logo

عبادة تربية الأبناء


بتاريخ : الأحد ، 16 رجب ، 1445 الموافق 28 يناير 2024
بقلم : تيار الاصلاح
عبادة تربية الأبناء

الأولاد نعمة عظيمة، ومنة جليلة، وهبة كبيرة، من النعم التي أنعم الله بها على عباده، نعمة تستوجب الشكر والرعاية والحفظ، فالأبناء هم ثمرة الفؤاد، وعماد الظهر، وزينة الحياة الدنيا، وهم عطايا من الله الكريم؛ يمتحن بهم إيمان المرء؛ شكرًا وصبرًا، وقيامًا بواجب المسؤولية التي قلدها الله عنق كل والد؛ والأبناء هم شباب المستقبل للأمة الإسلامية، والقيام بتربيتهم وتعليمهم مهمة عظيمة في الدين، وهذه التربية واجب على كل مسلم ومسلمة يؤمنون بالله تعالى واليوم الآخر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وفي الآية الكريمة موعظة عظيمة وترهيب من عاقبة النار وجحيمها وما بها من أهوال جسام.

قال قتادة: تأمرهم بطاعة الله سبحانه وتنهاهم عن معصية الله تعالى، وأن تقوم عليهم بأمر الله سبحانه، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله تعالى معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها، وهكذا قال الضحاك ومقاتل؛ حق المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله تعالى عليهم وما نهاهم الله سبحانه عنه (1).

قال المناوي رحمه الله تعالى: لأن يؤدب الرجل ولده عندما يبلغ من السن والعقل مبلغًا يحتمل ذلك؛ بأن ينشئه على أخلاق صلحاء المؤمنين، ويصونه عن مخالطة المفسدين، ويعلمه القرآن والأدب ولسان العرب، ويسمعه السنن وأقاويل السلف، ويعلمه من أحكام الدين ما لا غنى عنه، ويهدده ثم يضربه على نحو الصلاة وغير ذلك؛ خير له من أن يتصدق بصاع؛ لأنه إذا أدبه صارت أفعاله من صدقاته الجارية، وصدقة الصاع ينقطع ثوابها، وهذا يدوم بدوام الولد والأدب غذاء النفوس وتربيتها للآخرة {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6].

فوقايتك نفسك وولدك منها أن تعظها وتزجرها بورودها النار، وتقيم أودهم بأنواع التأديب، فمن الأدب الموعظة والوعيد والتهديد والضرب والحبس والعطية والنوال والبر، فتأديب النفس الزكية الكريمة غير تأديب النفس الكريهة اللئيمة (2).

وتتميز التربية في الدين الإسلامي بأنها تربية كاملة وواقعية ومتوازنة، وهذا من شأنه أن يضفي على منهجها الشمول في جميع الجوانب، فهي تربية ربانية؛ مصدرها من الله تعالى مما يجعل المسلم يبتغي في أقواله وأفعاله رضا الله تعالى، وهي تربية كاملة وشاملة لكل ما يحتاجه الإنسان في حياته، فلم يترك الإسلام جانبًا من جوانب حياة الإنسان إلا وتناولها ووضح الخير والشر والصحيح والفاسد، وهي تربية متوازنة؛ فهي ملائمة لفطرة الإنسان، وفيها من الثوابت ما لا يمكن تبديله، وهي كذلك تربية واقعية في توجيه السلوك الأخلاقي للفرد..

وحقيقة التربية ومفهومها يعد من جنس الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، فإذا قامت على مبادئ الإسلام ومكارم الأخلاق والتحذير من الشر ومساوئ الأخلاق من أجل العبادات وأفضل القربات لقوله تعالي: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقول صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (3)، وهي في حق عموم الناس من فروض الكفايات؛ فإنها من حق الأهل والأولاد من فروض الأعيان، وهم أولى بها من غيرهم، فكل من دعا أولاده ورباهم على الإيمان وخلق الإسلام فسيناله من أجر عملهم في الآخرة من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، وفي الدنيا منهم برًا وإحسانًا.

