logo

علمتني السيدة هاجر


بتاريخ : السبت ، 24 محرّم ، 1447 الموافق 19 يوليو 2025
بقلم : تيار الإصلاح
علمتني السيدة هاجر

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟، فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يتلفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟، قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].

 

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات.

 

قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك سعي الناس بينهما» (1).

 

القصة تحكي لنا واقع الأسرة، فالمرأة لها مهمة مستقلة، تختلف عن مهمة الرجل، ولها وظيفة في الحياة الزوجية تعتبر تكاملية تقوم بها مع الرجل لتأسيس أسرة متماسكة، ولا يمكن أن ينيب أحدهما عن الآخر، أو يقوم الرجل بمهمة المرأة، أو تقوم المرأة بمهمة الرجل، ولعلنا نجمل بعضًا من الدروس والعبر المستفادة من تلك القصة، ومنها:

 

أولًا: اليقين الكامل في الله تعالى:

«يا إبراهيم لمن تتركنا؟» كلمة قالتها هاجر -فقط- لتسمع منه كلمة يطمئن بها قلبها، فلما علمت أنه أمر إلهي، قالت بعزة الواثق بالله: «إذا لا يضيعنا»، وفي رواية أخرى عند البخاري، قالت هاجر عليها السلام: «يا إبراهيم إلى من تتركنا؟»، قال: «إلى الله»، قالت: «رضيت بالله»، ففجَّر لها ماء زمزم وخلد سعيها، ولو أنها جزعت وهرعت لما تنعمنا اليوم ببركة ماء زمزم، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى عند البخاري: «بركة بدعوة إبراهيم» (2).

 

لقد تبين لنا في الحديث علاقة السماء بالأرض، والارتباط الوثيق بين من في السماوات ومن في الأرض، وأن المؤمن التقي موصول بربه جل وعلا، وأنه سبحانه مع أوليائه المؤمنين إذا صدقوا معه بنصره وحمايته وعنايته، وقد كان إبراهيم عليه السلام موقنًا بأن الله تعالى لن يضيع تَرِكتَه التي خلَّفها وراء ظهره، وهكذا فعلتْ هاجر أم إسماعيل حينما كررتْ صعود الصفا والمروة والسعي بينهما وكلها ثقة بأنها ووليدها موصولان بعناية الله جل وعلا، الأمرَ الذي عبَّرت عنه بقولها: «إذنْ لا يضيعنا» (3).

 

وهكذا يجب على المؤمن أن يكون متحليًا بالثقة التامة واليقين الكامل وحسن الظن بالله تعالى، فالله تعالى ناصر دينه ومعز أولياءه ومؤيد جنده، وهذه الأمة تتربى بأقدار الله التي يجريها عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علّمنا من سيرته كيف ينصر ربه فينصره: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

 

إن لله في نفوسهم أن تتجرد له، وألا تشرك به شيئا، شركًا ظاهرًا أو خفيًا، وألا تستبقي فيها معه أحدًا ولا شيئًا، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها، ونشاطها كله وخلجاتها.. فهذا نصر الله في ذوات النفوس.

 

وإن لله شريعة ومنهاجًا للحياة، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة، ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء، فهذا نصر الله في واقع الحياة (4).

 

ثانيًا: التوكل والسعي والأخذ بالأسباب:

هاجر المرأة المؤمنة لا تعلق قلبها بغير الله، ولا يملأ فؤادها سوى الأنس به، والتوكل عليه، وقطع كل العلائق دونه.

 

فقد كان السعي بين الصفا والمروة للتذكير بالبحث عن الأسباب، في هضاب قد انقطعت بها الأسباب، ولم يبق إلا باب واحد، ذلك الذي عبَّرت عنه أمُّنا هاجر عليها السلام، وهي تسمع أن الله تبارك وتعالى هو الذي أمر بنقلها هنا مع رضيعها، فقالت كلمة اليقين: «إذن لا يضيعنا» (5).

 

تعلمنا هاجر عليها السلام أن علينا الأخذ بالأسباب إلى أقصى حد ممكن، فقد سعت هاجر سبعة أشواط وصعود وهبوط إلى الصفا ثم إلى المروة، وهو عمل بلا شك شاق وصعب جدًا على الرجال فضلًا عن النساء، ومع ذلك فقد بذلت هاجر وسعت بكل ما أوتيت من قوة، فعلى المسلم أن يبذل كل ما يستطيعه من قوة وأسباب حتى وإن تملكه الضعف.

 

فلا بد أن نأخذ بالأسباب حتى يعطي الله لنا ما نريد، هذه هي سنة الله في كونه، يقول المولى عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، المهم أن ترمي، ولكن لتعلم أنه ليس برميك، ولكن الله رمى.

