عاطفة الأبوة
الأبوة بمعناها الحقيقي ليست مجرد انتماء يدون في شهادات الميلاد أو القيد العائلي؛ وإنما هي أمانة ومسئولية كبيرة، يوجزها الحديث الشريف: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ...»(1).
وليس في علاقات الناس رابطة أقوى وأرسخ من رابطة الأبوة والبنوة؛ ومع بداهة التسليم بقوة هذه الرابطة ورسوخها وانفرادها بالسمو والحنو، بين جميع العلاقات الإنسانية، فهي محتاجة أبدًا إلى التذكير بحقوقها والتحذير من عقوقها.
فلا يصح بحال من الأحوال تجاوز الأب أو تخطيه أو إلغاء أبوته ومقامه؛ لذا منع الإسلام التبني، حتى لو كان المتبني بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا توضيح لمقام الأبوة ومكانتها، ويتضح هذا من آيات سورة الأحزاب، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ} [الأحزاب:5].
كذلك فإن الأبوة نعمة من نعم الله، وسبب من أسباب السعادة، وفي القرآن الكريم صور حية مشرقة، مبثوثة في عديد من سوره، تتحدث عن الأبوة الحانية اللاهفة، ويصور القرآن الكريم في قصة سيدنا نوح عليه السلام أروع موقف من مواقف الأبوة اللاهفة على البنوة العاقة، فعندما امتنع الابن عن الإيمان برسالة أبيه، ورفض الركوب معه في سفينة النجاة، ناداه في تعطف وتلهف: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ (43)} [هود:42-43].
وعندها توجه نوح عليه السلام بقلبه الحنون، وطرفه الهتون إلى السماء، وتضرع إلى ربه في لهفة الأب الثاكل، طامعًا في إنجائه سبحانه لابنه من الموت: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:45-46](2).
وعندما علا الموج واشتد الطوفان لا يزال يعطف على ولده ويرحمه ويترفق به؛ عله أن ينجو معه، فنادى على ابنه خشية الغرق، {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42]، ورغم ذلك، مع عناد ولده له، تأخذه العاطفة الأبوية إلى طريق آخر لعله أنجع في إنقاذ ابنه وفلذة كبدة، يلجأ إلى الله تعالى، {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45].
ومع أنه كان من المخالفين له، الخارجين على طاعته، المكذبين له، الكافرين بالله، ولكنها عاطفة الأبوة المتأججة، التي لا يطفئ وقدتها ما يكون من الأبناء من عقوق، وما يكون فيهم من انحراف واعوجاج، وإن الابن ليكون على حال من السوء والسفه، حتى ليلفظه المجتمع كله، ولكن عاطفة واحدة تظل ملتحمة به، متسعة لقبوله على ما هو عليه، أيًا كان هذا الذي هو عليه من سوء وسفه، تلك هي عاطفة الأبوة الممثلة في الأبوين معًا، الأب والأم.
فقد كان نوح يعلم أن من أهله من حق عليه القول بأنه من المغرقين، ولكن عاطفة الأبوة قد حجبت عنه رؤية ابنه أن يكون في هؤلاء الغرقى، ولهذا ظل ممسكًا به إلى أن حال بينهما الموج فكان من المغرقين.
ومع أن نوحًا على يقين بأن ابنه قد هلك، ولا سبيل إلى أن يلقاه حيًا في هذه الدنيا، فإن ما به من لذعة الألم، وحرقة الأسى، قد حمله على أن يشكو إلى ربه هذا الذي يجده؛ ليسمع من ربه كلمة يبرد بها صدره، ويطفئ لهيب النار المشتعلة فيه.
وقد عاد الله سبحانه وتعالى على نوح بفضله، فناجاه وواساه، ووقف به على الحد الذي يجب أن يلتزمه نوح مع أمر ربه وعلمه وحكمته.
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46].
وفى قوله تعالى: {يَا نُوحُ} عزاء جميل، ومواساة كريمة من رب كريم، إذ ناداه الحق جل وعلا باسمه، كما يدعو الحبيب حبيبه، ويناجي الخليل خليله: {يَا نُوحُ}، وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} إشارة إلى أن هذا الابن ليس من أهل نوح الذين ينسبون إليه نسبة ولاء وطاعة، إن أهله هم المؤمنون به.
ولهذا كشف الله سبحانه وتعالى لنوح عن السبب الذي من أجله لم يكن ابنه من أهله، فقال سبحانه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}؛ أي إنه عمل من غير الأعمال الصالحة، التي يتقبلها الله، وما كان لنوح أن يمسك بين يديه عملًا غير صالح.
