فانظروا، رحمكم الله، هذه المشكلة بعين الاعتبار، ولا تجعلوا المهور محلًا للمفاخرة والمباهاة، ويسروا ييسر الله عليكم.

أما الوجه الثاني: امتناع الأولياء من قبول الخطاب، فإن بعض الأولياء يمتنع من تزويج من له عليها ولاية، وهذا لا يجوز إذا كان الخاطب كفؤًا ورضيته المخطوبة، لقوله تعالى في المطلقات إذا أراد زوجها نكاحها بعد تمام العدة: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232].

هذا وفي منع المرأة من تزويجها بكفئها ثلاث جنايات: جناية الولي على نفسه بمعصية الله ورسوله، وجناية على المرأة حيث منعها من كفئها الذي رضيته، وجناية على الخاطب حيث منعه من حق أمر الشارع بإعطائه إياه.

وإذا امتنع الولي من تزويج موليته بكفء رضيته سقطت ولايته، وصارت الولاية لمن بعده الأحق فالأحق؛ كما قال أهل العلم رحمهم الله، وقالوا إذا تكرر منه هذا صار فاسقًا ناقص الإيمان والدين، حتى قال كثير من أهل العلم: لا تقبل شهادته، ولا تصح إمامته، ولا ولايته ولا جميع أفعاله وتصرفاته التي يشترط لها العدالة.

أترضون أن تبقى بناتنا بدون أزواج يحصنون فروجهن، وينجبن منهن الأولاد الذين بهم قرة أعينهن، إنه لا بد من أن يتزوج أبناؤنا ببناتنا، ولكن علينا أن نتعاون لتسهيل الطرق أمامهم مخلصين لله، قاصدين بذلك تحصيل ما أمر الله به ورسوله، فإن الخير كل الخير في طاعة الله ورسوله، ولقد منع رجال تزويج من لهن عليهن ولاية؛ لينالوا حطامًا من الدنيا؛ فباءوا بالخسران والندامة(23).

بعض المسائل الهامة التي تتعلق بالصداق:

أولًا: إن الصداق ملك للمرأة، ليس لوليها منه شيء؛ إلا ما سمحت به له عن طيب نفس، لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنّ} [النساء:4]، ولأبيها خاصة أن يأخذ من صداقها، ولو لم تأذن؛ ما لا يضرها ولا تحتاج إليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»(24).

ثانيًا: يبدأ تملك المرأة لصداقها من العقد؛ كما في البيع، ويتقرر كاملًا بالوطء، أو الخلوة بها وبموت أحدهما.

ثالثًا: إذا طلقها قبل الدخول أو الخلوة وقد سمى لها صداقًا فلها نصفه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237]؛ أي: لكم ولهن، فاقتضى أن النصف له والنصف لها بمجرد الطلاق، وأيهما عفا لصاحبه عن نصيبه منه وهو جائز التصرف صح عفوه؛ لقوله تعالى: {إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح}، ثم رغَّب في العفو، فقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]؛ أي: لا ينسى الزوجان التفضل من كل واحد منهما على الآخر، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف، أو يتفضل الرجل عليها بإكمال المهر، وهو إرشاد للرجال والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي من بعضهم على بعض، والمسامحة فيما لأحدهما على الآخر؛ للوصلة التي قد وقعت بينهما.

رابعًا: كل ما قبض بسبب النكاح؛ ككسوة لأبيها أو أخيها فهو من المهر.

خامسًا: إذا أصدقها مالًا مغصوبًا أو محرمًا صح النكاح، ووجب لها مهر المثل بدل الصداق المحرم.

سادسًا: إذا عقد النكاح ولم يجعل للمرأة مهرًا صح النكاح، ويسمى ذلك بالتفويض، ويقدر لها مهر المثل؛ لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}؛ أي: أو ما لم تفرضوا لهن فريضة، ولحديث ابن مسعود في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال رضي الله عنه: «لها صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث»، وقال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت»(25)(26).

***

_______________

(1) تعدد الزوجات في إطار الضوابط الشرعية، مجلة البيان (العدد:60).

(2) في ظلال القرآن (4/ 2515).

(3) أخرجه الترمذي (1655).

(4) أخرجه الحاكم في المستدرك (2742).

(5) فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 598).

(6) أخرجه الترمذي (1084).

(7) أخرجه مسلم (1424).

(8) شرح النووي على مسلم (9/ 211).

(9) أخرجه البخاري (5149)، ومسلم (1425).

(10) أخرجه مسلم (1426).

(11) أخرجه أبو داود (2106)، والترمذي (1114).

(12) التفسير الحديث (8/ 61).

(13) أخرجه أبو داود (2106).

(14) أخرجه مسلم (1426).

(15) أخرجه أبو داود (2111).

(16) تفسير البغوي (2/ 196).

(17) أخرجه النسائي (3341).

(18) زاد المعاد (5/ 160).

(19) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2581).

(20) أخرجه مسلم (1424).

(21) أخرجه الترمذي (1084).

(22) أخرجه أبو داود (2125).

(23) مشكلة مغالاة المهور ومنع الأولياء، للشيخ محمد العثيمين، شبكة الألوكة.

(24) أخرجه ابن ماجه (2291).

(25) أخرجه النسائي (3355).

(26) الملخص الفقهي (2/ 360).