logo

الأناقة الحضارية


بتاريخ : الأربعاء ، 20 صفر ، 1437 الموافق 02 ديسمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الأناقة الحضارية

إن الطبيعة الإنسانية تكره أن تكون النفس البشرية فارغة من داخلها؛ وبالتالي فحين يترك الوالدان قلب الابن فارغًا خاويًا فإن غيرهما سيقوم بملء هذا الفراغ، وسوف يتلقى الابن هذا المحتوى الدخيل عليه بشوق وشغف، فالابن أشبه بالكأس، فإذا ملأها الوالدان بما يريدان فإنهما بذلك يكونان قد قطعا الطريق على ما لا يريدان.

ولا يعني هذا كثرة الوعظ للأبناء، فكثرة المواعظ تصل بالإنسان إلى حالة الممل؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة، وكذلك كان يفعل ابن مسعود رضي الله عنه.

إن على الوالدين أن يقوما بإرشاد الأبناء إلى السلوك الحضاري للإسلام؛ حتى يملئوا هذا الفراغ الموجود في ذهن وقلب وعقل الأبناء، ولعل الطرق والوسائل التي يمكن بها إيصال هذه الأخلاقيات والسلوكيات الحضارية متنوعة، فمنها مثلًا القصة والحكاية وضرب المثل؛ كقصة لقمان عليه السلام مع ابنه، ويتم بعدها مناقشة هذه الوصية مع الأبناء على قدر عقولهم، ويتم استخراج القيم الأخلاقية التي يمكن للأبناء ممارستها خلال حياتهم.

وكذلك يمكن إيصال السلوكيات والأخلاق من خلال الرسم التوضيحي، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فعن جابر قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطًا هكذا أمامه، فقال: «هذا سبيل الله»، وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله قال: «هذه سبيل الشيطان»، ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. [مسند الإمام أحمد (15277)].

ويمكن إيصال السلوكيات والأخلاق من خلال التجربة، كتلك التجربة التي قام بها هذا الوالد الذي جمع أبناءه، وأمر كل واحد منهم أن يأخذ عودًا من الخشب ويقوم بكسره، ففعلوا، ثم أمرهم أن يجمع كل واحد منهم عود الخشب الخاص به مع أخيه، وجعل كل الأعواد مجتمعة، ثم أمر كل واحد منهم أن يحاول كسر تلك الأعواد المجتمعة، فلم يستطع أحد منهم، وهكذا أعطى لهم درسًا واقعيًا في معنى أن الاتحاد قوة، والتفرق ضعف.

فالابن حين يتغذى على كل تلك المعاني السامية فإنه يصل إلى درجة الأناقة الحضارية، وذلك حين يستشعر أنه يؤدي ما عليه من واجبات، ثم بعد ذلك يقوم بعمل زائد عن الواجب؛ كمن يقوم بعمل تطوعي مثلًا، فإنه لا شك يشعر بالتفوق والرضا والإنجاز، وهو إحساس مهم لتعزيز الثقة بالنفس.

والابن لن يصل إلى الأناقة الحضارية إلا حين يشعر بحب الله في قلبه، ويحس بأن روحه تشع حبًا وإشراقًا في نفسه، وحينها يستقيم على أخلاقيات وسلوكيات لا إله إلا الله، ويجاهد ويدفع أي خلق وسلوك دخيل على هذه الأخلاق والسلوكيات الحميدة.

ولعل من أهم المعالم التي تساعد الآباء والأمهات إلى توجيه وإرشاد أبناءهم إلى السلوك الحضاري للإسلام هي:

أولًا: التركيز على الأهداف الكبرى:

فيجب على الآباء والأمهات أن يغرسوا في الأبناء أهمية التركيز والتمحور حول الأهداف العظمى في هذه الحياة، والتي مرجعها دائمًا هذا الدين وهذه العقيدة، فيبينوا لهم أن العبادات كلها يجب أن تؤدى إرضاءً للمولى عز وجل، وأن تكون وسيلة لتحسين صلتنا بالله عز وجل، وأن تزيد من حبنا له سبحانه، وإلا فإن العبادات حينها ستكون خالية من الإخلاص، أو هناك خلل في الأداء، وهذا في كل مناحي الحياة، فليس هذا مقصورًا على الشعائر التعبدية فقط؛ بل يتم تشجيع الأبناء على الكسب وطلب العز والثراء، فهذا أمر طيب، وإنما ينبغي أن تكون كل هذه النعم لأجل المولى عز وجل، وأن تكون سببًا في توثيق الصلة بين الابن وبين الله عز وجل، فقد رُوي أن يعقوب عليه السلام سأل البشير: كيف يوسف؟ قال: هو ملك مصر، فقال: ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمت النعمة. [تفسير النسفي، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (2/ 134)].

ثانيًا: الثبات على المبدأ والجهاد دونه:

وهذا أمر صعب المنال في هذه الأيام؛ ذلك لأن الأبناء منذ الصغر وهو يتعاملون بالأرقام، ثقافة المكسب والخسارة، فالأطفال منذ ابتدائهم في الدراسة وهم محاصرون بالأرقام، حيث إنهم مطالبون بالأرقام العالية لأجل التفوق الدراسي، وبالتالي كل ما عليه هو حفظ المادة الدراسية وفقط، فتضيع أهمية العلم وحب العلم والتعلم حينها، وكذلك أيضًا قد يلجأ الابن إلى بعض الطرق الملتوية للحصول على تلك الدرجات العالية، وكل هذا للأسف يقتل حضارة "الثبات على المبدأ"، فلأجل الحصول على الغاية، وهي الدرجة العالية، يقوم الابن بالتخلي عن المبدأ، وهو عدم الغش وعدم سرقة مجهود الغير.

وكل هذا حين يتم فإنه يكون على حساب دين المرء وكرامته ومبادئه، وبالتالي فإنه يجب على الآباء والأمهات أن يبينوا للأبناء أن الإنسان حين يترك سبيل الرشاد من أجل تحصيل منفعة، أو جلب مصلحة، فإنه يعرض نفسه بذلك لنقمة الله عليه، أما حينما يضحي لأجل البقاء على صراط الله القويم، ولأجل ثباته على مبدأه الصحيح، فإن ذلك يكون سببًا بإذن الله لرحمة الله به وتفوقه وسداده ورشاده.

والأمثلة على ذلك كثيرة، فقصة أصحاب الأخدود خير شاهد ودليل، وكذلك قصة عبد الله بن حذافة مع هرقل الروم عندما كان أسيرًا لديهم، وقصة ثبات الإمام أحمد بن حنبل يوم محنة خلق القرآن.

بهذين المعلمين يستطيع الأبناء أن ينطلقوا في هذه الحياة الدنيا متمسكين بالقيم والمبادئ السامية لهذا الدين، ويستطيعون أن يخوضوا بهذه الأخلاق المعارك الكثيرة في عالم الروح، حين تتجاذبهم أمواج الشهوات والشبهات، ويستطيعون بإذن الله أن يحققوا هذا الانتصار، انتصار الروح، ويكونون بهذه الأناقة، الأناقة الحضارية.