 

وما أحوجنا إلى هذه العقيدة في زمنٍ ضعف فيه الإيمان وتبدلت فيه القيم وكثرت فيه الأمراض الاجتماعية والنفسية كالقلق والاضطراب والخوف من المجهول ومن فوات الرزق وتسلط العدو، بل وارتكبت كثير من المحرمات بسبب ضعف عقيدة التوكل على الله، وظهر اليأس عند كثير من الناس وضعف الأمل وقل التفاؤل، فقد كثر المتوكلون على الملوك والأمراء والوجهاء والوزراء في قضاء حوائجهم، وكثر المتوكلون على الأطباء في شفاء مرضاهم، كما كثر المتوكلون على الموتى والأولياء في تلبية مطالبهم ورغباتهم، كما يحصل من عباد القبور في طول العالم الإسلامي وعرضه، وكثر المتوكلون على حنكتهم وذكائهم وأموالهم، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 48]، ويقول تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، بل إن الله تعالى جعل التوكل شرطًا لصحة الإيمان، فقال سبحانه: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

 

ثالثًا: النصر يأتي من حيث لا يخطر على بال:

فممَّا نتعلمه من السعي بين الصفا والمروة أنك قد تطرق أبوابًا للرزق في جهة، والله قد كتب رزقك في جهةٍ لا تخطر لك على بال؛ وهذه هاجر عليها السلام كانت تريد أن تروي عطش رضيعها فأعطاها الله بئر زمزم؛ كما أن الماء الذي جاءها نبع من تحت أقدام سيدنا إسماعيل عليه السلام ولم يأت من ناحية الصفا أو المروة، قد يأتي الفرج من جهة أخرى غير التي سعينا فيها، لأن الأمر ليس بما نريد، ولكنه مجرد سعي وأخذ بالأسباب.

 

وهكذا فالتاريخ يعلمنا أن التغيير قد يأتي من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث، فقد رأيناه في الحروب الصليبية يأتي من الموصل شمال العراق بدلًا من الشام أو فلسطين أو آسيا الصغرى، وهي الأماكن المنكوبة في القصة، ورأيناه في قصة التتار يأتي من مصر، مع أن التتار لم يدخلوا مصر أصلًا، ورأينا إصلاح أوضاع الأندلس بعد أن كاد الإسلام ينتهي فيها، يأتي على يد عبد الرحمن الداخل صقر قريش القادم من دمشق، وهكذا؛ وعلى ذلك فعند وقوع مثل هذه النكبات لا ينبغي لنا عند التحليل والتقييم أن نقصر النظرة على البلد المنكوب، بل نوسع النظر لنشمل العالم الإسلامي بكامله، وحتمًا عندها سنرى النور هنا أو هناك، وهذه هي عظمة هذا الدين (6).

 

فهم شخصية السيدة هاجر:

ويمكن إجمال عناصر تحليل شخصية أمنا العظيمة هاجر في هذه المكونات:

 

العنصر الأول: يقين قوى بالله:

إن هاجر قد جاءت من مصر بلد الماء والنماء ثم سكنت الشام بلد السمن والعسل، وها هي الآن أين؟ في واد غير ذي زرع، وغير ذي سكان، إنها تخطو خطوات مع زوجها العائد، ولم يقل لها إنها ستعود معه، تخطو خطوات، تحاول بكل خطوة أن تتعرف على المستقبل القريب والبعيد، تريد أن تستلهم ظروف معيشتها، فتسأل زوجها، وهي الولود الحبيبة إلى قلبه، ولم لا وهي التي أضفت على حياة الخليل جو الأبوة؟! سألته: آلله أمرك بهذا؟ فيرد عليها: نعم، فتقول: إذن لا يضيعنا، ويودعها زوجها، وتعود إلى ولدها تحت الشجرة الوحيدة في هذا الوادي.

 

إنه اليقين الذي يفوق الإيمان، يقين امرأة تعيش بين جبال "فاران" جبال تحيط بها صحراء الجزيرة العربية، ما هذا اليقين النادر، الذي يتخطى هموم الطعام والشراب المطلوبين على عجل، ويتخطى هموم المعيشة في الزمن الآجل، المعيشة بجميع مكوناتها من منزل، وأثاث، وعمل حجاتي يجلب الرزق اليومي، ومدخرات للزمن، وأجهزة وأدوات لا تهنأ الحياة بغيرها؟

 

إن المؤمنين بالله كثيرون، ولكن هل حينما يتجرد المؤمن من جميع الأسباب، يرتقي بإيمانه بالله إلى درجة اليقين؟

 

