logo

الزوجة الصابرة


بتاريخ : الأحد ، 20 جمادى الآخر ، 1446 الموافق 22 ديسمبر 2024
الزوجة الصابرة

تعاني بعض الزوجات من سوء خلق الزوج؛ إلا أنها لا تدري أنها مأجورة عند الله تعالى على تربية أولادها مطلقًا، فكيف إذا ضاقت عليها الدنيا بسوء خلق زوجها، وتكاد من أجل هذا أن تترك أولادها وأطفالها الصغار، وقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخلت علي امرأة ومعها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فأخبرته فقال: «من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن؛ كن له سترًا من النار» (1)، وجاء في حديث آخر أخرجه مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها من النار» (2). 

الصبر على الزوج الفقير:

إن الصبر على الزوج وعلى حالته المادية واجب ما دام الزوج يسعى ويكد على رزقه ورزقها، ولا يجب أن تطلب ما يهلكه ويزيد عن طاقته، وعلى الزوجة التي تشعر بأن الحياة ضاقت عليها وعلى أطفالها وزوجها التقرب لله بالطاعات والعبادات والصلاة والاستغفار والدعاء، فالدعاء يغير القدر ويصلح النفس ويهذبها، كما أنه يزيد الرزق ويفتح الأبواب المغلقة ويساعد على حياة كريمة، وعون الزوجة لزوجها أمر كريم محبوب ولو بالكلمة الطيبة.

ها هي السيدة فاطمة رضي الله عنه، أم الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وزوج علي رضي الله عنه، وابنة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، والابنة الشفيقة المواسية لأبيها صلى الله عليه وسلم، وهي أحب أبنائه إليه، وأشبههم به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: «فاطمة بضعة (قطعة) مني، فمن أغضبها أغضبني» (3)، ومع ذلك لم تكن حياتها في بيت زوجها مُترفة ولا ناعمة، لأن عليًا رضي الله عنه على عِظم مكانته لم يكن صاحب حظ من مال، ومن ثم فقد عاشت رضوان الله عليها في بيتها حياة بسيطة متواضعة، أقرب إلى أن توصف بالفقر والتقشف والخشونة.

وروي أن فاطمة عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن، فبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسبي، فأتته تسأله خادمًا، فلم توافقه، فذكرت لعائشة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا، وقد دخلنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: «على مكانكما»، حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: «ألا أدلكما على خير مما سألتماه، إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين، فإن ذلك خير لكما مما سألتماه» (4).

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: «إخ إخ» ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني (5). 

الصبر على الزوج المهمل:

الكثير من الرجال منغمر في العمل والمسؤوليات التي باتت الحياة المجتمعية والعملية تستوجبها، كما أن هناك الكثير من المسؤوليات التي تلقى على عاتق الرجال أكثر من النساء، لذلك يجب على المرأة الصبر، ومحاولة تغيير الواقع الذي تكرهه، بمحاورة الزوج والحديث معه حول الخلافات أو ما يشغله وتخلق حوارًا مشتركًا وهوايات تجمعهم معًا، فالزوج يحب أن تكون زوجته صديقة وشريكة أولًا وعليها أن تراعي حالته النفسية.

يولي الرجال بشكل عام أهمية كبيرة لكبريائهم، لذلك لا يحب الرجل أن تقوم زوجته بالتركيز على أخطائه أو التصحيح على كلامه أو التنقيص من قدره أمام الآخرين وخصوصًا الأبناء، فمن الأولى أن تحرص على مشاعره في الموقف، ويمكنها الحديث معه حول هذه الأخطاء في وقت مناسب بينهما.

وصبر الزوجة على الزوج المهمل له أجر عظيم وكريم، فالله تعالى بشر الصابرين، إذ يقول الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، ويقول في سورة آل عمران: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]، ومما ينبغي على الزوجة القيام به لتدارك هذا الخلل ما يلي: 

التحدث معه:

يعد الحديث مع الزوج من أهم الخطوات للتعامل مع إهماله، حيث يمكن للزوجة التعبير عن شعورها بالإهمال وسؤال الزوج عن أسباب ذلك ومحاولة حلها؛ ومن الجيد عند الحديث معه اختيار الوقت والمكان المناسب، والتحلي بالصبر والانفتاح والاستماع لأسبابه وتوضيح مشاعر الطرفين، وقد يتبين عند الحديث معه أن إهماله ليس سوى انشغال في العمل أو بأمور أخرى فقط حيث تعتبر الزوجة بعض تصرفات زوجها إهمالًا. 

