إحصاءات ودلالات عن المرأة في القرآن الكريم
لقد عرض القرآن الكثير من شؤون المرأة في أكثر من عشر سور منها سورتان عهدت إحداهما بسورة النساء الكبرى وهي سورة النساء، والأخرى عهدت بسورة النساء الصغرى وهي سورة الطلاق، وعرض لهما في سورة البقرة والمائدة والنور والأحزاب والمجادلة والممتحنة والتحريم، وقد دلت هذه العناية على المكانة التي ينبغي حتى توضع فيها المرأة في نظر الإسلام، وأنها مكانة لم تحظ المرأة بها لا في شرع سماوي سابق ولا في قوانين بشرية تواضع عليها الناس فيما بينهم.
ولأن الرجل والمرأة خلقا من نفس واحدة، فقد جعل الله التقوى هي مقياس التفاضل، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
لذا فقد بشر الله تعالى المؤمنين الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض ويدعون الله، بالغفران والوقاية من النار، ويأتيهم ما وعدهم على لسان رسله بقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، وقد عقب الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله على هذه الآية بقوله: وليقف المتأمل عند هذا التعبير الإلهي {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، ليعرف كيف سما القرآن بالمرأة حتى جعلها بعضًا من الرجل، وكيف حد من طغيان الرجل فجعله بعضًا من المرأة، وليس في الإمكان ما يؤدي به معنى المساواة أوضح ولا أسهل من هذه الكلمة التي تفيض بها طبيعة الرجل والمرأة (1).
فالحياة لا تستقيم إلا بتكاتف الرجل والمرأة معًا، كل في دائرة اختصاصه، وكل يكمل بعضه بعضًا.
ويشكل حضور المرأة في القرآن الكريم أحد أهم المؤشرات على قيمتها وأهميتها في كتاب الله العزيز، وأقصد بالحضور هنا الحضور المصطلحي والمفاهيمي خاصة، حيث تحضر المرأة فيه من خلال مجموعة من الألفاظ والمصطلحات الدالة عليها، من جهة، ومن خلال نسق من المفاهيم التي ترتبط بموضوعاتها من جهة ثانية، وفضلًا عن ذلك نستطيع تمييز سور بأكملها خصصت حيزًا مهمًا منها لمعالجة قضايا المرأة.
على أن أكبر حضور للمرأة نستطيع تلمسه بالأرقام والدلالات من خلال الألفاظ الدالة على المرأة، كالنساء، والمرأة، والأنثى، والأم، والوالدة، والزوج، والأهل، والحليلة، والصاحبة، والأخت، والبنت، وذلك ما سنحاول استكشافه فيما يلي:
1- النساء؛ ورد لفظ النساء في القرآن الكريم بهذه الصيغة، وبصيغة المفرد: (امرأة)، والمثنى: (امرأتان)، والجمع: (نسوة)، خمسة وثمانين مرة، وبنظرة أولية إلى موارد هذه الألفاظ، يلاحظ: أن لفظ (نساء) يأتي ذكره في القرآن المدني أكثر، ولفظ (امرأة) يأتي في القرآن المكي أكثر.
إذ كثر استعمال الأول في سياق التشريعات الأسرية والاجتماعية، بينما غلب على الثاني استعماله في سياق القصص القرآني.
أما لفظ «نساء» فقد ورد بصيغ مختلفة: نساء، النساء، نسائك، نسائكم، نسائهم، نساء النبي، وهذه الصيغ منها ما تعلق بأحكام تشرع لعلاقة الرجل مع المرأة في أوضاع معينة، كالزنا والتعدد والقوامة.
ومنها ما ارتبط بأحكام الأسرة عمومًا، كالزواج والخطبة والطلاق والظهار والإيلاء والإرث.
ومنها ما تعلق بأحكام تشترك فيها المرأة مع سائر أفراد الأمة، كالكسب والعمل والجهاد والهجرة.
أما باقي الموارد فهي مرتبطة بقصص بعض الأنبياء، كقصة فرعون مع أتباع موسى وتذبيحه الأبناء منهم واستحيائه النساء {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4]، وقصة قوم لوط الذين كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف: 81]، وقصة مريم التي اصطفاها الله عز وجل على نساء العالمين {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42]، ثم قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد النصارى الذين حاجوه في مولد عيسى عليه السلام فدعاهم للمباهلة {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].
وأما لفظ «امرأة» فقد استعمل في أغلب موارده مضافًا إلى الرجل، سواء أذكر باسمه أو بكناية الضمير عليه، كامرأة لوط وامرأة عمران وامرأة فرعون، ولم يرد منفصلًا عن الإضافة إلا في ست مواضع.