إننا نعول على الأسباب، وعلى الماديات كثيرًا، حتى نطمئن، وحتى نأنس في مشوار حياتنا الدنيا، أما عن أمنا هاجر فإنها من الحالات النادرة، ولكنها حالات موجودة، لقد عاش نفر من أهل الدعوة، من الرعيل الأول في زماننا، تلك الحالات من اليقين في السجون، حتى إن بعضهم عاش عشرين سنة مغيبًا عن الأهل، وعن المجتمع، ولكنه كان يعيش باليقين، إنهم أبناء بررة، اقتدوا بأمهم العظيمة هاجر، لقد كان يقينها هو "النواة" التي دارت حولها "الإلكترونات"، فتشكل كيان أمنا جميعه من "ذرات" هي اليقين بعينه، كما نفهم من مكونات الذرة، التي يتكون منها كل شيء حسب معلوماتنا.

 

شجاعة قاهرة:

الشجاعة القاهرة معناها: قهر الخوف، أو طرده، والتغلب على أسبابه، وما أكثر أسباب الخوف التي كانت تحيط بأمنا العظيمة هاجر، الخوف من المعلوم، والخوف من المجهول، فالخوف من المعلوم كلنا نعرفه، كالخوف من السباع، ومن الحشرات، والخوف من الجوع والعطش، وأما الخوف من المجهول فهو أخطر من المعلوم؛ لأن الهواجس تكبّر الأشياء الصغيرة، والمجهول دائمًا يرهب النفس، مهما كان ضئيلًا، فكم نخاف من أصوات مجهولة، وكم نخاف من تحركات أشياء من حولنا، وما أكثر الخرافات والأساطير التي تشيع الخوف في وجداننا، ونحن بين أهلنا، وفى مجتمعات الناس، وكما لعصرنا مخاوفه المجهولة، فإنه كان لعصر أمنا هاجر مخاوفه، لقد قهرت أمنا جميع تلك المخاوف بفضل يقينها القوى، وتكونت شجاعتها القاهرة، إنها الشجاعة التي تآلفت، وتجانست مع عناصر الطبيعة، العناصر الموحشة، وليست المؤنسة.

 

مخاوفنا كثيرة:

ما أكثر مخاوف الناس في زماننا، وهي مخاوف ناتجة عن ضعف الإيمان، ناهيكم عن فقدان اليقين، لقد صارت المخاوف هي أكثر مشاعر المنتسبين إلى الإسلام الآن، وسبب كثرتها أن المسلمين -عامتهم- عندهم استعداد للخوف، وعدوهم يعرف ذلك عنهم، ولذلك يخوفهم، إن المسلمين يخافون من الجوع، ولذلك يخوفهم أعداؤهم بقطع المعونة، ويخافون من الموت، ولذلك يخوفهم أعداؤهم بالحرب، وبين الجوع والموت مخاوف كثيرة، يعيشها أبناء هاجر؛ لأنهم لم يتعرفوا، ولم يفهموا مكونات وجدان أمهم، حدث ذلك حين انفصلوا عن سيرتها، وفقدوا معالم شخصيتها.

 

وعى بالواقع، وإدارة ناجحة:

كان الواقع ينحصر في الشجرة، وتحتها كان المسكن، وبئر زمزم، ومنها كان الشرب، بل كانت الحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، كانت بئر زمزم هي الثروة القومية بلغة عصرنا، فكيف تصرفت فيها أمنا؟ استأذن أهل القافلة، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء عندنا، تقصد الحق في البئر.

 

قالوا: نعم، فكان ذلك العقد هو الأول للانتفاع بماء زمزم، عقدته سيدة بالمكان بمفردها (7).

 

إنه الوعي الإداري، فأين تعلمت أمنا "هاجر" كيفية إدارة الموارد؟ ولا تزال بئر زمزم تدار بهذا العقد الأول، الذي أبرمته، فالناس الوافدون مع المقيمين يشربون من زمزم، ولكن ملكيتها لأبناء "هاجر" ما أعظم الأمهات الواعيات.

 

وعاشت أمنا تربي ولدها، وترعى ثروتها، فكانت مُهابة محبوبة، فنشأ ولدها على نهجها، وورثنا منها الحكمة جيلًا بعد جيل.

