عوامل استقرار الأسرة
الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، والركيزة الأساسية التي يقوم عليها صرحه المتين، وعلى مدى قوّتها وتماسكها المستمدّين من عقيدة الأمة الراسخة والمستوحييْن من هدي تعليم السماء الراشد تتوقف البنية الاجتماعية في سلامتها، وقدرتها على الاستقرار والعطاء والصمود في وجه هجمات المغرضين، وسهام المرجفين.
فالأسرة تستقر وتطمئن بما يخيّم على علاقة الزوجين فيها من سكنٍ وتفاهم، وبما يحكم علاقة الأصول والفروع من ودٍّ وتراحم وتكافل، وبما تقدمه الحياة من ثمرات صالحة خيّرة، إذا أحسن تعهّدها وتربيتها على المبادئ الإيمانية والقيم الأخلاقية، هي المسئولة الأولى عن صلاح الأمة، وقدرتها على حمل رسالتها الحق إلى الإنسانية.
فالإسلام نظام أسرة، البيت في اعتباره مثابة وسكن، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر، وفي كنفه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة، ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل.
ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويرًا رفافًا شفيفًا، يشع منه التعاطف، وترف فيه الظلال، ويشيع فيه الندى، ويفوح منه العبير: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، فهي صلة النفس بالنفس، وهي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل.
وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوًا ورفقًا، ويستروح من خلالها نداوة وظلًا، وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق.
ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها، بما فيها امتداد الحياة بالنسل، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة، ويعترف بطهارتها وجديتها، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها، ذلك حين يقول: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقر:223]، فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار.
ويحيط الإسلام هذه الخلية، أو هذا المحضن، أو هذه المثابة بكل رعايته وبكل ضماناته، وحسب طبيعة الإسلام الكلية فإنه لا يكتفي بالإشعاعات الروحية؛ بل يتبعها التنظيمات القانونية والضمانات التشريعية.
والذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل وضع من أوضاعها ولكل حالة من حالاتها، وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات، وفي الاحتشاد الظاهر حولها بالمؤثرات والمعقبات، وفي ربط هذا الشأن بالله مباشرة في كل موضع، كما هو الحال في هذه السورة وفي غيرها، يدرك إدراكًا كاملًا ضخامة شأن الأسرة في النظام الإسلامي، وقيمة هذا الأمر عند الله، وهو يجمع بين تقواه سبحانه وتقوى الرحم في أول سورة النساء حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
كما يجمع بين عبادة الله والإحسان للوالدين في سورة الإسراء وفي غيرها: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا} [الإسراء:23]، وبين الشكر لله والشكر للوالدين في سورة لقمان: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} [لقمان:14].
وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداءً على أساس الأسرة، حين جرى قدر الله أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى (1).
أهمية استقرار الأسرة:
أولًا: الأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة، وتفسر الحياة، وتتعامل مع الحياة.
وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوض عنها، ولا يقوم مقامها؛ بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية، التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة، في ثورتها الجامحة الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان (2).
ثانيًا: معرفة كلًا من الزوج والزوجة لحقوق الآخر، باعتبار أن ذلك يؤدّي إلى حفظ حقوق الزوجين التي حرص الإسلام على صيانتها، فكل حق في الأسرة يقابله واجب، قال عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وبذلك تمتنع الخصومة.
فالعلاقة الزوجية القائمة على الصراع والكراهية لا تنتج سوى صور الانحراف المغذية لمآسي المجتمع، بينما الحياة الزوجية الهادئة القائمة على مبادئ القرآن وأسس الشريعة تنتج أجيال الحكمة والقوة التي تبني المجتمع وتعمل على استقراره.
ثالثًا: إن ترسيخ عوامل استقرار الأسرة في المجتمع الإسلامي يؤدي إلى نهضة الأمم وبناء الحضارات، وإن المجتمع الذي لا يولي الأسرة اهتمامًا لا يمكن له أن يتقدم أو أن يحقق حضارة.
