المرأة المسلمة المعاصرة
خلق الله الزوجين الذكر والأنثى ليكون كل منهما مكملًا للآخر، فالرجل لباس للمرأة، والمرأة لباس للرجل، وأناط الله بالرجل والمرأة أعمالًا كثيرة مشتركة، ثم خصص لكل منهما عملًا يناسبه، ودورًا يقوم به، لتكون البشرية سعيدة في الدنيا والآخرة.
إن أي مطالع للقرآن الكريم والسنن الصحاح يرى المرأة جزءًا حيًا من مجتمع حي فهي تتعلم وتتعبد، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجاهد –إذا شاءت- في البر والبحر، وتؤخذ منها البيعة على معاقد الإيمان والأخلاق، وتعارض الحكم أو تؤيده (1).
فالتعلم والتعبد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد والبيعة؛ وظائف حضارية للمرأة منحها الإسلام لها وجسدته المرأة المسلمة الأولى مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب التحرير من أغلال الجاهلية وتكريمها وتكليفها برسالة البناء الإسلامي كواجب شرعي تشترك فيه مع الرجل.
فالمرأة إذن –في نظر الإسلام- ليست إنسانًا للمتاع الحيواني وخدمة الرجل؛ مثلما رأته الجاهلية قديمًا وتدعو إليه المادية الغربية الآن، مع اختلاف في بعض الحقوق الذي تقدمها لها المدنية الغربية؛ بل إنسان تام الإنسانية منح له الله عزّ وجل مواهب عقلية وعاطفية وروحية، يفيد العمران الإنساني ويحقق العبودية المطلوبة، فالنساء شقائق الرجال، وهم سواء في تكاليف العقائد والعبادات والأخلاق، وهم سواء في استحقاق الثواب والعقاب لما يعانون من جهد في سبيل الله ويرى الغزالي أنّ الزعم بأن الذكورة تقدم صاحبها وأن الأنوثة تؤخر صاحبها لون من الكذب (2).
ومما لا شك فيه عند كل مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن هناك ثوابت شرعية ترسم حياة الناس عمومًا، وحياة المرأة على وجه الخصوص؛ وهي في الجملة كالآتي:
1- اليقين التام بأن المرأة مخلوقة لله تعالى، مكلفة مأمورة بعبادته وحده دون سواه، كما أراد ربنا جل وعلا لا كما أرادت هي، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}[الأعراف: 54]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
2- اليقين التام بأن القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والقياس المنضبط بشروطه هي مصادر التشريع في حياة المرأة المسلمة المعاصرة، وأنها الدالة على الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والتي يجب التسليم والانقياد لها محبة ورغبة وإجلالًا، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
3- اليقين التام بأن هذا الدين هو الخاتم الذي لا دين بعده، وأنه الحق الذي لا يسع أحد غيره، وأنه صالح لكل زمان ومكان، في الاعتقاد والتشريع وشئون الحياة النسوية بعامة، وأن ما سواه جاهلية مقيتة، كما قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
4- اليقين التام بأن الصورة التطبيقية لحياة المرأة المثالية هي ما كان عليه أمهات المؤمنين والصحابيات رضي الله عنهن وأرضاهن، وعليه فإن المرأة المسلمة المعاصرة في اعتقادها وعباداتها ومعاملاتها وسلوكياتها بين أمرين:
الأول: إمكانية اتباع أمهات المؤمنين في ذلك كله أم لا، فإن أمكنها ذلك فلا يخلو إما أن يكون المقتدى فيه واجب أم مستحب أم مباح، فإن كان واجبًا فالاقتداء فيه واجب، وإن كان مستحبًا فالاقتداء فيه مستحب، وإن كان مباحًا مما لم يرد فيه أمر ولا نهي فإنها تفعل ما تراه أقرب إلى سمات الصحابيات رضي الله عنهن جميعًا.
