على قدر عقله لا عقلك
إنك كإنسان حين لا تستطيع فهم الآخر ولا تستطيع التواصل معه فإنك تكرهه، وفي أحيان كثيرة تكره نفسك؛ لعدم قدرتها على فهم الطرف الآخر.
وهذا أمر خطير جدًا يؤدي إلى عواقب وخيمة، وخاصة إذا كان بين الآباء والأمهات وبين الأبناء، ففي أحيان كثيرة نجد أطفالًا يتعرضون لنقد لاذع ولوم جارح من الآباء والأمهات، وذلك اعتقادًا من هؤلاء الآباء والأمهات أن الأبناء يتعمدون مخالفة أوامرهم، وللأسف فإن هذا الاعتقاد في الغالب الأعم يكون غير صحيح، وإنما السبب الحقيقي هو عدم فهم الآباء والأمهات لهذه المواقف، فإنهم غالبًا ما يفهمون هذه المواقف بعقولهم لا بعقول أبنائهم؛ مما يجعلهم يحكمون عليهم بمخالفة الأوامر وتعمد عصيان والديهم؛ بل إن هذه المواقف قد تكون لأجل مساعدة الوالدين!.
إن من أهم الأسس التي ينبغي أن تكون موجودة في علاقة الآباء والأمهات مع الأبناء مخاطبتهم على قدر عقولهم، وعلى قدر فهمهم، وأن يكون التعامل بينهم على هذا الأساس.
وفي البداية لا بد من التفرقة بين ابن وابن، فالطفل الصغير يختلف في فهمه عن الطفل في المرحلة الابتدائية، وعن الابن في المرحلة الإعدادية، ويختلف الابن في المرحلة الثانوية عنه في مرحلة الجامعة، فلكل مرحلة من هذه المراحل خصائصها وميزاتها التي تختلف عن غيرها، فما بالنا إذا كان الخطاب بين ابن ووالديه، لا شك أن هناك فروقًا كبيرة في التفكير.
"إن هناك مسافة بين عقولنا وعقول أبنائنا، والواجب علينا أن نحسن اختيار وسيلة المواصلات المناسبة لاجتياز هذه المسافة، وطرق أبواب عقولهم بلياقة تناسب صاحب الدار، وأما منطق تهشيم الباب فإنه لن يعطينا القوة بالدخول؛ بل إنه يحرمنا، حتى إذا دخلنا، أن نستطيع إحداث التحويل الإدراكي في عقول الأبناء" [صناعة النجاح، د. طارق السويدان، أ. فيصل باشراحيل، ص164، بتصرف يسير].
"إن كل إنسان يدرك العالم من حوله بطريقته الخاصة، فيضع له خارطة في ذهنه، ويرسم له حدودًا تختلف عن الحدود التي يرسمها غيره، والعالم في أذهاننا هو غير العالم الذي نعيش فيه؛ لأن الذي في أذهاننا عالم محدود، مبستر، ولكننا مقتنعون تمامًا بأن العالم هو ما نراه ونسمعه ونحس به، وليس شيئًا آخر" [آفاق بلا حدود، محمد التكريتي، ص14].
فكذلك الأبناء لا يرون الحقائق من حولهم على ما هي عليه، وإنما يرونها من خلال فهمهم واهتمامهم؛ لذلك فإن بداية التفاهم بين الآباء والأمهات وبين الأبناء هو التعرف على اهتمامات الأبناء، والمعرفة الدقيقة لهذه المفاهيم عندهم.
في كثير من الأحيان يبدو تصرف الطفل على أنه خطأ كبير، في حين أنه كان يود تقديم عمل جيد كما كان يرى والداه، أو يود تقديم مساعدة لوالديه.
فمثلًا: وجدت الأم طفلتها وملابسها تقطر من الماء، فما كان من الأم إلا أن وبختها ونهرتها وعنفتها، ثم بعد ذلك علمت الأم أن الطفلة أرادت مساعدة أمها وغسل الأطباق مثلها، لكنها بلت ملابسها بالماء ولم تستطع غسل الأطباق، المشكلة أن الطفلة بدا لها أن أمها تعاقبها على محاولة مساعدتها في غسل الأطباق.