والمرأة في كل هذه المواضع تمثل نماذج معينة من النساء مرت في التاريخ، وسيقت للاعتبار.
وأما صيغة المثنى «امرأتان» والجمع «نسوة»، فقد وردت كل واحدة منهما مرتين، ثلاث منها مرتبطة بقصص الأنبياء، وواحدة تتعلق بموضوع الشهادة في آية الدين {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].
يتبين إذن، من خلال هذه النظرة العامة: مركزية مفهوم «النساء» داخل نسق المفاهيم التشريعية المنظمة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع، كما تتبين أهمية «المرأة» كنموذجًا يسهم في بناء تصور سلوكي وعقدي سليم لدى الإنسان عمومًا، ولدى المرأة على وجه الخصوص.
2- الأنثى، ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم بصيغ الإفراد (أنثى)، والمثنى (أنثيين)، والجمع (إناث)، ثلاثين مرة أغلبها في سور مكية.
فما جاء منها في السور المكية ارتبط بمسألة الخلق: خلق الكائنات جميعًا من ذكر وأنثى بما في ذلك الإنسان، وبمسألة العمل والجزاء، والتسوية بين الذكر والأنثى فيهما {لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: 195]، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، ثم بموقف العرب قبل الإسلام من الأنثى.
أما ما جاء من اللفظ في السور المدنية -وهو قليل- فقد جاء في سياق بعض التشريعات المتعلقة بالإرث والقصاص، هذا فضلًا عن الآيات التي عالجت بعض المسائل ذات الارتباط بهذه القضايا، كعلم الله المطلق بما تحمل كل أنثى {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8]، وإرجاع تحديد جنس المولود إلى مشيئته عز وجل {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49].
والملاحظ عمومًا أن أغلب استعمالات القرآن الكريم لهذا اللفظ تنأى به عن معناه اللغوي الذي حصره في الجنس المقابل للذكر، المتميز بصفة اللين، لتربطه بعوالم أوسع.
وإذا كانت الدلالة اللغوية تركز على التقابل بين الذكر والأنثى بما يوحي بنوع من التضاد، فإن أغلب الاستعمالات القرآنية للفظ تؤكد على التوحد والتكامل بينهما، سواء على مستوى الخلق أو على مستوى العمل والجزاء.
وما سوى ذلك من تمايز وفرق فإنه يعود إلى اعتبارات تتعلق بطبيعة التكوين الخلقي.
3- الأم والوالدة، عُبر عن مفهوم الأمومة في القرآن الكريم تارة بلفظ «الأم» وهو الأكثر حيث ورد ثمانًا وعشرين مرة، وتارة بلفظ «الوالدة» وهو قليل حيث ورد خمس مرات فقط، واللافت للنظر هو أن لفظ الأم بصيغتي المفرد والجمع (أم وأمهات) لا يرد في القرآن إلا مضافًا: (أمي، أمه، أمهاتكم، أمهاتهم...).
ولأن لفظ «الأم» أعم من لفظ «الوالدة» كان الأكثر استعمالًا في القرآن الكريم حيث ذكر في سياقات مختلفة: منها قصة موسى وقصة عيسى عليهما السلام، كما ورد ذكره في حديث القرآن عن مراحل خلق الإنسان، وفي حديثه عن حمل الأم ومشقته ومدته، وذلك في سياق الحث على خلق الإحسان إلى الوالدين، ثم في حديثه عن طبيعة العلاقة بين الإنسان وأمه وسائر أفراد أسرته يوم القيامة.
كما يأتي ذكر الأم -بصيغة الجمع على الخصوص- في مواطن ذكر بعض التشريعات كذكر المحرمات من النساء في الزواج (ومنهن الأمهات، وأمهات الزوجات، والأمهات من الرضاعة...) وذكر حكم الظهار، وبيان حصة الأم من الإرث في حال وجود الابن أو عدم وجوده، ثم يأتي اللفظ في سياق تحديد صفات زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمسلمين واعتبارهن أمهات لهم بما يكفل لهن تلك الخصوصية وذلك التشريف المناسب لوضعهن {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
وبذلك يكون مفهوم «الأم» شاملًا لصفات: المرأة الحبلى، والمرضعة، والقائمة على رعاية الولد، وتلكم التي كبرت واستحقت الإحسان، {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15]، وبذلك تكون صفة الأم صفة ملازمة للمرأة من حين حملها لولدها إلى أن تصبح هي في مقام تحتاج فيه إلى الرعاية والإحسان.