ثانيًا: إن كان مما لا يمكن الاقتداء فيه بالصحابيات، مما هو محدث من المخترعات والوسائل الحديثة التي لم تكن في عهد الصحابيات والصالحات من بعدهن؛ فإن المرأة المسلمة المعاصرة تقدم درء المفاسد على جلب المصالح، وتستفتي العلماء الراسخين في العلم المشهود لهم بالعدالة والصيانة والديانة، فإن لم يكن ذلك استفتت قلبها؛ فما حز في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الآخرون تدعه، ففي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» (3).
5- اليقين التام بأن جميع المناهج الوضعية مهما زينها أصحابها بالشهوات والشبهات هي مزاحمة للشريعة الربانية؛ لا يجتمع في قلب مسلمة حبها وحب الشريعة أبدًا، وأن تلك المناهج قاصرة جائرة متناقضة، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وعلية فإن ما في تلك المناهج من خير فإن الشريعة قد سبقت إليه، فالله أعلم بمصالح عباده من أنفسهم، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
6- اليقين التام بأن ما شرعه الله من حقوق للمرأة هو قمة العدل والإحسان، حيث ساوى بين الرجل والمرأة فيما يمكن فيه التسوية والاشتراك، ومايز بينهما فيما يوجب ذلك باعتبار الخلقة والاستعدادات النفسية والجسدية، قال تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90].
7- اليقين التام بأن ما لم يكن دينًا على عهد الرسول صلى الله علية وسلم لا يكون دينًا الآن، حيث إن المرأة المسلمة عاشت أحقابًا من الدهر إلى زمننا هذا لم تعرف الدعاوى الباطلة الآثمة التي تنازع الله جل وعلا في أمره ونهيه وقدره باسم الحرية وحقوق المرأة.
8- اليقين التام بأن الخير والشر في صراع دائم إلى قيام الساعة، وأن المرأة المسلمة المعاصرة في معركة دائبة مستعر أوارها، وعليه، فإن أعداء الله تعالى ما برحوا يوجدون الخصومة بين المرأة والرجل، والمرأة وكتاب ربها تعالى، وهذا خلاف الحقيقة الصادقة، قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة: 228].
9- إن ما نال المرأة من ظلم واستبداد قديمًا وحديثًا ترفضه الشريعة الإسلامية وتنكره أشد النكير وتوجب تغييره، فكيف تلام وهي التي حمت حمى المرأة قديمًا وحديثًا.
10- إن المرأة المسلمة المعاصرة محاسبة على أعمالها إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7- 8] (4).
صورة المرأة:
إن وضع المرأة ودورها الاجتماعي يتمثل بصورة أو أكبر من الصور التالية إجمالًا وتفصيلًا، وهي:
الأم، والزوجة، والبنت، والأخت، وذات الرحم المحرم (كالعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، والحفيدة، والسبطة)، وذات الرحم غير المحرم (كبنت العم، وبنت العمة، وبنت الخال، وبنت الخالة)، والمرأة المربية، والمرضعة، والحاضنة، والموظفة، والمثقفة، والعاملة، والجارة، والداعية، والطالبة، والمعلمة، والكاتبة، والشاعرة، والأديبة، والباحثة، والعالمة.
وجاء الإسلام ليقرر أولًا أن المرأة إنسان، وأنها شريكة الرجل في كل شيء، ثم بينت الشريعة الغراء ثانيًا الأحكام الفقهية التفصيلية لكل صورة من صور المرأة السابقة، ومعظم الأحكام مشتركة بين الرجال والنساء، وبعضها يقتصر على أحكام معينة في خصوصيات النساء، أو في خصوصيات الرجل، ليتم التكامل الإنساني أولًا، والاجتماعي ثانيًا، وتكامل الأمة ثالثًا، ووحدة الإنسانية رابعًا.
أوضاع المرأة ودورها الاجتماعي:
قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1- 4].