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرتِهِ الزوجيةَ، شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49].
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} [النساء:1].
وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة، بعد ذلك، فيما أراد، أن يكون هذا اللقاء سكنًا للنفس، وهدوءًا للعصب، وطمأنينة للروح، وراحة للجسد، ثم سترًا وإحصانًا وصيانة، ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة، مع ترقيها المستمر، في رعاية المحضن الساكن الهادئ المطمئن المستور المصون: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة، لإنشاء مؤسسة الأسرة، ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولًا: في توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها، وثانيًا: في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي، كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شئون هذه المؤسسة (3).
وإن الضياع الذي نشاهده في المجتمعات من حولنا، سواء كان في بعض المجتمعات الإسلامية أو غيرها، إنما جاء من تشتت الأسر وضياع حقوق الله سبحانه فيها، وتنكر الزوجين لما شرعه الله سبحانه، فنجد الفرقة والسباب والشتات؛ حيث غابت آداب الإسلام وتعاليمه التي حثّت على الاحترام بين الزوجين، وصيانة كل منهما لحق الآخر.
ومن أهم العوامل التي تساعد على استقرار الأسرة:
1- التعاون على أداء الواجبات:
إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار، والإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها، وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات، ويفرض الآداب التي تمنع التبرج والفتنة كي تستقر العواطف ولا تتلفت القلوب على هتاف الفتنة المتبرجة في الأسواق! ويفرض حد الزنا وحد القذف ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليها والاستئذان بين أهلها في داخلها.
وينظم الارتباطات الزوجية بشريعة محددة، ويقيم نظام البيت على أساس قوامة أحد الشريكين، وهو الأقدر على القوامة، منعًا للفوضى والاضطراب والنزاع، إلى آخر الضمانات والتنظيمات الواقية من كل اهتزاز، فوق التوجيهات العاطفية، وفوق ربط هذه العلاقة كلها بتقوى الله ورقابته (4).
لكل من الزوج والزوجة دور ومسئولية في أداء الأسرة ورسالتها، ومن مقتضيات العشرة بالمعروف تعاونهما في أداء هذه المسئوليات، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في خدمة أهله، وكذلك الصحابة، وهذا لم يكن ينقص من قيمته أن يعين زوجته في بعض أعمال النساء، فعن عائشة رضي الله عنها لما سئلت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: «كان بشرًا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه» (5).
وإن أعظم تعاون هو التعاون على تربية الأبناء، فإنها مسئولية الأب كما هي مسئولية الأم، والزوجان اللذان يتعاونان على هذه المسئولية يسهمان في المحافظة على استقرار البيت، ويغلقان باب إلقاء المسئولية على الآخر والهروب منها.
حسن العشرة:
العلاقة الزوجية علاقة دائمة ومستمرة ومعاشرة يومية، وحالة الاحتكاك والنزاع طارئة لا محالة؛ لذلك كان لا بد لهذه العلاقة من غلاف إحساني، حتى لا يتحول الأمر إلى مشاحنة ومنازعة حول الحقوق الزوجية؛ بل ينتقل التعامل بين الزوجين على أساس مبدأ الإحسان إلى الحرص على إكرام الطرف الآخر، بغض النظر عن وفائه لما عليه أو تقصيره، فيتبادلان العفو والتجاوز والصفح عند التقصير، والشكر والتقدير والتنويه عن كل لحظة وفاء مهما كانت بسيطة.
لا بد للزوجين أن يتبادل كل واحد منهما المعاملة بالخلق الحسن، المتمثل في القول والفعل والشعور القلبي والإحساس العاطفي، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خياركم خياركم لنسائهم» (6).
