logo

اجعله مسئولًا


بتاريخ : الخميس ، 28 صفر ، 1437 الموافق 10 ديسمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
اجعله مسئولًا

إن الحياة التي نعيشها عبارة عن بحر عظيم، لا يستطيع أي إنسان أن يدركه كله، أو أن يسبر أغواره، ففي هذا البحر أحيانًا أمواج عالية متلاطمة، يضرب بعضها بعضًا، وذلك حينما تتكدر الحياة وتكثر فيها المشكلات والعقبات، وأحيانًا يصفو هذا البحر ويصبح كصفحة السماء الصافية، وذلك حينما تحلو الحياة وتخلو من المكدرات، والناس في هذه الظروف أنواع، فمنهم من لا يستطيع أن يعيش إلا في صفاء البحر وهدوء الحياة، ومنهم من يستطيع أن يعيش مع مكدرات الحياة وأن يتجاوزها ويتعلم منها، ويخرج بعد هذه التجربة أقوى مما كان، ومنهم من لا يستطيع أن يتعايش مع هذه العواقب والعراقيل، وحينها يغرق في قاع البحر وهموم الحياة، حيث يجد في قاع البحر كثيرًا من ضعاف الإرادة، وقليلي العزيمة، وعديمي المسئولية.

فإذا أراد الآباء والامهات لأبنائهم أن ينجوا في بحر الحياة، وأن تكون لديهم القدرة والقوة على مواجهة أمواجه العاتية وظلماته العاتمة، فلا بد من تعليمهم كيفية تحمل المسئولية، هذا التحمل الذي يجعلهم غير مهددين بالفشل؛ بل ومحطمين كذلك لكثير من الصعاب والعقبات.

إن هناك دائمًا إشكالية متكررة بشكل كبير بين الآباء والأمهات وبين الأبناء، فالآباء والأمهات دائمًا يدّعون أن الأبناء لا يطيعون أوامرهم، وأنهم يعصونهم ويخالفونهم، والآباء والأمهات إنما يريدون من الأبناء أن يطيعوهم حتى يصبحوا عندهم رصيد من الخبرة والتجربة؛ وبالتالي يستطيعون تحمل المسئولية في هذه الحياة.

وفي المقابل نجد الأبناء يتذمرون من تلك الأوامر والنواهي، التي يرون فيها تكبيلًا لحريتهم المسموح بها، فالآباء والأمهات حينما يطلبون منهم أمرًا فهذا لا بأس به؛ لكن أن يطلبوا من الأبناء القيام بهذا الأمر بالطريقة الفلانية، ويعطون الكثير من التفاصيل، وهذا ما يقيد الأبناء، ويسلخ منهم شخصيتهم، ويجعلها غير موجودة في الحدث.

وحينها يقول الأبناء: لم نعد صغارًا، لم نعد أطفالًا، ويدور الوالدان والأبناء في دائرة مفرغة على منوال الصورة السابقة.

إن الحل الأمثل لهذه المعضلة، التي غالبًا ما يمر بها كثير من الآباء والأمهات، هو إعطاء مساحة من الحرية للأبناء لأجل تحمل المسئولية، وهذا الأمر إنما يبدأ بإعلان أن الأبناء لم يعودوا بعد صغارًا، فيعلنها الوالدان أمام أبنائهما "إن ابننا فلانًا لم يعد الآن طفلًا! إنه أصبح رجلًا".

كم يثلج صدر الصبى هذا الإعلان، كم يغذي إحساسه بذاته ويطمئنه على ذاته، ثم على الفور ينبغي أن يتغير السلوك؛ لإعطاء هذا الإعلان رصيدًا من الواقع.

فبدلًا من أن يشتري له أبوه حاجاته دون مشورة منه، ولا إشراك له في الأمر، ينبغي الآن أن يأخذ رأيه: ما رأيك في هذا الحذاء؟ ما رأيك في هذا القماش؟ ما رأيك في هذا اللون؟

أو بدلًا من ذلك، إذا كان قد دربه تدريبًا مناسبًا من قبل يعطيه النقود ويترك له حرية شراء أشيائه، مع التوجيه اللازم والنصائح اللازمة بطبيعة الحال، بأن يشتري البضاعة الطيبة ذات الثمن المناسب.