فالله خلق الذكر والأنثى، وهو رب المرأة والرجل، ويعلم طبيعة كل منهما وما يصلحه ويسعده، والمرأة نصف المجتمع، بل نصف البشرية، ونصف العالم، ومنجبة ومربية للجميع.
والمرأة لها مكانتها الخاصة في الإسلام، وتشترك مع الرجل في معظم الأحكام والأهلية والمسؤولية، ولها أحكامها الخاصة التي تناسب خلقتها وفطرتها المتميزة من الرجل.
الواقع المر للمرأة اليوم:
عند التحدث عن المرأة في العصر الحاضر لا بدّ من الإقرار والاعتراف بالواقع المر في الأمور الآتية:
1- الإقرار بالحيف والظلم والجور الذي لحق بالمرأة طوال التاريخ، بل في كثير من التشريعات والأنظمة والقوانين والشرائع والأحكام.
ووصل الأمر الشائن أحيانًا كثيرة إلى المسلمين وتصرفاتهم ومواقفهم ومجتمعهم حيال المرأة؛ بالتشدد والتعنت والتنطع، حتى تحول وضع المرأة إلى مشكلة في المجتمع، وعقدة في الواقع، وتشكل عندها عقدة نفسية، وكأنها عقدة في الحياة.
2- محاولة استغلال حال المرأة في الحياة والواقع، وظهور ردة الفعل في العصور الحاضرة، بالمتاجرة باسمها، وبجمالها، وبعواطفها، ورفع دعوى التحرر غير المسؤول، والوصول إلى الطرف المقابل في التطرف أحيانًا في مجاملة المرأة على حساب الواقع، ولما يدور في الذهن وسوء النية.
3- استغلال المرأة للدعاية التجارية، وللإفساد، والمتاجرة باسمها، واستعمالها طعمًا للتآمر على الملوك والحكام، والعبث بمشاعرها، وتصويرها في الإعلانات والصحف والمجلات بصورها شبه العارية، وطبقوا عليها قول الشاعر:
خدعوها بقولهم: حسناء والغواني يغرهن الثناء
4- استغلال الأعداء لوضع المرأة المسلمة، وإثارة حفيظتها على بعض الأحكام التي تفردت بها الشريعة، ودفعتهم للحقد والعداوة، بانتهاز الفرص، والاعتماد على الجهل العام بالأحكام، وحكمة التشريع من كل منها، والاستفادة من التخلف المزري في المجتمع المعاصر، والظلم والجور الذي لحق ببعض النساء المسلمات، وألصقوا ذلك بالإسلام نفسه، ليكون غرضهم في السهام، وهدفهم للهجوم، وتنفيس الأحقاد.
5- المناداة بتحرير المرأة المسلمة، واستخدام هذا الشعار البراق الذي ظاهره الحق والعدل والرحمة، وباطنه الإثم والعدوان، فيظهر الوقوف في صف المرأة للدفاع عن حقوقها، ورفع الظلم عنها، ويبطن هدفين هما: تحريرها من الشرع الحنيف، والأحكام الإسلامية، واستخدامها للإفساد الاجتماعي الموطئ للاستعمار الأجنبي، والغزو الفكري والعقائدي، حتى قال أحد المستشرقين: إن تعليم المرأة في البلاد العربية بؤبؤ عيني؛ ليحقق من ورائها أهدافه الاستعمارية الخبيثة.
6- وقوع بعض المفكرين المسلمين والأدباء والشعراء، وبعض النساء، في هذا التورط والفخ الذي نصب لهم، فشاركوا في الهجوم على الإسلام ذاته، وليس لمجرد حماية المرأة أو الدفاع عنها.
7- الوصول -اليوم- إلى التطرف المقابل في رعاية المرأة نظريًا، وامتهانها عمليًا، وسلب كثير من حقوق الرجال لمنحها للنساء، باسم المساواة المفرطة التي دفعت بعض الرجال لطلب الإنصاف والمساواة.