إن المرأة لا تحتاج إلى المال ومتاع الدنيا أكثر مما تحتاجه من كلمة طيبة، تشعر فيها بكرامتها وقيمتها الإنسانية؛ فالكلمة الطيبة والابتسامة الجميلة من أغلى الهدايا التي يقدمها الزوج لزوجته، خصوصًا عندما تقوم المرأة بخدمة بيتها وزوجها، فيقابلها بالكلمة الطيبة؛ من الدعاء لها بالخير، والدعاء أن يبارك الله فيها، فالمرأة إن وجَدت معروفها يُشكر، وأن خيرها يُذكر ولا يُكفر، حمِدت ذلك من بعْلها، ونشِطت للإحسان إليه، والقيام بأمره وشأنه؛ بل كان ذلك معينًا لها على البقاء على العِشرة بالمعروف.
يقول الشيخ محمد إسماعيل المقدم: «إن الكلمة الطيبة أغلى عند الزوجة، في كثير من الأحيان، من الحُلي الثمينة، والثوب الفاخر الجديد؛ وذلك لأن العاطفة المحببة التي تبثُّها الكلمة الطيبة غذاء الروح، فكما أنه لا حياة للبدن بلا طعام، فكذلك لا حياة للروح بلا كلام حلو لطيف» (7).
قال الغزالي: «واعلم أنه ليس حُسن الخلق مع المرأة كفَّ الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت نساؤه تُراجعنه الكلام، وتَهجره الواحدة منهن يومًا إلى الليل» (8).
العفة وإشباع الرغبة:
يجب على الزوج أن يؤدي حق زوجته في العفاف والإشباع الجنسي، فيَحرم على الرجل أن يهجر فراش زوجته لغير عذر شرعي، كما أنه لا يهجر زوجته بحجة انشغاله بالعبادات وطلب العلم؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتُّل وترك مجامعة النساء.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل ليلة، فإما ذُكِرْتُ للنبي صلى الله عليه وسلم وإما أرسَل إليّ، فأتيته، فقال لي: (ألم أُخبَر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟)، فقلت: (بلى يا نبي الله، ولم أُرِد بذلك إلا الخير)، قال: (فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام)، قلت: (يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك)، قال: (فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا)، قال: (فصم صوم داود نبي الله؛ فإنه كان أعبد الناس)، قلت: (يا نبي الله، وما صوم داود؟)، قال: (كان يصوم يومًا ويفطر يومًا)، قال: (واقرأ القرآن في كل شهر)، قلت: (يا نبي الله، إني أُطِيق أفضل من ذلك)، قال: (فاقرأه في كل عشرين)، قلت: (يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك)، قال: (فاقرأه في كل عشر)، قلت: (يا نبي الله، إني أُطِيق أفضل من ذلك)، قال: (فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك؛ فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزَوْرك عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا)، فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تدري لعلك يطول بك عُمر)»(9).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسابق عائشة، وكانت تسبقه مرة، ويسبقها مرة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال للناس: «تقدَّموا»، فتقدَّموا، ثم قال لي: «تعالَي حتى أُسابقك»، فسابقتُه فسَبقتُه، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبَدُنت ونسِيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: «تقدَّموا»، فتقدَّموا، ثم قال لي: «تعالَي حتى أُسابقك»، فسابقته فسبَقني، فجعل يضحك وهو يقول: «هذه بتلك» (10).
التشاور بين الزوجين:
من عوامل استقرار الأسرة واستمرارها التشاور بين الزوجين في أمر العائلة، والشورى منهج حياة في ديننا الإسلامي، والأمر بها ورد كهيئة وصِفَة من الصفات المميزة للمسلمين، قال سبحانه وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} [الشورى:38].
إن أولى الناس بالمشاورة هم الأشخاص المنوط بهم تحمل المسئولية في البيت، وهم الزوجين، وفي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الكثير من المواقف العملية حول مشاورته لأزواجه لنا فيها الكثير من العبر والدوس.
من أهم أدوات استقرار الأسرة هو التواصل والحوار؛ إذ إن من صفات الأسر المريضة أن التواصل والحوار بين أفرادها يكون غير مباشر وغير واضح، أو يغيب الصدق فيه إن لم يكن منعدمًا، بينما التواصل المباشر والواضح والصادق والحوار البناء من سمات الأسر المستقرة.
عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد صلح الحديبية: «يا أيها الناس، انحروا واحلقوا»، فما قام أحد، ثم عاد بمثلها، فما قام رجل، حتى عاد بمثلها، فما قام رجل، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال: «يا أم سلمة، ما شأن الناس؟»، قالت: «يا رسول الله، قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنسانًا، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك»، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدًا حتى أتى هديه فنحره، ثم جلس، فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون(11).
فكان رأي أم سلمة رضي الله عنها رأيًا موفقًا ومشورة مباركة، وفي ذلك دليل على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة ما دامت ذات فكر صائب ورأي سديد، كما أنه لا فرق في الإسلام بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة، طالما أنها مشورة صائبة، فالشورى سلوك ينظم الحياة والأسرة في كل شئونها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38].
وفي قبول النبي صلى الله عليه وسلم لمشورة زوجته أم سلمة تكريم للمرأة، التي يزعم أعداء الإسلام أن الإسلام لم يعطها حقها وتجاهل وجودها، وهل هناك اعتراف واحترام لرأي المرأة أكثر من أن تشير على نبي مرسل، ويعمل النبي صلى الله عليه وسلم بمشورتها لحل مشكلة واجهته في حياته.
استحضار المعنى التعبدي للزواج:
لقد بلغ تقدير الشرع لرابطة الزواج أن عدها ضمن القربات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، وألغى بذلك كل الأفكار والنظريات التي تختزل الزواج في جانب الإشباع الغريزي أو الإنجاب لا صلة له بالآخرة.
فالمعاشرة بالمعروف بين الزوجين ليست مسألة اختيارية أو مزاجية؛ وإنما الأمر دين وأمر شرعي، يعد الإخلال به مخالفة شرعية ومنقصة في مروءة المرء وإيمانه، كما أن القيام بهذا الأمر يزيد من إيمان المرء، ومن قربه من الحق سبحانه.
ويعلمنا شرعنا الجانب التعبدي في أدق جزئيات الحياة الزوجية، كما في مسألة إطعام الزوجة والنفقة عليها، فعلى الرغم من أن المسألة واجب شرعي على الزوج، فإن جانب القربة فيها حاصل بفضل الله وكرمه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك» (12).
ويذهب الشرع بعيدًا في إبراز جوانب التعبد في الحياة الزوجية التي لا تتنافى والجوانب الأخرى المعتبرة شرعًا، حيث بشرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن لحظة المضاجعة في فراش الزوجية قربة من المولى سبحانه عز وجل، وذلك في قوله لصاحبه ابتداءً وأمته انتهاءً: «وفي بضع أحدكم صدقة»، ولما استغرب الصحابة من هذا التقدير الشرعي للشهوة الآدمية، في قولهم: «أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟»، أجاب صلى الله عليه وسلم بقياس معكوس: «أرأيت لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له فيها أجر» (13).
فالزواج قربة إلى الله لما يحمله من أهداف خيرة، ومعان سامية، ومقاصد معتبرة، كما في حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابًا لا نجد شيئًا، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشّباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاءٌ» (14).
فليس الزواج مجرد عقد بين فردين للمتعة، وإنما له مقاصده العظمى، ويدل على ذلك أن بقاء النسل والمحافظة عليه إحدى الضرورات الخمس التي جاءت الشرائع لحمايتها وصيانتها من النقص والعبث والابتذال، ومن تلك المقاصد حماية المجتمع من الرذيلة، وإشاعة الفضيلة؛ بل وحماية العقل، والزواج المستقر أحد وسائل حمايته.
استعمال القوامة على وجهها الصحيح من الطرفين:
فلا يجوز للزوج أن يتعدى حدود مسئوليته باسم القوامة، ولا يحق له أن يهمل ذلك وقد منحه الله حقًا لا ينازعه فيه غيره، وكذلك على الزوجة أن تفهم حدود القوامة للزوج، حتى لا تنازعه حقًا وهبه الله له، ولا أن ترضى بأن يفرط بواجب حمَّله الله إياه.