ووعي هذه المسؤولية، واستشعار حسابها بين يدي العليم الخبير خير ما يحمل الوالد على القيام بها، وتحمل رهقها الذي فاق كل رهق، سيما في عصرِ بروز الشبهات، ورواج الشهوات، ودنو الشرور، وترهل الترف وتصدر التافهين وخفوت القدوات، وانشغال الوالد بأعباء تحصيل سبل المعيشة، خاصة إن شحت؛ مما لا يزيد رهق التربية إلا شدة وعناء.  

ومن أجل ثمرات تربية الأطفال التمتع بثواب وأجر الدلالة على الخير، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يستحمله، فلم يجد عنده ما يتحمله فدله على آخر فحمله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «إن الدال على الخير كفاعله» (4)، وعن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء» (5)، وعن أبي مسعود البدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (6).

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» (7).

ولذا من رزق التوفيق وتأمل عظيم الأجر ونبل الهدف لاستثمر آخرته في تهذيب أولاده، ولعقد العزم على مصاحبة أطفاله على البر والتقوى، فكل معروف يتم تعليمه للأبناء يكون في ميزان الآباء بفضل الله الكريم، وكل خصلة حميدة تم غرسها في الأبناء يجني ثمارها الآباء.

الولد من سعي أبيه {أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} [النجم: 39- 41]، فما يسجد سجدة، ولا يقرأ حرفًا، ولا يسبح تسبيحة، ولا يعمل معروفًا إلا وكان لك من ذلك حظًّا ونصيبًا، ومن أعظم ثمرات تربية الأبناء وصلاح الولد أن يدعو لوالديه بعد موتهما؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (8)، بل يجني ثمار تربيتهم حتى في الجنة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك» (9).

وقيل: إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع، وكذلك الأب إذا كان أرفع، وذلك قوله سبحانه وتعالى: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] (10).

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء» (11)، أصل المولود أنه على الفطرة وهي الدين، دين الإسلام: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

فإذا حافظ الوالد على فطرة ولده ونماها بالخير شب عليها، وكبر عليها واستمر عليها بإذن الله، وإذا أفسد فطرته فسدت هذه الفطرة، مثل التربة الطيبة التي تنبت الخير والإنتاج، إذا أفسدت التربة فإنها لا تنتج، الفطرة كذلك، الفطرة مهيأ للخير، قابله للإصلاح والصلاح؛ لكن إذا اعتراها ما يفسدها فإنها تفسد، والسبب في ذلك هو الوالد، فحافظوا على فطرة أولادكم ونموها في الخير، قال صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» (12)، تدرج مع الطفل من حين يميز، إذا بلغ السابع من عمره فإنَّه يؤمر بالصلاة، ويلزم من ذلك أن يعود على الوضوء والطهارة، ويعلم الصلاة وما يجب فيها وما يسن، حتى يتعود عليها، وينشأ عليها، فإذا بلغ العاشرة إما أن يكون بلغ الاحتلام، وإما أن يكون قد راهق البلوغ فحينئذ يُنتقل إلى مرحلة ثانية في التربية: «واضربوهم عليها لعشر»، فإذ تساهل في الصلاة فإنه يضرب عليها حتى يذوق الألم والعقوبة، فيحافظ على الصلاة ويستمر عليها.

هكذا أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم مع الأولاد نتدرج بهم في أسنانهم، وأمَّا ما يشاع الآن من أن تربية الولد أو ضربه وتأديبه أن هذا من العنف الأسري؛ فهذا جاءنا من أعداءنا من الغربيين المفسدين، الذين يريدون أن يفسدوا علينا زوجاتنا وأولادنا، ويسمون هذا بالعنف الأسري، وهذا هو التربية الإسلامية التي تنشأ الأجيال على الصلاح والإصلاح، والعنف الأسري هو التضييع هو تضييع الأولاد والنساء، هذا هو العنف الأسري، وأما استصلاحهم فهذا هو الصلاح والإصلاح الذي جاء به ديننا.