8- الإفراط والتفريط، والغلو والمغالاة، من كثير من المسلمين في العصور الأخيرة، مما أثار الدهشة، وحرك الأشجان، وظهر التساؤل عن حقيقة الإسلام وواقع المسلمين (5).
سمات المرأة المسلمة المعاصرة:
إن الله تعالى بعلمه وحكمته وقدرته البالغة قد رسم للمرأة المسلمة سمات تتميز بها عن غيرها سواء في الباطن أم الظاهر، وإن الناظرة المنصفة لتلمح ذلك في الكتاب العزيز والسنة النبوية الصحيحة من أول وهلة، ومن ذلك ما يلي:
السمة الأولى: الوسطية:
وهي العدالة والخيرية، والوقوف وسطًا بين طرفي الإفراط والتفريط، الذي هو العدل، وفعل الخير والحسن في كل شيء الذي هو الإحسان.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وتتمثل هذه الوسطية في الاستقامة على طريق الحق، باجتناب ما هو محذور دينًا، وتسوية الحقوق بين المستحقين في حقوقهم، وبذل الحقوق الواجبة للغير، وأخذه دون زيادة، وفصل الخصومات على ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا الحكم بالهوى والرأي المجرد.
ويشمل العدل كل مجال من عقائد وشرائع وتعامل مع الناس بامتثال الحق وترك الظلم والإنصاف من النفس وإعطاء الحقوق، قال الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29]، والعدل هنا هو أدني مراتب الوسطية، وأما أعلاها فهو الإحسان الذي يشمل العدل ويزيد عليه، إذ العدل أن تأخذ المرأة المسلمة المعاصرة ما لها وتؤدي ما عليها، والعدل يكون في الأحكام، والإحسان يكون في المكارم.
إن المرأة المسلمة المعاصرة إذا استطاعت تحقيق سمة الوسطية في الباطن بالإيمان بالله تعالى، والإخلاص له، واتباع الكتاب والسنة الصحيحة، بعد العلم بهما، ومراقبة الله تعالى، والصبر بجميع أنواعه، والتأمل والتفكير والتدبر في آيات الله المنظورة والمقروءة، والخوف من عذاب الله تعالى، والخشية له، وعلو الهمة والعزم فيما يقرب إليه سبحانه، والتوكل عليه، والتواضع للمؤمنين، والزهد فيها يؤخرها عن الدار الآخرة، ومحبة الله تعالى ومحبة ما يحبه، والرجاء فيما عنده، والتقوى مما يسخطه، والخشوع بين يديه، وتعظم شعائره وأمره ونهيه، وحسن الظن به، والفرح بفضله ورحمته، وموالاة أولياءه ومعاداة أعدائه، واليقين بما أخبر به وأعده لمن أطاعه وعصاه.
والإحسان إلى النفس بدوام تزكيتها وشدة محاسبتها، ثم أعقبت ذلك بسمات الوسطية في الظاهر بكثرة تلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، وحمده وشكره، ودعائه والصدق في الحديث، والاستقامة على الأمر والنهي، والطاعة المطلقة لله ورسوله، وعمل الصالحات، والمسارعة والمسابقة والمنافسة في الخيرات، وتطهرت من النجاسات.
إن المرأة المسلمة إذا فعلت ذلك كله ابتغاء مرضات الله تعالى؛ وكأنها ترى الله تعالى بقلبها حين فعله؛ فقد استكملت الوسطية بحذافيرها وهي القدوة في عبادتها لربها.
السمة الثانية: الشمولية والتوازن:
إن المرأة المسلمة المعاصرة متوازنة في تعاطيها مع الحياة والتكاليف جميعًا، ترى صورة الحياة كاملة، بكل ما تحويه من تنوع وألوان، تضرب بسهم وافر في كل فضيلة، لا تلهيها طاعة عن طاعة، ولا فضيلة عن فضيلة، تأخذ بكتاب ربها جميعًا، كما قال تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
وهي متوازنة لا تضخم جانبًا من حياتها على الآخر، تزن الأمور بموازين الشريعة، فلا تقدم النوافل على الفرائض، ولا المباح على النوافل، تأخذ بحضها من العبادة والترويح المباح، لا توغل في زينة الظاهر دون الباطن، بل تجمع بين صلاح الباطن والظاهر.