وكذلك الابن عندما يرى والده وهو يقوم ببعض الأعمال المنزلية الشاقة، فحينها يريد الابن تقليد أباه فيما يفعل، وربما قام بتكسير أشياء في المنزل، وعندها يقوم الوالد بنهره ومعاقبته، فيظن الابن أن العقاب كان بسبب المساعدة، وكذلك عندما يذهب مع أبيه إلى المسجد فربما قام ببعض الضوضاء والحركة؛ مما يدفع الأب إلى تعنيفه، وعندها قد يكون في نفس الابن شيئًا تجاه الصلاة والمسجد، ولا شك أن هذا أمر خاطئ.
إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أروع الأمثلة في تعامله مع الأبناء، وخاصة في المسجد؛ بل وأثناء الصلاة، فعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، فإذا الصبي على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: «كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته» [مسند الإمام أحمد (16033)، وسنن النسائي (1141)].
إن كثيرًا منا لو كان في مثل وضع النبي صلى الله عليه وسلم لربما قام بجذب الطفل بقوة، ونظر إليه نظرة حادة، ثم بعد الصلاة وبخه ونهره؛ بل وربما أقسم عليه بعدم أخذه معه إلى المسجد مرة أخرى، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ذلك خطأ من الأساس؛ ذلك لأنه قدر عقل هذا الطفل الصغير، وأن الذي دفعه لهذا الفعل إنما هو اللعب، فالنبي لم يزجره ولم يعنفه، كما أن كل هذه الضوضاء كانت في شعيرة عظيمة، ألا وهي الصلاة.
ولا يقف الأمر عند حد معرفة اهتمامات الأبناء وطريقة تفكيرهم؛ بل يجب على الآباء والأمهات تعريف الأبناء على العالم من حولهم، العالم على حقيقته لا كما يتوهم الأبناء في مخيلتهم، وهذا التعريف إنما يكون من خلال طرح تساؤلات استكشافية على الأبناء، وكذلك يكون التعريف من خلال الإجابة على تساؤلات الأبناء أنفسهم.
إننا نرى كثير من الأبناء يسألون، ولكن الآباء والأمهات، في بعض الأحيان، لا يعيرون لهذه التساؤلات أهمية تذكر، وربما يمتنعون عن الإجابة ويرفضون، وإن أجابوا يمنعون الأبناء من التسلسل في الأسئلة، أو يجيبون الأبناء بإجابات قاطعة مسكتة، تغلق باب الأسئلة بعدها.
يجب على الآباء والأمهات أن تكون إجاباتهم على تساؤلات أبنائهم إجابات مثيرة للتساؤل بعدها، إجابات تفتح لهم أفق التفكير والإبداع.
إن الأبناء الذين تعودوا على تلك الإجابات المسكتة يصبحوا بعد ذلك عبارة عن قوالب تُلقى فيها المعلومات دون إعمال فكر فيها، ودون سؤال: هل هذه المعلومة صحيحة أم لا؟.
على الآباء والأمهات حين يسأل الابن سؤالًا غريبًا ألا يقابلوا سؤاله باستغراب، وإنما يحاولون إعادة صياغة السؤال وتهذيبه، في محاولة للوصول إلى ما يريد الابن الاستفهام عنه.
كذلك يجب على الآباء والأمهات أن تكون إجاباتهم على أسئلة الأبناء بنفس المستوى العقلي الذي سأل الابن به سؤاله، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يأتيه سائل يسأله سؤالًا عامًا فتكون الإجابة إجابة مجملة شاملة، وقد يكون السؤال تفصيليًا، فتكون الإجابة محتوية على التفكير التحليلي للذي يريد ذكر التفاصيل، وهكذا، والسيرة النبوية مليئة بهذه الأمثلة.