وفي بعض الأحيان قد يظهر أن هناك سببًا ناتجًا من الزوجة لذا يجب أن تكون مستعدة للنظر في تصرفاتها أيضًا مع نية لتعديل الأخطاء والسلوكيات وتقبّل النقد، وقد يكون الزوج غير مدرك أنّه يُظهر عدم الاهتمام بزوجته من خلال بعض تصرفاته وبالتالي يؤذي مشاعرها دون قصد؛ لذا فإن الحديث معه عن تصرفاته مهم لجعله يفهم نتيجتها على الزوجة وبالتالي قد يكون الحل بتوقفه عن تلك التصرفات. 

الصراحة:

تُعد الصراحة بين الزوجين من أهم مظاهر التواصل الصحيح بينهما، وقد تنشأ خلافات نتيجة سوء التفاهم والتواصل، وقد تشعر المرأة أن زوجها لا يفهمها، لذا من المهم أن تحرص على إيصال مشاعرها ومطالبها بشكل واضح للرجل، وتجنّب استخدام الكلمات أو الجمل الغامضة والتي قد تُفهم بأكثر من معنى عند الحديث معه، مع مراعاة اللباقة والتكلم بلغة لينة. 

الثناء على الزوج:

يساعد التركيز على الجوانب الإيجابية في الزوج ومدحها كلما سنحت الفرصة على تقوية العلاقة، وإعادة شحن المشاعر، كما يزيد من انجذاب الزوج أكثر، ويُفضّل الاعتياد على شكره كلما قام بشيء مراعياً من خلاله الزوجة حتى وإن كان أمرًا صغيرًا، فذلك يجعله يُدرك حجم تقديرها ومشاعرها له، كما يمكن تغيير طريقة الشكر من مجرد قول كلمة شكرًا إلى التعبير عن الامتنان من خلال وصف مقدار الارتياح والسعادة التي جلبتها أفعاله للزوجة، فذلك يقوم بتشجيعه لتقديم المزيد من المساعدة والاهتمام حرصًا على سعادتها.

زيادة الثقة بالنفس:

من أهم الأمور التي تجذب الرجل للمرأة وتبيّن قوة شخصيتها عدم تشكيكها في جمالها وقدراتها، حيث أن اهتمام المرأة بنفسها والتصرف بثقة عالية يزيد من احترام الرجل لها واهتمامه بها، كما يُساعد إظهار ثقة الزوجة بزوجها من خلال تقليل الشعور بالغيرة الزائدة وما يليها من تصرفات على تعزيز ثقة الزوج بها ورفع مكانتها، كما أنها بذلك تشجعه على الانفتاح نحوها والتحدث معها باعتبارها شخصًا متفهمًا. 

إظهار الحب:

قد تبهت شعلة الحب في الزواج مع مرور السنوات لذا يُنصح ببذل بعض الجهد لإعادتها إلى الحياة من خلال إظهار الحب من جديد، وهناك العديد من الطرق لذلك منها ببساطة قول كلمة أحبك وتكرارها على مسمع الزوج يوميًا؛ للتأكيد على المشاعر والترابط، فذلك يكسر الحواجز ويزيد المودة، ويمكن القيام ببعض اللفتات الجميلة له خلال اليوم لإظهار الاهتمام بما يسعده ويؤكد له بأنه محبوب (6). 

الصبر على الزوج العصبي:

عصبية الزوج أحد الأمور التي قد تشعر المرأة دائمًا بالألم النفسي وعدم الشعور بالراحة والأمان، وهي لا تعلم أن صبرها على ذلك له أجر عظيم، ويكون فضل الزوجة أعم وثوابها كبير حين تعامل الزوج السيء بما أمرها الله به من لطف ومحبة، ولا تقصر ولا تتزمر وتجاهد بالصبر الجميل. 

تزوج رجل بامرأة فلما دخل عليها قال لها: إنني سيئ الخلق، فقالت له: أسوأ منك من يلجئك إلى سوء الخلق، فعاشت معه في أسعد حياة، وتلك خطة وذكاء، فإن من يعاشر سيئ الخلق عليه أن يتفادى ما يثير غضبه، وفي ذلك قطع للداء من أصله وعلاج للعطب. 