السمة الثالثة: الواقعية:
إن المرأة المسلمة المعاصرة واقعية في تصوراتها وقدراتها لنفسها والآخرين، فهي لا تنزع إلى المثالية التي لا يمكن تطبيقها في واقع الحياة، لعلمها أن تلك الواقعية حماية لها من الوقوع في براثن الأمراض النفسية والجسدية، ولما تراه في النساء اللواتي جنحن إلى الخيال المفرط فأرهقن أنفسهم وأجسادهن، وحملن المحيط الأسرى من حولهن أعباء جسيمة، كانت سببًا في الشقاء وتقطع أواصر المودة، كل ذلك قد تجره نظرات إلى من فاقها قدرة مالية أو خلقية، ناسية أن الله تعالى يبتلى عبادة بالخير والشر، وأنه قسم بين الناس معايشهم وأرزاقهم.
فعلى المرأة المسلمة المعاصرة أن ترضى عن الله تعالى بالصورة التي خلقها عليها، وبالزوج الذي قدره لها، وبالأولاد الذين هم نصيبها من الدنيا، ولا تنظر إلى من فوقها حتى لا تزدري نعمة الله عليها، كما قال تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ الله مِن فَضْلِهِ إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32].
وهي كذلك واقعة في طروحاتها للآخرين، تراهم بشرًا يخطئون ويصيبون، تهب خطأ الناس لصوابهم، تخالطهم وتصبر على أذاهم، تقول للمحسنة أحسنت وللمسيئة أسأت، بعبارة لطيفة، متفائلة بخير لمستقبلها ولمستقبل مجتمعها بعامة.
السمة الرابعة: الإيجابية:
إن المرأة المسلمة المعاصرة مغامرة ترى الحياة فرصة واحدة، تسعى بكل ما أوتيت من قدرات روحية وجسدية ألا يسبقها في الفضائل أحد، فهي لا تنظر إلى أطراف أقدامها بل، هامتها مرفوعة إلى السماء، تصعد لتأخذ مكانها فوق الثريا، طلقت الدعة والراحة والسكون، وأتعبت في ذات الله نفسها، مجاهدة صابرة، وفارسة أصيلة، حاضرة في كل ميدان مبارك، رائعة في صرختها لأخواتها تنادي بصوت كله حنو ومودة البدار البدار، من هاهنا الطريق أختاه.
إنها حارسة يقظة على الفضيلة، لا يطمع فيها العدو ولا ييأس من برها المجتمع.
السمة الخامسة: العلمية:
إن المرأة المسلمة المعاصرة تعتقد أن دراساتها، فيما يتلاءم مع فطرتها وفي التخصص المرغوب لديها مما تقدر عليه، يخدمها ومجتمعها، تراه حقًا واجبًا عليها، فهي متوثبة دائمًا تبحر في خلجانه وتخاطر بنفسها في بحاره ومحيطاته، وتغوص في أعماقه، واضعة نصب عينيها قول الله تعالى: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقوله جل وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
حذرة من التعالم فيما ليس لها به علم، بعيدة عن الكبر والتعالي بما آتاها الله منه، بل كلما ازدادت علمًا ازدادت للخلق تواضعًا.
السمة السادسة: المهنية:
إن المسلمة المعاصرة واعية، تدرك أن لها طبيعة تختلف عن الرجال في التركيبة الجسدية والنفسية، فهي ناعمة التركيب الجسدي والنفسي، مكان للصون والستر خلافًا للرجل القادر على الحل والترحال، ومعافسة الضيعات الجسام، تساعده عضلاته المفتولة على تحمل المشاق، وتدعمه نفسه على مداراه اختلاف الطباع، وقد راعى القرآن هذه الخصوصية بقوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18].