والقيام بمسؤولية التربية حسب الوسع، واستصحاب عظم جزائها، واستجداء الله إعانته وتوفيقه، والصبر لحكمه؛ ضمانة لتخطي عنائها بأجر موفور، وبراءة ذمة، وحسن عاقبة، وطمأنينة تملأ فؤاد الوالد، وإن فتته مرارة انحراف ولده، وأوحشه سيل الفتن الهادر.   إن مسؤولية التربية تحمل الوالد على الأخذ بالأسباب الممكنة التي تفضي بأمر الله إلى رشد الولد وصلاحه، وأساسها الذي تقوم عليه تعبده لربه بتربية ولده وتوكله عليه؛ حين فوض أمره إليه، واثقًا بإعانته وحسن تدبيره، وملازمًا أدب الصبر لحكمه، وانتظار فرجه، متبرئًا مما سوى الله؛ فإن لهذه الركيزة الراسخة أكبر الأثر في مباركة الله لأي جهد تربوي مبذول من الوالد.

عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: جاءتني امرأة، ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ابتلي من البنات بشيء، فأحسن إليهن كن له سترًا من النار» (13).

وأعظم ذلك الجهد ملازمته عتبة الدعاء المضمون إجابته بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم» (14)، قال مجاهد: دعوة الوالد لا تحجب دون الله عز وجل.  

والدعاء عدة الأنبياء والصالحين في تربيةِ أولادِهم؛ فقد دعا إبراهيمُ عليه السلامُ قائلًا: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، عن عبد الله، قال: كنا لا ندري ما نقول إذا جلسنا في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم فذكر نحوه، قال شريك: وحدثنا جامع يعني ابن أبي شداد، عن أبي وائل، عن عبد الله، بمثله، قال: وكان يعلمنا كلمات ولم يكن يعلمناهن كما يعلمنا التشهد: «اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم» (15)، وكان يُعَوِّذُ الحسن والحسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، ويقول: «إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة» (16).  

شكا أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] (17).  

وكان للفضيل بن عياض ابن اسمه علي، وكان يدعو له قائلًا: اللهم إني اجتهدت أن أؤدب عليًّا، فلم أقدر على تأديبه؛ فأدبه أنت لي (18)، فاستجاب الله دعاءه، وأصلح ابنه، ومات عليّ باكيًا وهو يستمع القرآن (19).

وتجسد القدوة في استقامة الوالد من أعظم ما يجله في عين ولده، ويدفعه نحوه، ويدنيه منه، ويعود بالأثر الحسن عليه، كما كان عباد الرحمن يجأرون إلى الله بإبلاغهم نزل الاقتداء الرفيع، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].  

وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق، شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله؛ وفي أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال (20).

وينبغي اغتنام سني الولد الأولى من عمرِه -إذ العود لين طيع، سيما زمن الفتن واضطراب المفاهيم- في زرع العقيدة الصحيحة، والأخلاق الحسنة، والقيم الحقة من ضرورة الاعتصام بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، والتحلي بخلق الصبر والعفة والشجاعة والعدل؛ إذ هي أصول الأخلاق التي يتفرع منها غيرها -كما قال ابن القيم-، والتذكير بقوة الحق وبقائه وإن قل أهله، وضعف الباطل وزواله وإن كثر أهله، من ألزم ما يلزم تعاهده في نفوس الناشئة؛ إذ هو أساس راسخ يشاد عليه البناء التربوي، وغالبًا ما يعود إليه الولد وإن انحرف زمنًا؛ وبه يعلم فدح جناية الوالد على صغيره إن أهمله بداية عمره، وتركه صيدًا مهملًا لفتن الأجهزة الالكترونية وأيدي المفسدين والعابثين والتافهين، ثم عاد يشكو فساده وعقوقه بعدما كبر!  

