المسلمة بين الماضي والواقع
لما نزلت آية الحجاب على نساء المؤمنين، قمن بالتطبيق الفوري لها وبدون تعلل أو ملل، حتى أن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، تصف هذا المشهد قائلة: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، شققن مروطهن فاختمرن بها"(1)، أي يسترن الرأس والعنق والصدر، فلا يُرى منهن شيء، كما قالت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، في رواية أخرى: "رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ}، شققن مروطهن، فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كأنما على رءوسهن الغربان"(2).
حتى أن ابن تيمية، رحمه الله، ذكر في كتابه "لباس المرأة" أن نساء الصحابة كن يلبسن ما يسترهن من الكعب إلى الكف، وذلك في البيت(3).
لقد كان حرص نساء الصحابة على تعاليم دينهن أمرًا يُضرب به المثل في التفاني والسمع والطاعة، ممتثلين قول المولى، عز وجل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]، جاعلين نُصب أعينهن قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
أما نساء المسلمين اليوم، إلا من رحم الله، فقد غابت عنهن تلك المعاني الجميلة، فقد تجد المرأة المسلمة تخرج من بيتها ولم تلتزم بلباسها الشرعي ولا حجابها، وهذه طامة كبرى، لكن هناك طامة أخرى وهي لباس المرأة أمام محارمها كأبيها وأخيها، ولباس المرأة أمام غيرها من النساء.
إن كثيرًا من نساء المسلمين اليوم لم يفرقن بين محارمهن وبين النساء، فظنن أن ما قد يُكشف أمام النساء يمكن كشفه أمام محارمها كأخيها وأبيها، وهذا فهم خاطئ.
عورة المرأة أمام محارمها كالأب والأخ وابن الأخ هي بدنها كله إلا ما يظهر غالبًا، كالوجه والشعر والرقبة والذراعين والقدمين، قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ } [النور:31].
فأباح الله تعالى للمرأة أن تبدي زينتها أمام بعلها ومحارمها، والمقصود بالزينة مواضعها، فالخاتم موضعه الكف، والسوار موضعه الذراع، والقرط موضعه الأذن، والقلادة موضعها العنق والصدر، والخلخال موضعه الساق.
قال أبو بكر الجصاص، رحمه الله، في تفسيره: "ظاهره يقتضي إباحة إبداء الزينة للزوج ولمن ذكر معه من الآباء وغيرهم، ومعلوم أن المراد موضع الزينة وهو الوجه واليد والذراع؛ لأن فيها السوار والقلب والعضد وهو موضع الدملج والنحر والصدر موضع القلادة والساق موضع الخلخال، فاقتضى ذلك إباحة النظر للمذكورين في الآية إلى هذه المواضع وهي مواضع الزينة الباطنة؛ لأنه خص في أول الآية إباحة الزينة الظاهرة للأجنبيين وأباح للزوج وذوي المحارم النظر إلى الزينة الباطنة، وروي عن ابن مسعود والزبير القرط والقلادة والسوار والخلخال، وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم، "أو أبناء بعولتهن" قال: ينظر إلى ما فوق الذراع من الأذن والرأس، قال أبو بكر: لا معنى لتخصيص الأذن والرأس بذلك إذ لم يخصص الله شيئًا من مواضع الزينة دون شيء"(4).
وقال البغوي، رحمه الله: قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}، يعني لا يظهرن زينتهن لغير محرم، وأراد بها الزينة الخفية وهما زينتان خفية وظاهرة، فالخفية: مثل الخلخال والخضاب في الرجل والسوار في المعصم والقرط والقلائد، فلا يجوز لها إظهارها، ولا للأجنبي النظر إليها، والمراد من الزينة موضع الزينة"(5).
وهؤلاء المحارم متفاوتون في القرب وأمن الفتنة، ولهذا تبدي المرأة لأبيها ما لا تبديه لولد زوجها، قال القرطبي، رحمه الله: "لما ذكر الله تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر. فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها. وتختلف مراتب ما يبدى لهم، فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج"(6).
فلا تُظهر المرأة زينتها لمحرمها الّذي تحصل من جهته الشّبهة والرّيبة، ومن باب أولى إذا كان فاجرًا غير مؤتمنٍ، فعن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى شبهه، فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: «هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة» فلم تره سودة قط(7).
ومن الأمور التي يجب التنبيه عليها إرضاع المرأة طفلها أمام محارمها، وإخراج ثديها أمام محارمها، وهذا مما كثر، وقد تقدم التنبيه على أن ما يظهر من المرأة أمام محارمها هو موضع الزينة فقط.
فثدي المرأة عورة، فلا يجوز لها إظهاره أمام أبيها أو إخوانها؛ بل يجب عليها ستره عن أنظارهم بثوب ونحوه.
قال ابن قدامة في المغني: "ويجوز للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالبًا كالرقبة والرأس والكفين والقدمين ونحو ذلك، وليس له النظر إلى ما يستر غالبًا كالصدر والظهر ونحوهما"(8).
هذا إذا كان النظر بغير شهوة وكان الناظر يأمن على نفسه وعلى محرمه الفتنة، أما إذا كان يخاف الشهوة على نفسه أو عليها فلا يحل له النظر؛ لأن النظر بشهوة نوع من الزنا، والزنا بذوات المحارم أغلظ من الزنا بغيرهن.
وما حرم عليها كشفه لمحارمها حرم عليها إظهاره وتجسيمه بالملابس الضيقة أو الشفافة؛ لأن المرأة يجب عليها ستر عورتها بما لا يشف ولا يصف من الثياب.
أختي المسلمة، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيجب عليك أخذ الحيطة والحذر، وسد الذرائع على الشيطان، إن التشريع الإسلامي لا يفرض سوء النية، بأن أخيك أو أي ذي محرم لك هو ينظر إليك نظرة شهوانية، وإنما يقطع الطريق على الشيطان، خصوصًا في هذا الوقت الذي كثرت فيه الشهوات، وتعطلت الزيجات، وكما قيل الوقاية خير من العلاج.
ــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري (4758).
(2) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (22/88-90).
(3) فتاوى ابن عثيمين.
(4) أحكام القرآن، للجصاص (5/ 174).
(5) تفسير البغوي (3/ 403).
(6) تفسير القرطبي (12/ 232).
(7) صحيح البخاري (2218).
(8) المغني، لابن قدامة (7/98).