ثم يشركه في شئون الأسرة: ما رأيك في المشكلة الفلانية؟ وليس من الضروري أن يأخذ برأيه في شيء، إلا أن يكون صوابًا يستحق الأخذ به، ولكن تكفي المشورة في ذاتها، فهي تعطيه الإحساس بأنه أصبح كبيرًا بالفعل.

ثم يرسله بين الحين والحين نائبًا عنه في قضاء أمر من الأمور؛ يقابل أحد معارفه، أو يبلغه رسالة منه، أو يقضي عملًا في السوق، أو في مكتب البريد، أو في ديوان من دواوين الحكومة، إلى آخر ما يعن للوالد من حاجات.

كما أن الأم تستطيع أن تعهد إليه ببعض المسئوليات التي يقوم بها أبوه في العادة، لتشعره أنها تثق به كما تثق بوالده، أي: على مستوى الرجولة، كأن يذهب مع أخته في مشوار معين، أو يشتري شيئًا لأخيه الأصغر، أو يستقبل ضيوف والده في غيبته... إلخ.

إن الوالدين بهذه الطريقة يكسبان كسبين عظيمين في آن واحد؛ الأول: هو حل العقدة الشائكة في نفس الطفل، التي تحرج صدره وتحمله على العصيان، وهي استمرار والديه في النظر إليه على أنه طفل، فإذا اطمأن بهذه الصورة إلى "رد الاعتبار" أو بالأحرى "إثبات الاعتبار" فقد انحلت العقدة وذهب العصيان.

والثاني: أنهما يدربانه تدريبًا عمليًّا على خبرات الحياة ومقتضياتها، فضلًا على تنمية شخصية الطفل بإتاحة الفرصة له للتعامل الفعلي مع المجتمع"(1).

إنني أذكر جيدًا يوم أن كنت في الصف الرابع الابتدائي، وكان والدي دائمًا ما يأخذني معه في قضاء أموره، وإنجاز حاجات تخص البيت وتخص عمله كذلك، أذكر حينها أن والدي أعطاني مبلغًا من النقود (460جنيهًا) لأجل شراء جهاز كهربائي (ثلاجة)، وأخبرني أن هذا الجهاز متوفر عند فلان، الذي كنا عنده الأسبوع الماضي، وأعطاني حرية اختيار الشكل واللون، ثم بعد شراء الجهاز ذهبت إلى خارج المحل، ووجدت سيارات لنقل البضاعة، فقمت بتأجير إحداها حتى توصلني بالجهاز، وذلك كما كان يفعل والدي، وقد ترسخت صورته حينها في ذهني، وكيف كان يتحاور مع السائق لأجل نقل البضاعة، والاتفاق على ثمن الأجرة، ثم قمت باختيار السيارة المناسبة لحمل الجهاز.

وقد تم الأمر كله بفضل الله، ولقد كان الأمر في بدايته مخيفًا جدًا بالنسبة إلي، فأنا أبدًا لم أحمل في جيبي هذا المبلغ وأسير به في الشارع؛ لكن بعد قضاء وإنجاز ما طلبه مني أبي شعرت بأنني أستطيع إنجاز أي أمر يطلبه مني والداي؛ بل شعرت أنني أستطيع إنجاز كل ما يفعله والدي، وأنني قادر على تحمل المسئولية مثل أبي، ولا أذكر أني قلت لوالدي بعدها لأي أمر طلباه مني: لا أستطيع.

إن تفويض الآباء والأمهات لأبنائهم في إنجاز العمل بأنفسهم ينقل المسئولية إليهم، ويدربهم عليها، ويجعل طاقاتهم تتوجه نحو هذه الأعمال، فالتفويض يزرع في نفوس الأبناء النماء والتطور، وهذا ينمي شخصياتهم ويطور إمكاناتهم.

"إن التفويض الصحيح هو الذي يقوم على إعطاء الإرادة الحرة للأبناء، ويحملهم المسئولية، ويركز على النتائج أكثر من تركيزه على الوسائل، ويعطي حرية اختيار الطريقة أو الوسيلة التي يريدونها، ويجعلهم مسئولين عن النتائج، فيتعلمون من أخطائهم، ويتدربون على إدارة العمل بثقة وقدرة"(2).

_______________

(1) منهج التربية الإسلامية، لمحمد قطب (2/440-441).

(2) 25 طريقة لتصنع من ابنك رجلًا فذًا، لأكرم مصباح عثمان، ص129 بتصرف.