 

العنصر الرابع: همة عالية، ترعى الأمانة، وتربي الولد:

نشأ إسماعيل عليه السلام في رعاية الله، ثم تحت نظر واهتمام أمه، بهمتها العالية، وهذا درس للأمهات، خاصة ذوات الولد الوحيد، الولد الوحيد الذي لا يكاد ينجو من التدليل المفسد المعيق عن القيام بواجبات الرجولة في حدها الأدنى، فما بالنا بواجبات الرسالة في مجتمع كان هو مؤسسه وعماده؟

 

يمكننا القول: إن نجاح أمنا العظيمة هاجر في تربية ولدها إسماعيل قد تألق في موقفين عظيمين هما:

1- طاعته لأبيه في محنة الذبح {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

2- معاونته لأبيه في بناء البيت {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

 

الهمة الهمة يا بنات هاجر:

نشاهد، ونسمع في عصرنا عن نسوة يقال إنهن ذوات نشاط في المجتمعات، أو نسوة لا ينتمين إلى الإسلام في مجتمعات المسلمين، فما بواعث ذلك النشاط النسائي؟ الأمر الواقع لا يعدو أن يكون من أجل السلطة، أو المكافأة، من أجل نزوة نفسية، أو لأداء دور محدد، تلك الأدوار النسائية، وإن كانت لها منافع وقتية، إلا أنها مبتورة الجذور، مقطوعة الفروع {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26]، ومن الحكم السيارة: ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.

 

ويحق للناظر في شأن المؤتمرات النسائية التي تنعقد بين الحين والحين، ولو على مستوى من يقال إنهن الأوائل، أن يسأل هذا السؤال: ماذا قدمت تلك الجماعات النسائية بإمكاناتها الضخمة؟ هل قدمت حلولًا لمشكلات قائمة أو محتملة؟ هل تمخض مؤتمر أو عدة مؤتمرات عن شيء يحفظ في سجل التاريخ؟ مثلما قدمت أمنا العظيمة "هاجر" أو مثلما قدمت أم صلاح الدين، أو أم محمد الفاتح.

 

الأم الربانية:

تلك الملامح التي عرضت من خلالها شخصية أمنا العظيمة "هاجر" يجب أن تضعها كل أم نصب عينيها؛ لأن شخصية أمنا "هاجر" نموذج أصلى، يقاس عليه، ويقتدى به، وهي معلم بارز من معالم الربانية المؤثرة في دنيانا منذ تزوجها أبونا الخليل، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

فإلى الباحثات عن الخلود، نقدم "هاجر" التي استمدت عظمة الشخصية من الإيمان الصادق، ومن اليقين القوى، ومن الشجاعة التي تقهر جميع المخاوف، ومن الوعي بالواقع، والإدارة الناجحة للمشروع الحياتي، ومن الهمة العالية، التي ترعى الأمانة، وتربى الولد، إنها المسلمة الربانية (8).

 

في السعي بين الصفا والمروة، أنك قد تطرق أبوابًا للرزق في جهة، والله قد كتب رزقك في جهةٍ لا تخطر لك على بال.

 

علمتني قصة السيدة هاجر: أن الله في فضله ورزقه كريم، ويُعطيك أكثر مما طلبت؛ كانت تريد أن تروي عطش رضيعها، فأعطاها الله بئر زمزم؛ إنه الله.

 

علمتني قصة السيدة هاجر: أن الأرزاق ليس لها علاقة إطلاقًا ببذل الأسباب، نحن نبذل السبب لأن الله أمرنا، والله يعطينا بفضله، فقط تعلّم أن يتعلّق قلبك بالله وحده، لا بالسبب.

 

علمتني قصة السيدة هاجر: أنك إذا انقطعت عن الناس واعتزلت الأسباب، عطف الله عليك ومنحك من الأرزاق ما لا يمنحه لغيرك، خصوصًا إذا دعوت الله بإخلاص وصدق.

 

علمتني قصة السيدة هاجر: أن الله أرحم بي من أمي، انظروا إليها في وادٍ مُظلم موحش لا أنيس ولا جليس؛ ولكن نزلت رحمات الله وبركاته، لأنها طرقت باب الكريم.

 

العجيب في قصة السيدة هاجر، أن إبراهيم عليه السلام لم يدع لهم بالأمن والأمان والرزق، ولكن {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 37]، لأن الصلاة جالبة لكل الخيرات.

 

أي: اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية؛ فمن أقامها كان مقيمًا لدينه (9).

 

فهذا هو الذي من أجله أسكنهم هناك، وهذا هو الذي من أجله يحتملون الجدب والحرمان، كأن المسألة من بدايتها مسألة عبادة وإقامة للصلاة.

------------

(1) أخرجه البخاري (3184، 3185).

(2) أخرجه البخاري (3365).

(3) من مقاصد الحج (ص: 4).

(4) في ظلال القرآن (6/ 3288).

(5) أخرجه البخاري (3364).

(6) قصة الحروب الصليبية (ص: 263).

(7) أخرجه البخاري (3364).

(8) أم المسلمين هاجر- ملامح شخصية/ إسلام ويب.

(9) تيسير الكريم الرحمن (ص: 427).