قال تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ} [النساء:34].
إن الأسرة، كما قلنا، هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية، الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق، والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصور الإسلامي.
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنًا، والأرخص سعرًا؛ كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية وما إليها، لا يوكل أمرها، عادة، إلا لأكفأ المرشحين لها ممن تخصصوا في هذا الفرع علميًا، ودربوا عليه عمليًا، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة.
إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا، فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة، التي تنشئ أثمن عناصر الكون؛ العنصر الإنساني.
والمنهج الرباني يراعي هذا، ويراعي به الفطرة، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة.
والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفردة.
والمسلم به ابتداءً أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله، وأن الله سبحانه لا يريد أن يظلم أحداً من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة، وقد خلق الله الناس ذكرًا وأنثى، زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون، وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع، وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل، وهي وظائف ضخمة أولًا، وخطيرة ثانيًا، وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدَّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى! فكان عدلًا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني، الرجل، توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة، ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل...، ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد! وكان عدلًا كذلك أن يُمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه، وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك (15).
التوسط والاعتدال واستعمال الرفق من قِبَل الزوجين:
فإن الرفق ما صاحب شيئًا إلا زانه، وما نُزِع من شيء إلا شانه، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على سواه، ومن ذلك تحمل أي من الزوجين ما يقع من هنات أو تقصير من قبل الطرف الآخر، ومعالجة ذلك بحكمة وبصيرة وبعد نظر، دون إفراط أو تفريط، والبعد عن التلاوم، والإفراط في العتاب، فهو أقوى مُذهِب للمودة.
المبادرة إلى حل الخلافات الزوجية:
تشهد جميع العائلات حالات الخلاف والنزاع والشجار على درجات مختلفة، وليكن في علم كل الناس أنه ليست هنالك مشكلة يتعذر حلها، فأية مشكلة يمكن بالطبع حلها فيما لو صدقت نوايا الزوجين في تحقيق ذلك، وقد وضع الإسلام الأسس السليمة لمعالجة الخلافات الزوجية في أطوارها الأولى أو عند نشأتها قبل أن تستفحل، ومنها الموعظة الحسنة ثم الهجر في المضجع، وأخيرًا الضرب، في حالة إذا كانت المشكلة صادرة من الزوجة.
وليس الخطأ فيما حدده الإسلام من وسائل وحلول وقائية وعلاجية، ولكن المشكلة تقع في الإنسان نفسه الذي لا يتقيد بما أوصى به الإسلام، ففي يومنا هذا تعترض الزوجة ويساندها الكثيرون من الرجال الذين يساندون حركة تحرير المرأة، على إعطاء ذلك الحق للرجل دون المرأة، وكذلك الاعتراض على وجوب طاعة المرأة لزوجها إلا في معصية، هذا الزمن الذي تنادي فيه المرأة بالمساواة مع الرجل، بدون تحمل أي تبعات لتلك المساواة، وذهب الكثيرون من أعداء الإسلام إلى الطعن في الإسلام وحلوله فيما يختص بالزواج والطلاق (16).
***
___________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3595).
(2) المصدر السابق (1/ 235).
(3) المصدر السابق (2/ 649).
(4) المصدر السابق (6/ 3597).
(5) أخرجه أحمد (26194).
(6) أخرجه ابن ماجه (1978).
(7) عودة الحجاب (1/ 417).
(8) إحياء علوم الدين (4/ 720).
(9) أخرجه مسلم (1159).
(10) أخرجه أحمد (26277).
(11) أخرجه أحمد (18910).
(12) أخرجه البخاري (4409).
(13) أخرجه مسلم (1006).
(14) أخرجه البخاري (5066).
(15) في ظلال القرآن (2/ 650).
(16) عوامل استقرار الأسرة، بوابات كنانة أونلاين.