4- الزوج، ورد في القرآن الكريم لفظ "الزوج" مفردًا والمثنى منه "الزوجين" والجمع "الأزواج" إحدى وثمانين مرة، وفي أكثر من نصف هذه الموارد، أي تسع وأربعين مرة، يأتي للدلالة على المرأة المتزوجة، ويأتي أحيانًا للدلالة على الرجل والمرأة معًا، وذلك بصيغة الجمع "أزواج" وقد جاء ذلك ست مرات، بينما لم يرد للدلالة على الرجل إلا ثلاث مرات.
وأود أن أشير هنا إلى أن القرآن الكريم لم يستعمل قط لفظ الزوجة المستعمل عادة للدلالة على المرأة المتزوجة؛ بل هو يستعمل لفظ "الزوج" للدلالة على المرأة والرجل معًا وهو الأفصح والأصح في اللغة {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20].
وفي مقابل هذه المعاني يأتي لفظ الزوج بصيغه المختلفة بمعنى الصنف والنوع واللون سواء تعلق الأمر بنوع الإنسان: الذكر والأنثى، أو بنوع النبات والحيوان {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
أما الصيغ الفعلية من فعل (زوّج) فقد وردت خمس مرات، وجاء فعل التزويج في جلها منسوبًا إلى الله عز وجل.
وبالتأمل في هذه الموارد جميعًا يمكن أن نستنتج أن الدلالة العامة للفظ الزوج بمختلف صيغه لا تكاد تخرج عن معنى الصنف والنوع، ثم يتفرع ذلك المعنى ليشمل: النوع الإنساني، أي المرأة والرجل، ثم النوع غير الإنساني، أي الحيوان والنبات وسائر الكائنات، وهذا يؤكد إلى حد ما ذكرناه سابقًا في مفهوم الأنثى الذي يدل على النوع المكمل للإنسان، ولذلك يأتي ذكرها في الغالب مقرونًا بالنوع المقابل لها: الذكر.
إلا أن أهم ما يميز مفهوم الزوج: هو التأكيد -من خلال هذه الصيغة على معنى الاقتران- وهو الأصل الدلالي للكلمة، ومعنى المقابلة الدالة على التكامل، حيث لا يمكن أن نذكر "الزوج" إلا ويتبادر إلى أذهاننا وجود مقابل له، ومقترن به، وأما ورود لفظ الزوج بصيغة المثنى والجمع فهو تأكيد على معنى الزوجية والثنائية {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40]، {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3]
ومما يميز لفظ الزوج أيضًا دلالته على الوحدة والمساواة بين النوعين، فالمرأة والرجل معًا يؤولان إلى جنس الإنسان، لكن المثير في هذا المعنى أنه ينطوي على تنوع داخل هذا الجنس، وهو التنوع المؤدي إلى التقابل، والمستلزم للتكامل، بحيث لا تستقيم حياة الجنسين معًا إلا بهذا التكامل، فلا يستقيم وجود زوج إلا بوجود زوجه، وهذا الأمر لا يقتصر على جنسي الإنسان فحسب، بل يشمل سائر الأنواع والمخلوقات {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].
وإذا تبين هذا، علمنا أن المرأة (الزوج) ما هي إلا جزء من الأجزاء المكوّنة للوجود الإنساني، والمتناغمة مع الوجود الكوني عامة، وهي مع ذلك جزء لا يستقيم الوجود الإنساني ولا تكتمل صورة الوجود الكوني بدونه، والظاهر أن دلالة لفظ الزوج على المرأة هي الغالبة على استعمال لفظ الزوج في القرآن، وداخل هذا المعنى العام يمكن أن نميز بين مجالات مختلفة تحدث فيها القرآن عن المرأة الزوج:
فجاء حديثه عن قضية الخلق: خلق المرأة الأولى (حواء) من آدم عليه السلام، ثم خلق المرأة (الأنثى) من نطفة الرجل.
ثم تحدث القرآن الكريم عن الزوج ضمن قصة آدم مع الشيطان، وهي من أهم القصص المحددة لطبيعة المرأة في القرآن.
وتحدث عن الأزواج، في سياق قصصي، لكل قصة منها دلالة ومغزى.
ثم جاء حديث القرآن عن المرأة (الزوج)، في موارد كثيرة ضمن سياق تشريعي، باعتبارها جزءًا من الأسرة وقسيمًا للرجل تربطها به علاقات متشابكة تؤول جميعها إلى رابطة الزوجية، ليس الزوجية الكلية العامة التي تجمع المخلوقات جميعًا؛ بل الزوجية التوافقية الناتجة عن عقد الزواج القائم على الرضا والقبول.