أفكار ونصائح لتفادي الصدمات عند الغضب:

أولًا: تجنب أسباب الغضب: لا بد أنك -وبعد تَكرار المواقف- ستعلمين أغلب الأمور التي تثير غضب الزوج؛ لذا فلتكنْ أول خطوة هي إحصاءَها، وإن استدعى الأمرُ فكتابتها على ورقة -في حالة زيادة العدد- ولتكنْ دائمًا نُصْب عينيك، ثُم المجاهدة في تجنُّبها وعدم تَكرارها.

ثانيًا: ترْويض النفس على الصبر، وتذْكيرها بقوْل النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» (7). 

ومن هذا الألم -بلا شك- الألم النفسي، فما تصابين به نتيجة هذا الغضب، وما تسمعين من كلام يجرح، فاعلمي أنكِ مأجورة عليه، ومثابة على صبرك.

ثالثًا: إياك والطرف الثالث؛ لأنه يزيد من ثوران الغضب، فلا تخبري الأهل، ولا الأصدقاء، ولا تشكي زوجك لمخلوقٍ، بل توجَّهي لمن بيده قلب زوجك، وقلبك، وقلوب العباد أجمعين، وسَلِيه الهدايةَ لزوجك، وصلاح حاله، وصَرْفَ شيطانه. 

رابعًا: تذكيره وقت صفائه بأن هذا لا يليق بالمسلم، وإسماعه بعض الدروس التي تتحدث عن الغضب وأثره في المسلم، وما يتحدث عن حسن الخلق وثوابه عند الله.

خامسًا: التأمل في الجوانب الإيجابية في شخصيته، والاطلاع عليها وقت هيجانه، فهذا يعين الزوجة كثيرًا على تحمله وقت الأزمات، فإذا ما شغلت نفسك وقتها بالتفكير في بعض مميزاته وأخلاقه الحميدة، وما قدَّمه لكِ من معروف، وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغني عنه» (8)، فإن ذلك سيكون حافزًا لكِ على تحمُّله وقت غضبه، وشغل النفس عن الرغبة في مشاركته الثَّورة. 

سادسًا: النظر إليه بمنظورٍ آخرَ، كانت إحدى الزوجات تقول: إنها تعتبر زوجها مريضًا بالجنون مثلًا، وتضع نفسها مكان الطبيب المعالج، وتفكر جديًّا في شفائه، فيأخذها التفكير بعيدًا عن تلك المشاحنة، فيساعدها ذلك على تحمُّله، وعدم الخوض معه فيما يتبرَّم منه.

سابعًا: الإكثار من ذِكْر الله في البيت، وبالأخص سورة البقرة؛ عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» (9)، فاجعليها في جهاز التسجيل أو الحاسوب، وحافظي على قراءتها، وعلى الأذكار بوَجْه عام.

ثامنًا: الابتعاد عنه ولو قليلًا وقت ثورته، فإن تبيَّن لك أنه يفضِّل خروجك من الغُرفة فاخرجي، وإلا فالبقاء مع السكوت، ولكن على غير قرب منه؛ لئلا تصيبك شظية.

تاسعًا: حاولي التجديد في حياتك؛ فتغيير ترتيب أثاث المنزل مثلًا، أو تنظيم بعض الرحلات الترفيهيَّة من الأمور التي تبعث على الراحة، وتعيد للنفس نشاطها، وتفرغ شحنة من الطاقة كفيلة بأن تقلِّل من جرعات الثورة.

عاشرًا: حاولي تأمين احتياجاته، وتفقُّد طلباته؛ فإعداد ملابسه والاهتمام بجميع مستلزماته من الأمور التي تُشعره بالرِّضا، وقد يتذكَّرها وقت غضبه فتهدِّئ من روعه.

وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا وتكرارًا على ضرورة التحلي بالصبر وخاصة من الزوجة، لأنها العقل المدبر والمتصرف في كل الأمور التي تخص الحياة الزوجية، فهي التي يمكنها أن تحافظ على استقرار الأسرة وتحفظ لها ثباتها وسكينتها، مما يؤثر بالإيجاب على الأبناء ويؤدي إلى تقدمهم دراسيًا ونجاحهم في حياتهم، وبالتالي يستطيع كل فرد من أفراد الأسرة أن يحقق حلمه مهما كان بعيدًا.