وسمى الابن «عملًا» لأنه غرس من غرس أبيه، وثمرة من زرعه(3).
ويذكر القرآن الكريم حرص إبراهيم عليه السلام على أن ترثه ذريته في نبوته وإمامته: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
وفي موضع آخر يذكر القرآن وصية إبراهيم لبنيه بالإسلام، يحيون فيه ويموتون عليه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وفي فصل آخر من قصة إبراهيم عليه السلام يذكر القرآن دعاءه لصلاح ذريته ومحافظتها على إقامة الصلاة: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40].
وكان الدعاء بالذرية من إبراهيم عليه السلام دعاءً مخصصًا أن تكون ذرية صالحة، وهكذا يجب أن يكون حال كل مسلم يدعو الله عز وجل بالذرية، فعليه أن يقرنها بأن تكون صالحة، فكم من آباء تمنوا أنهم ما رزقوا بالأبناء من سوء أخلاقهم، فمن أجل الإصلاح والإعمار تطلب الذرية الصالحة، والله سبحانه مجيب الدعاء، يستجيب دعاء الداعي إذا دعاه {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101].
قال صاحب الكشاف في البشرى: «إن البشارة انطوت على ثلاثة: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليمًا»، فهذا إبراهيم عليه السلام يرزق بالغلام الحليم، فيا لها من فرحة وسعادة، بشرى بغلام متصف بصفات يحبها الأب، إنها نعمة عظيمة من الله، وتزداد فرحة الوالد بولده حينما يشتد عوده، ويبلغ السعي مع والده ويشاركه؛ فتزداد فرحة إبراهيم عليه السلام بغلامه الحليم، حقًا لقد تحققت الفرحة وزادت السعادة بإسماعيل.
والآباء عادة ما يحبون أن يفدوا أولادهم من المصائب؛ فهم فلذات الأكباد وفرحة الروح والفؤاد.
ومع الفرحة العارمة بمجيء إسماعيل، واكتمال السعادة ببلوغ إسماعيل السعي يأتي الاختبار العظيم؛ اختبار العاطفة واختبار الطاعة والاستسلام برؤيا إبراهيم بذبح إسماعيل، فكان التسليم لأمر الله ولو كان تلميحًا وليس تصريحًا، كانت استجابة من شيخ كبير رزق بغلام حليم في غربة عن الأوطان، فلم يشأ إبراهيم أن يباغت إسماعيل بتحقيق أمر الله دون مشاركة من الابن الصالح؛ {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وعند التسليم والاستسلام من الأب المحب لابنه، والطاعة من الابن الصالح ظهرت نتيجة الاختبار؛ فجاء النداء لإبراهيم وإسماعيل بالفداء العظيم لعظمة الاختبار والنتيجة، فهي رحمة الله بعباده، فماذا يسفر الذبح والدم بعد الطاعة والاستسلام دون تهاون أو تأخير أو تضجر، ومع رحمة الأب بابنه وعاطفته العارمة إلا أن هذه العاطفة والرحمة هي أقل من رحمة الله بعباده، فهو الرحمن الرحيم، رحمن الدنيا والآخرة، فكان من عظيم نعم الله علينا أن جعل رحمته مائة ضعف من رحمة الآباء، ومهما كانت رحمة الأب بابنه فرحمة الله أعظم، ومهما كان لطف الآباء بأبنائهم فلطف الله أكبر: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} [الصافات:107-111].
وامتن الله على إبراهيم لا بإسماعيل فقط بل بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب أيضًا، وفوق ذلك قال: {كُلًا هَدَيْنَا} [الأنعام:84]؛ أي أنهما كانا من أهل الهداية.
وفي سورة يوسف يصور القرآن لهفة يعقوب عليه السلام على ابنه الأثير عنده (يوسف الصديق) عندما تآمر عليه إخوته لأبيه فألقوه في غيابة الجب، ثم بيع بثمن بخس دراهم معدودة إلى عزيز مصر! وزعموا أن الذئب أكله تيئيسًا لأبيهم من لقياه، فقد ظل أبوه نحوه في ذكر دائم وشوق لازم {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84].
وكان جميل الصبر، لا ييأس من روح الله أن يعيد إليه يوسف وأخاه الذي افتقده بعده: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وما فتئ يدعو ويتمنى: {عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83].