وكما عالج القرآن الكريم قضايا الزواج، عالج بنفس المنهج قضايا الطلاق وغيره من الحالات التي تنفك فيها عُرى رابطة الزوجية بسبب الخلاف بين الزوجين كالظهار والإيلاء واللعان.
بل وكذلك الحالات التي تنفك فيها هذه العرى بسبب الموت أو بسبب اختلاف الدين والعقيدة.
هذا إلى جانب قضايا وأحكام أخرى، فضلًا عن توجيهات عامة تعين على التمكين لعلاقة الزوجية وترسيخها على أسس سليمة.
والملاحظ أن أغلب موارد مفهوم الزوج في هذا القسم المتعلق بالتشريعات والأحكام، تتعلق بالزواج وما يضادّه من افتراق؛ سواء أكان إراديًا أو غير إرادي، كما أننا يمكن أن نميز في هذه التشريعات بين ما جاء خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، وما جاء عامًا له ولأمته.
وتجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم لا يستعمل لفظ "الزواج"، وإنما ورد فيه فعل "التزويج" (زوّجناكم- نزوّجهم- زُوّجت) من زوّج يُزوّج بمعنى قرن وجمع بين زوجين، ومصدر الفعل زوّج هو "التزويج" وهو الأصح في الدلالة على ما نقصده عادة بلفظ "الزواج"، إلا أن هذا اللفظ شاع استعماله أكثر.
ويستعمل القرآن لفظ "النكاح" للدلالة على (الزواج) فيقصد به أحيانًا الوطء {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وأحيانًا العقد {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، على خلاف بين اللغويين والمفسّرين.
ثم يأتي حديث القرآن عن الزوج في الآخرة حيث يبيّن مآلها يوم القيامة من خلال صورتين: الأولى: تكون فيها زوجًا للرجل المؤمن من أهل الجنة {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)} [يس: 55- 56]، والثانية: تكون فيها مع زوجها غير المؤمن تَصلى معه نفس العذاب {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22]، وهذا فيه إشارة إلى معنى الاقتران الذي يدل عليه لفظ الزوج في اللغة.
5- الأهل، إذا تتبعنا لفظ "الأهل" في القرآن الكريم، وجدناه كثير الورود، فهو عمومًا يرد 127 مرة، لكن ما يقرب من نصف هذه الموارد جاء اللفظ فيه مضافًا إلى غير الرجل؛ أي إلى ديانة أو بلد (أهل الكتاب وأهل الإنجيل وأهل القرية وأهل البيت).
وما يزيد على نصف هذه الموارد، أي في ثلاث وسبعين موضعًا، جاء لفظ الأهل للدلالة على الأسرة أحيانًا، وعلى المرأة خاصة أحيانًا أخرى، لكن وروده بمعنى الأسرة أكثر.
وإذا كان الغالب على لفظ الأهل أن يضاف إلى الرجل، فإننا نجده في موضع واحد يضاف إلى النساء، في قوله تعالى من سورة النساء: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، الذي جاء في سياق الحديث عن الزواج بغير الحرائر من النساء.
فدل الأهل بالنسبة للمرأة على مولاها الذي هو وليها في الزواج، وسمي مولاها (أهلًا) لها لما يجمعهما من صلة الموالاة، وإذا نظرنا في المعنى الأول الذي يأتي فيه اللفظ للدلالة على أسرة الرجل عمومًا، نجد أن القرآن الكريم يحدد سمات هذه الأسرة في عنصرين أساسيين هما: النسب والدين، أما العنصر الأول فهو ثابت لا يتغير، لأنه يشكل قوام الأسرة، ويحدد العنصر البشري المكون لها، إذا النسب هو ما يحدد لنا أفراد الأسرة من أبناء وحفدة وإخوة وأعمام... إلى أخر التشعبات والامتدادات التي تتجه صعودًا ونزولًا.
وأما العنصر الثاني وهو الدين، فهو متغير، مع أنه يشكل القوام الروحي للأسرة، وهو متغير نظرًا لخاصية الاختيار والحرية التي خص الله عز وجل بها الإنسان اتجاه الدين، فكثيرًا ما نجد أهل الرجل -أي أسرته- يجمعه وإياهم النسب، ولا يجمعه وإياهم الدين والعقيدة.
ولحكمة بالغة جعل الله عز وجل "الدين" عنصرًا متغيرًا في بناء الأسرة، قد يكون من تجلياتها: إجراء سنة التدافع التي لولاها لفسدت الأرض، ولعل في قصص بعض الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم وورد فيها لفظ "الأهل" ما يؤكد هذا الأمر، كقصة نوح مع ابنه؛ {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 45- 46].