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله من أعظم الناس حقًا على المرأة؟ قال: «زوجها» قلت: من أعظم الناس حقًا على الرجل؟ قال «أمه» (10).

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: لا يقبل الإسلام أن تقوم الحياة الزوجية على إهانة المرأة، أو الإساءة إليها بقول أو فعل، فلا يجوز بحال أن تسب أو تشتم وخصوصًا أمام أطفالها، بل إن الإسلام يمنع سب الحيوانات والجمادات، فكيف بالإنسان؟ وكيف بالزوجة التي هي ربة بيته، وشريكة حياته، وأم أولاده، وأقرب الناس إليه؟

وإذا أفلت زمام الرجل مرة، فامتدت يده إلى امرأته في ساعة غضب، فالواجب أن يبادر إلى مصالحتها وإرضائها.. فهذا من مكارم الأخلاق التي يجب أن تسود الأسرة المسلمة.

أما ضرب الزوجة أو شتمها أمام أطفالها فهو أمر لا يليق بمسلم يعرف أوليات دينه، ويعلم أنه راع ومسئول عن رعيته، وهو خطأ ديني وخلقي وتربوي لا ينتج إلا الضرر على الفرد والأسرة والمجتمع.

جاء في الموسوعة الفقهية: يستحب للزوج تحسين خلقه مع زوجته والرفق بها، وتقديم ما يمكن تقديمه إليها مما يؤلف قلبها، لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وفي الخبر: «استوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عوان عندكم» (11)، وقال عليه الصلاة والسلام: «خياركم خياركم لنسائهم» (12).

ومن حسن الخلق في معاملة الزوجة التلطف بها ومداعبتها، فقد جاء في الأثر: «كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق» (13)، (14). 

نموذج فريد للزوجة الصابرة:

إن خديجة رضي الله عنها كانت في الأربعين من عمرها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الخامسة والعشرين من عمره، وكان زواجًا سعيدًا ميمونًا مباركًا، ضربت فيه خديجة أروع المثل في الوفاء والبر والصلاح، والإيثار والكرم، وأكمل الله السعادة، فولدت له خديجة: القاسم ثم زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة؛ عليهم جميعًا سلام الله وصلواته.

وامتلأ البيت بالحب والرحمة والحنان، ودبت في جنباته حياة جديدة مزينة بأسمى العواطف وأنبل المشاعر، عواطف الأبوة الرحيمة من رسول الله، ومشاعر الأمومة الكريمة من خديجة، وضم هذا البيت المبارك إلى جانب أولادها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدها من زوجها السابق هند بن أبي هالة، وكذلك ضم هذا البيت عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه، وزيد بن حارثة وأم أيمن، وهي حاضنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو بيت خديجة.

ومرت الأعوام تلو الأعوام على أكرم زوجين، ولما اقترب النبي عليه الصلاة والسلام من الأربعين من عمره الشريف بدأت إرهاصات النبوة تلوح في أفق حياته، وحبب إليه في هذه المرحلة الخلاء، فخلا بنفسه واعتزل الناس، فكان يخرج إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وتزوده الزوجة الوفية المخلصة بما يحتاج إليه من طعام وشراب، فما سفهت رأيه، وما احتقرت عمله، فهو الذي كان يترك الدار والأولاد وينطلق بعيدًا عن مكة بأصنامها ليتعبد لله جل وعلا في هذه الخلوة في غار حراء.

وكانت خديجة تقطع هذه المسافة على قدميها لتقدم له الطعام والشراب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

وفي ليلة كريمة مباركة خيم على الكون هدوء خاشع، أتى جبريل عليه السلام يقف أمام الغار، ويضم النبي المختار ضمة شديدة ويقول له: اقرأ، والرسول يقول: ما أنا بقارئ، قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1- 5]، فرجع النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات الكريمات يرجف فؤاده، فدخل على خديجة -رمز الوفاء وسكن سيد الأنبياء- وهو يرتعد ويضطرب ويقول: زملوني زملوني! فزملته حتى ذهب عنه الروع. 