وعن لهفة الأبوة إلى الأبناء يصور لنا القرآن العظيم شوق زكريا عليه السلام إلى الولد: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم:3-6].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خير قدوة في رحمته وعطفه وملاطفته الصغار وملاعبتهم والتبسط معهم والتحبب إليهم وعدم العبوس في وجوههم، فعن يعلى بن مرة: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعينا إلى طعام، فإذا حسين يفر ههنا وههنا، ويضاحكه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى في فأس رأسه فقبله»(4).
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه»(5).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده أعلمكم»(6)؛ أي: في العطف والشفقة وتعليم ما لا بد للولد منه وبه تمام التربية.
والرعاية المقصودة هنا لا تقتصر ولا يمكن اختزالها في الحب والعطف والحنان، وإنما هناك مسئوليات أخلاقية وتربوية واجتماعية ومادية لا يمكن أن نفصل عراها، أو نركز على أهمية جانب على حساب جانب.
عاطفة الأبوة والأمومة سلاح فعال قلما ينتبه إليه الآباء والأمهات، ومن انتبه إليه قد لا يحسن استعماله، فأكثر الأمهات خاصة يمنحن العواطف لأولادهن بغير حساب؛ مما يجنح بهم نحو الشطط وعدم البر، كما أن كثيرًا من الآباء من يضمر عاطفة الأبوة في علاقته بأولاده، وكأنها مفقودة من شخصيته واعتباره؛ مما يورث الجفاء والقطيعة النفسية بينهم وبين أولادهم، مع أن العاطفة السوية المتزنة للأبوة والأمومة نعمة من الله؛ ليتمكن الوالدان من القيام بمسئولية الرعاية على خير وجه، وهذا ما يتطلب أن تكون بأحسن أحوالها، وتوضع مواضعها سلبًا أو إيجابًا.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يعامل أولاده وأحفاده بحنان كبير، ولم يكن ينسى وهو يعطي كل هذا الحنان أن يوجه أنظارهم إلى الآخرة وإلى معالي الأمور، كان يضمهم لصدره ويبتسم لهم ويداعبهم، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن يغض طرفه عن أي إهمال لهم حول شئون الآخرة، وكان في هذا الأمر واضحًا جدًا وصريحًا جدًا، ووقورًا ومهيبًا وجادًا فيما يتعلق بصيانة العلاقة بينه وبين خالقه.
وجانب الأبوة في شخصية رسول الله جانب عظيم، كيف لا وهو المثل الأعلى والأسوة الحسنة للعالمين، فكيف كان يتعامل مع بناته، ومع أسباطه (أبناء بناته)، لقد كان صلى الله عليه وسلم يفضي أحيانًا لبناته بسره فيخصهن دون غيرهن ببعض أسراره، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مرحبًا بابنتي)، ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثًا فبكت، فقلت لها: (لم تبكين؟)، ثم أسر إليها حديثًا فضحكت، فقلت: (ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن)، فسألتها عما قال: فقالت: (ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم»(7).
ومن شدة عاطفة أبوته صلى الله عليه وسلم تجاه ابنته فاطمة رضي الله عنها رفض أن يتزوج عليها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فعندما رغب علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرة في الزواج من بنت أبي جهل، صحيح أن هذه المرأة كانت قد دخلت الإسلام مثل أخيها عكرمة فالتحقت بقافلة النور، ولكن هذا الزواج كان من الممكن أن يضايق فاطمة رضي الله عنها، ويجوز أن عليًا رضي الله عنه لم يخطر على باله قط أن فاطمة يمكن أن تستاء من مثل هذا الزواج، ولكن عندما أتت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره بالأمر وتظهر حزنها، حتى همه أمرها، صعد المنبر وقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»(8).
أما تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أسباطه (أولاد بناته) فكان يحملهم أحيانًا؛ إما لانشغال بناته بمرض أو بغيره، أو إظهارًا لمحبتهم، أو لغير ذلك، فعن أبي قتادة الأنصاري قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص [وهي ابنة زينب رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم] على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها»(9).
ومن شدة محبته لأسباطه ربما قطع الأمر المهم لأجلهم؛ فعن بريدة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: (صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)»(10).
