ادع له لا عليه
لا شك أن كل إنسان عليه قدر من المسئولية يجب عليه الوفاء به، وهذه المسئولية كلما اهتم الإنسان بها وحاول رعايتها كما ينبغي، كلما شعر بقدرها وقيمتها، فهناك من هو مسئول عن رعاية وحماية منشأة من المنشآت، وهناك من هو مسئول عن حماية بلد بأكملها وحفظ مقدراتها، وهناك من هو مسئول عن بناء مشروع لخدمة سكان بلد ما، وهناك من هو مسئول عن بناء وتشييد نفس بشرية، جعلها المولى عز وجل بين يديه أمانة؛ كي يربيها وينشئها النشأة الصحيحة، ويعاملها معاملة طيبة.
تلك النفس هي "الولد"، ذكرًا كان أو أنثى، تلك النعمة التي مَنّ الله عز وجل بها على الوالدين، وهي أيضًا مسئولية ملقاة على عاتقهما، يجب عليهما الحفاظ عليها، ومحاولة رعايتها بكل ما يستطيعان من قوة، فعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»(1).
وحتى يستطيع الوالدان الوصول إلى البُغْية التي يريدانها من تربية الأبناء تربية صحيحة، لا بد أن يستعينا على ذلك بالدعاء للأبناء بالسداد والنجاح والتوفيق والفلاح، فمهما بلغ الأب أو الأم وسعيا في تربية الأبناء فلا بد من وجود التقصير؛ لأنه طبيعة النفس البشرية، فكان لا بد من الاستعانة بالدعاء للأبناء، فضلًا عن أن دعاء الوالدين مستجاب عند الله تعالى، ثم إن الدعاء للأبناء يُزيد في قلب الوالدين العاطفة والرحمة والرأفة بالأبناء، فتجدهما يتضرعان إلى الله تعالى، ويبتهلان إليه ويسألانه إصلاح الأبناء وصلاح مستقبلهم.
ولقد كان هذا دأب أنبياء الله عليهم السلام، فهذا نبي الله نوح عليه السلام، رغم أنه يعلم ما فعل ابنه من عصيان لأوامره، وتنكب عن طريق الحق، إلا أنه كان يدعو لابنه عسى الله أن يرحمه، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)} [هود:45].
رغم أن الابن عصى أمر أباه وأمر ربه، إلا أن نبي الله نوحًا عليه السلام كان طامعًا في رحمة الله ومغفرته؛ ذلك لأنه عليه السلام يعلم منزلة الدعاء، واللجوء إلى الله، والتضرع إليه، والابتهال إليه لأجل الأبناء، فدعاء الوالدين للأبناء مستجاب عند الله تعالى.
وهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام يدعو الله عز وجل أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم:35]، ثم يدعو المولى عز وجل أن يصلح أبناءه، ويجعلهم من المقيمين للصلاة، قال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)} [إبراهيم:40].
وهذا نبي الله زكريا عليه السلام يدعو ربه طالبًا منه الذرية الطيبة، قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)} [آل عمران:38].
ولقد جعل المولى عز وجل من صفات عباد الرحمن أنهم يدعونه أن يهب لهم من أزواجهم وذرياتهم قرة أعين؛ أي: أن يجعلهم يقرون أعينهم بصلاح أبنائهم وزوجاتهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان:74].
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس في الدعاء للأبناء، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعت له وضوءًا، قال: «من وضع هذا؟»، فأخبر فقال: «اللهم فقهه في الدين»(2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وقال: «اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب»(3).
هكذا ينبغي أن يكون الآباء والأمهات في تعاملهم مع أبنائهم، يدعون لهم بالصلاح والاستقامة والمحافظة على الصلاة، وغير ذلك من أعمال البر، وليحذروا كل الحذر من الدعاء عليهم بالشر، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الآباء والأمهات أن يدعوا على أبنائهم، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءٌ فيستجيب لكم»(4).
أيها الآباء والأمهات، لا تكونوا سببًا في إفساد أبنائكم؛ بسبب دعائكم عليهم، فقد جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك إن كان قد دعا عليه؟ فأجاب الرجل بأنه قد دعا عليه، فقال له عبد الله بن المبارك: أنت أفسدته(5).
فلا بد للآباء والأمهات من الاقتداء بهدي الأنبياء، وهدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الدعاء للأبناء؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للأبناء وهم ما زالوا نطفًا، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي، فخرج أبو طلحة، فقُبِض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟، قالت أم سليم: هو أسكن ما كان، فقربت إليه العشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: «أَعْرَسْتم الليلة؟» قال: نعم، قال: «اللهم بارك لهما» فولدت غلامًا، قال لي أبو طلحة: احفظه حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وأرسلت معه بتمرات، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أمعه شيء؟» قالوا: نعم، تمرات، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها، ثم أخذ من فيه، فجعلها في فيِّ الصبي وحنكه به، وسماه عبد الله(6).
وفي رواية الطبراني: فلقد رأيت لها بعد ذلك في المسجد سبعة، كلهم قد قرءوا القرآن.
أيها الآباء والأمهات، إن الأبناء أمانة ومسئولية بين أيديكم، فأدوا الذي عليكم، وسلوا الله أن يعينكم، واستعينوا على تلك المسئولية بالدعاء للأبناء، ولا تضيعوا تلك المسئولية والأمانة بالدعاء على الأبناء.
ــــــــــــ
(1) صحيح مسلم (1829).
(2) صحيح البخاري (143).
(3) صحيح البخاري (3756).
(4) صحيح مسلم (3009).
(5) إحياء علوم الدين، للغزالي (2/217).
(6) رواه البخاري (5470)، ومسلم (2144).