إن من تمام عبودية المرأة المسلمة العاصرة لربها جل وعلا، يقينها التام بأن قرارها في بيتها، تدير مملكتها تصنع العلماء والقادة، والساسة والمربين، هو خير لها مما سوى ذلك مهما كانت المكاسب لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33].
نعم إن المرأة المسلمة المعاصرة مهنية نشطة فيما تسمح به شريعتها، ويتناسب مع فطرتها مما لا يضر بإدارة بيتها والقيام بحقوق زوجها وأولادها، بعيدًا عن الاختلاط والسفور والتبرج، ثم إن المرأة قد تعوزها الحاجة إلى العمل خارج المنزل بما ذكرت من الشروط، غير أنها لا تفتح الباب على مصراعيه؛ بل في وقت محدد، وإلى زمن معين، بمقدار سد الحاجة لا غير، ثم تعود بكليتها إلى بيتها الذي هو مملكتها، تملؤه طاعة وبرًا وإحسانًا، إذا كان الأمر كذلك وهكذا يجب أن تكون المؤمنة.
إن المرأة المسلمة المعاصرة تستطيع أن تصنع من بيتها ومكان عملها جنة تجدد كل حين بإذن ربها.
إن المرأة المسلمة المعاصرة ربة بيت ناجحة، ينعم زوجها وأهلها بحسن عشرتها تضع نصب عينها قوله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله» (6).
السمة السابعة: العفة:
إن المرأة المسلمة المعاصرة عفيفة عن المحارم والمآثم، تضبط نفسها عن الشهوات إلا على الوجه المشروع في اعتدال وفق الشرع والمروءة، إنها يوسفية العفة كما ذكر الله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، تعلم علم اليقين أن أكثر ما يدخل الناس النار هو الفم والفرج.
إن المؤمنة الحقيقية هي التي توجت بتاج العفة باطنًا وظاهرًا، حيثما كانت لا تساوم على حجابها، مهما كانت الضغوط والمغريات والسخرية والاستهزاء، كما قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وهكذا أيتها العفيفة علق الله الفلاح في الدنيا والآخرة على العفة، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5].
إن المرأة المسلمة المعاصرة لا تبيع عرضها وعفتها بملء الأرض ذهبًا ترضى أن تمزق إربًا إربًا ولا ينال من عفتها قدر أنملة واحدة.
السمة الثامنة: الثبات:
أختي الكريمة إن المرأة المسلمة المعاصرة سابقة بالخيرات، منافسة في الطاعات، تسارع إلى مغفرة من ربها ورضوان، ليس في قاموس شخصيتها الوقوف أو التقهقر للوراء، لا تبدد طاقاتها الروحية والجسدية ذات اليمين وذات الشمال، بل هي على الصراط المستقيم تمتثل قول مولاها عز وجل: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، مستعينة بالله تعالى تردد قوله الحق: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
أيتها الواثقة بربها: إنه ليس في دين الله الوقوف على حالة واحدة، بل التقدم أو التأخر كما قال تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37].
إنه من السهل بعد المجاهدة الوصول إلى مراتب الكمال؛ ولكن من الصعب الترقي أبدًا في مدارج الإحسان حتى تبلغي درجة الصديقية؛ ما لم تملكي قوة خديجية وعزيمة عائشية (7).
________________
(1) دستور الوحدة الثقافية عند المسلمين (ص: 195).
(2) الطريق من هنا (ص: 149).
(3) أخرجه مسلم (1599).
(4) سمات المرأة المسلمة المعاصرة والتحديات التي تواجهها/ موقع المسلم.
(5) المرأة المسلمة المعاصرة (مكانتها - حقوقها - أحكامها) - محمد مصطفى الزحيلي.
(6) أخرجه الترمذي (3895).
(7) سمات المرأة المسلمة المعاصرة، والتحديات التي تواجهها/ شبكة المسلم.