ولهذا كان المجال الذي ورد فيه لفظ الأهل بمعنى الأسرة في القرآن الكريم، في الغالب، مجال قصص الأنبياء، ونجد هذه الآيات في السور التي ساقت هذه القصص: كسورة يوسف، وهود، والنمل والأنبياء والقصص والصافات وطه والشعراء.
6- الصاحبة، يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم أربع مرات، يدل فيها على المرأة الزوج، لكن المميز لهذه الموارد أنها استعملت في مجال عقدي، فتارة تأتي في سياق نفي المماثلة بين الله عز وجل وخلقه، حيث نفى عن نفسه اتخاذ الزوج والأولاد {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، وتارة تأتي في سياق وصف هول يوم القيامة حيث {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 36]، واستعمال لفظ الصاحبة هنا للدلالة على الزوج له ما يبرره، لأنه أكثر الألفاظ دلالة على الملازمة بين الزوجين، ولذلك كانت الصحبة أبلغ من الاجتماع، لأنها تقتضي طولًا في مدة الملازمة أكثر مما يقتضيه الاجتماع.
ولهذا استعمله القرآن الكريم للدلالة على هول يوم القيامة حيث تنفك عرى الزوجية ويذهل كل زوج عن زوجه رغم ما كان يجمعهما من ملازمة دائمة، كما استعمل القرآن هذا اللفظ بالذات لتنزيه الله عز وجل عن اتخاذ الزوج الذي يعد سمة للطبيعة الإنسانية.
7- الحليلة، جاء هذا اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة في صيغة الجمع (حلائل) للدلالة على المرأة في سياق ذكر المحرمات من النساء في الزواج {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23]، والتعبير بالحليلة يحيل على معنى الحلال، فالمرأة حلال الرجل بموجب الزوجية، وقد يحيل أيضًا على معنى الحلول، إذ المرأة تحل مع الزوج في مكان واحد.
8- البنت، ورد لفظ البنت في القرآن الكريم، تسع عشرة مرة، مرة واحدة بصيغة الإفراد ومرة واحدة بصيغة التثنية وباقي الموارد بصيغة الجمع، وبالنظر في هذه الموارد نجد اللفظ حاضرًا في مجالات ثلاثة: في مجال القصص القرآني، حيث يحضر في قصة لوط وقصة موسى، وقصة مريم عليهم السلام، وفي مجال الأحكام العقدية، حيث ذكر لفظ البنات في مقابل البنين عند حديث القرآن عن بعض العقائد الفاسدة لدى المشركين كادعاء البنات والبنين لله سبحانه، {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} ..... {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} [الصافات: 149، 153]، وادعاؤهم أن الملائكة بنات الله سبحانه {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16]، وأما في مجال الأحكام التشريعية، فقد ذكرت البنت ضمن تشريعات الزواج، حيث اعتبرت البنت من المحرمات في الزواج، والبنت بهذا المفهوم تطلق على الفرع من الرجل وإن نزل، أي على البنت وبنت البنت وهكذا، وذكرت في نفس السياق بنات الأخ، اللاتي يدخلن ضمن فروع الآباء.
وبهذا يأتي لفظ البنت ليدل على موقع للمرأة داخل الأسرة، فالبنت تمثل فروع الرجل، وفروع الآباء، وفروع الأجداد أيضًا (كبنات العمومة والخؤولة).
9- الأخت، يرد لفظ الأخت بصيغ الإفراد والتثنية والجمع، أربع عشرة مرة، ويستعمل غالبًا للدلالة على المرأة المشاركة للرجل في النسب، واستعمل في موضعين للدلالة على المشاركة في الصفة، كما في قوله عز وجل: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38]، أما باقي الموارد فجاء جزء منها في مجال تشريعي، ضمن موضوعات الإرث، والزواج، والحجاب، وآداب الاستئذان، وجاء جزء آخر في مجال القصص القرآني، ضمن قصتي مريم وموسى عليهما السلام.
تلك إذن ألفاظ دلت على المرأة في القرآن الكريم في أوضاع مختلفة: المرأة الأنثى والزوج والأم والوالدة والأخت والبنت، وهي تعكس جانبًا من الحضور المميز للمرأة في القرآن الكريم (2).
--------------
(1) الإسلام عقيدة وشريعة (ص: 224).
(2) المرأة في القرآن الكريم إحصاءات ودلالات/ الرابطة المحمدية للعلماء، بتصرف.