واستغلال الوالد مجريات الحياة وأحداثها في تربية ولده، وتخوله بالموعظة الحسنة، وإحسان اختيار زمنها، وتقصير وقتها، والاكتفاء بالإشارة إن أغنت عن العبارة، وجودة ضرب المثل لتقريب المعنى بالأمر المحسوس، والتدليل عليه بالدليل المقنع، والتذكير بضرورة الاعتراف بالخطأ، ودوام تجديد التوبة، وكثرة الاستغفار- كل ذلك مما يسهم في توعية الولد، وبناء جوانب الخير فيه، وحفظها، وترميم ما تصدع منها.  

وحتى تؤتي التربية ثمارها؛ فإنه لا بد للوالد من بناء علاقة متميزة مع أهل بيته؛ وذلك بأن يكون قريبًا منهم؛ ليفتحوا له قلوبهم، ويبثوا له همومهم وما يعانونه في حياتهم؛ لئلا يلجؤوا في بثها لمن لا تؤمن غائلته؛ فيندم ولات حين مندم.  

وسبيل ذلك القرب أن يلازم الوالد خصلة الرفق واللطف مع أهل بيته؛ فتلك أمارة لإرادة الله الخير لأهل بيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، ارفقي؛ فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيرًا دلهم على باب الرفق» (21).  

ومما يقضيه خلق الرفق أن تكون للوالد عادة في إهداء ما يحسن وإن قل، وأن يتباسط في حديثه مع أهلِ بيته، ويمازحهم، ويشاركهم لهوهم المباح واهتماماتهم وإن بدت هامشية، ويستشيرهم مظهرًا احترامه لرأيهم، وإعجابه لصوابهم، دون مصادمة، أو تسفيه، أو رفع صوت، وإن أخطأ بادر بالاعتذار، وإن أخطأوا عليه بادر بالصفح إن اعتذروا، وأن يلازم الصبر في احتمال نفارهم وزلاتهم، وأن يجعل لهم وقتًا كافيًا في الجلوس الإيجابي معهم دون انشغال بجهاز أو إظهار للتبرم والملل؛ متحدثًا إليهم، ومحسنًا الإنصات لهم.  

وليس من بابة الرفق ترك تعوديهم المسؤولية، وإغداق العطاء بما يصل إلى الترف؛ بل ذاك سبب لفساد الخلق وضعف الشخصية؛ قال زيد بن علي لابنه: يا بني، إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحَذَّرنيك، واعلمْ أنَّ خير الآباء للأبناء من لم يدعه الحب إلى التفريط، وخير الأبناء للآباء من لم يدعه التقصير إلى العقوق (22).  

وبعد -معشر الآباء والأمهات- استعينوا بالله في عبادة التربية، وأدمنوا الدعاء لفلذات الأكباد، واصبروا على مرارة الجهد وبطء النتيجة أو خفوتها، وكونوا قدوات خير لهم، باذلين وسعكم في استصلاحهم وكسب قلوبهم، وثقوا بأن الله لن يضيع جهدكم؛ إذ لا جزاء للإحسان عنده إلا الإحسان (23).

----------

(1) تفسير ابن كثير (8/ 167).

(2) فيض القدير (5/ 257).

(3) أخرجه البخاري (3009)، ومسلم (2406).

(4) أخرجه الترمذي (2670).

(5) أخرجه مسلم (1017).

(6) أخرجه مسلم (1677).

(7) أخرجه مسلم (2674).

(8) أخرجه مسلم (1631).

(9) أخرجه أحمد (10610).

(10) فيض القدير (2/ 339).

(11) أخرجه البخاري (1385).

(12) أخرجه أبو داود (495).

(13) أخرجه مسلم (2629).

(14) أخرجه أبو داود (1536).

(15) أخرجه أبو داود (969).

(16) أخرجه البخاري (3371).

(17) تفسير القرطبي (16/ 195).

(18) حلية الأولياء (8/ 299).

(19) سير أعلام النبلاء (7/ 408).

(20) في ظلال القرآن (5/ 2581).

(21) أخرجه أحمد (24734).

(22) العقد الفريد (2/ 274).

(23) ومضات في تربية الأولاد/ طريق الإسلام.