فسيدتنا خديجة رضي الله عنها ما صرخت في وجهه وما قالت: ما الخبر؟ وإنما هدأت من روعه فلما استيقظ واستراح وذهب عنه الروع، قالت له: ما الخبر؟ فقال لها: «لقد خشيت على نفسي» وأخبرها بما كان، فقالت الزوجة الصابرة الوفية الذكية: كلا! والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: تساعد العاجز الضعيف- وتكسب المعدوم -أي: تعطي المحروم- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وها هي الزوجة العاقلة التي تذكر زوجها بفضائله ومناقبه إذا وقع في وقت عسرة أو أزمة أو في شدة، فلا تصرخ في وجهه ولا تعنفه ولا توبخه إذا رأته في أزمة أو ضيق. 

ولم تكتف خديجة بهذا، بل ذهبت برسول الله إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخًا كبيرًا قد فقد بصره، فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى يا ابن أخي؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال له ورقة: هذا هو الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا -أي: شابًا صغيرًا- ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال المصطفى: «أو مخرجي هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب أن توفي ورقة، وفتر الوحي، أي: انقطع (15).

ثم بعد ذلك نزل على رسول الله قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 1- 4]، وبهذا بعث النبي عليه الصلاة والسلام.

وفي ميدان السبق الإيماني كانت الطاهرة الفائزة بالدرجة العليا، برتبة صديقة المؤمنات الأولى، لم يتقدمها رجل ولا امرأة كما قال جمهور أهل العلم، ومن يومها قامت بدور جديد في تثبيت وتبشير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤازرته ومعاونته في تبليغ الدعوة إلى الله، والصبر على عناد المشركين، وقدمت لرسول الله مالها وعقلها وفكرها ونفسها ووقتها، بل وجعلت من دارها حصن أمن وهدوء واستقرار، بل ومن دارها سطع نور الإسلام، ومنها أضاء على الدنيا كلها. 

وازداد أهل مكة عداء وإيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام، وتمادت قريش في طغيانها، وقاطعت بني هاشم مقاطعة اقتصادية كاملة مدة ثلاث سنوات، ودخلت الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته الصابرة الطاهرة، التي راحت تبذل مالها كله، ووقفت تشد أزره، وتشاركه في تحمل الأذى بنفس راضية صابرة محتسبة، حتى انتهى هذا الحصار الظالم، وقد ازداد حب النبي صلى الله عليه وسلم لها، وازداد النبي صلى الله عليه وسلم تقديرًا لمواقفها. 

وهكذا تعلمنا خديجة درسًا آخر من دروس الوفاء والصبر؛ فإن وقع الزوج في شدة وضيق فالزوجة الصابرة هي التي تقف إلى جوار زوجها، هي التي ترفع عنه الكرب بكلمة حانية طيبة، ولا تفرط في بيته، وسرعان ما تهرول إلى بيت أبويها حتى يرجع إلى الزوج خيره وماله، ويسترد عافيته! فهذا ليس من الوفاء، بل يجب على الزوجة أن تصبر مع زوجها في السراء والضراء على الخير والشر، لتعاونه وتؤازره إذا مر بضيق أو بأزمة من الأزمات، صبرت خديجة رضي الله عنها راضية مطمئنة، وخرجت من هذا الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم، وقد ازداد النبي صلى الله عليه وسلم حبًا لها وتعلقًا بها.

ثم ما لبثت خديجة بعد هذا الحصار أن لبت نداء الله تبارك وتعالى راضية مرضية، مبشرة من سيد النبيين بجنات ونهر بمقعد صدق عند مليك مقتدر.

--------------

(1) أخرجه البخاري (1418).

(2) أخرجه مسلم (2630).

(3) أخرجه البخاري (3714).

(4) أخرجه البخاري (3113).

(5) أخرجه البخاري (5224).

(6) كيف أتعامل مع إهمال زوجي/ موضوع.

(7) أخرجه البخاري (5641).

(8) أخرجه النسائي (9086).

(9) أخرجه مسلم (780).

(10) أخرجه الحاكم (7338).

(11) أخرجه الترمذي (1163).

(12) أخرجه ابن ماجه (1978).

(13) أخرجه الترمذي (1637).

(14) الموسوعة الفقهية الكويتية (24/ 65).

(15) أخرجه البخاري (3).