كان صلى الله عليه وسلم إذا زارته البضعة النبوية قام إليها يتلقاها ورحب بها قائلًا: «مرحبًا بابنتي»، ثم أخذ بيدها وقبلها، وأجلسها في مكانه الذي كان جالسًا فيه مبالغة في الحفاوة والمحبة والإكرام، وإذا زارها هو قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده وقبلته وأجلسته مكانها، في صورة غاية في الأدب والاحترام المتبادل، وعلى أجمل ما تكون حفاوة الولد بالوالد.
كان هذا الحب الأبوي الدافق من رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة يلتقي بحب الابنة البارة التي تتذوق حبه وتبادله إياه محبة واحتفاءً وبرًا.
ولم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا يسيرًا حتى توفي ولحق بالرفيق الأعلى، فقالت لها عائشة: «عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني»، فاستجابت فاطمة حينئذ لأن السر قد صار علنًا، والخبر صار عيانًا، ولم يعد ثمة سر يفشى، وقالت: «أما الآن فنعم، أما حين سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل سنة مرة؛ وأنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، وأني مقبوض في وجعي هذا، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك، فبكيت بكائي الذي رأيت، ثم سارني أنني أول أهل بيته لحوقًا به، وقال: (ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة) فضحكت لذلك».
واستبان حينئذ لعائشة أن بكاء فاطمة وضحكها، وحفظها للسر يوم حفظته، وإخبارها يوم أخبرت به كل ذلك دلالات أخر على فقهها ووفور عقلها، وكمال فضلها وشرفها، فصلوات الله وسلامه وبركاته على سيدة نساء العالمين، البضعة النبوية والجهة المصطفوية، وها هنا وقفات منيرة:
1- نرى هذا التدفق العاطفي، والإعلان بالحب الأبوي، وجمال التعبير عنه بالزيارات المتبادلة، والقبلة الحانية، والكلمة الجميلة المعبرة، والترحيب الحفي، والتلذذ بذكر الأبوة «مرحبًا بابنتي».
إن التعبير عن عاطفة الأبوة بهذه الكثافة والوضوح والتنوع يجعل علاقة الأبوة والبنوة في غاية القوة والعافية والجمال، ويدل على صحة نفسية عالية، واستواء في المشاعر، وارتواء للعواطف.
إن في نفوس الآباء عاطفة أبوة فطرية، ولكن يقع التقصير أو الفشل في التعبير عنها، وجعل الأبناء يتذوقون نشوتها ويعيشون دفئها.
فالتعبير عن الحب وتلبية الحاجات النفسية ليس أدنى من أداء واجبات الأبوة الأخرى ومسئولياتها، وحين يتم ذلك فإنه أكبر عون للأبناء على بر الآباء، والإحساس بعظيم حقهم.
2- هناك معنى آخر يصاحب الحب وقوة العاطفة في أبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو الاحترام والاحتفاء بابنته فاطمة، يظهر ذلك في قيامه لها وتلقيها وأخذه بيدها وإجلاسها مكانه، وإظهار هذا كله أمام أزواجه كلهن.
إن الذي يحترم ابنته هذا الاحترام هو الذي عاش في بيئة تزدري المرأة، بحيث يراوح مصيرها بين الوأد الحسي أو المعنوي؛ {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، ولكن هذا النبي العظيم لم يكن يستمد رؤيته من منظور اجتماعي؛ ولكنه يتلقى الوحي من الله لإقامة البشرية على الطريقة السوية والصراط المستقيم، فإذا أبوته درس للبشرية، يعلمها أن الأولاد بحاجة إلى الاحترام لبناء شخصياتهم، كما هم بحاجة إلى العاطفة لإشباع مشاعرهم، وبناء نفسياتهم؛ لتصنع ثم شخصية سوية متكاملة.
3- نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضى إلى فاطمة بسر خاص لم يفض به إلى أبي بكر ولا عمر ولا ابن عمه علي ولا زوجاته أمهات المؤمنين، وهو سر يعنيه ويعنيها بالدرجة الأولى.
إن من معاني الأبوة الحقيقية إشعار الأبناء بالأهمية باطلاعهم على هموم الآباء وقضاياهم؛ مما يشعرهم بالقرب والمسئولية، ويبني في نفوسهم الثقة والمشاركة، كما أن كتمان الأب لقضاياه وهمومه عن أبنائه يشعرهم بالإقصاء والتهميش.
إن هذا الإفضاء إلى فاطمة بهذا السر هو إحدى صور العلاقة الوثيقة الجميلة والرائعة بين الأب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنته فاطمة كرم الله وجهها.
4- الأبناء يكبرون ويكبر حبهم معهم، وليسوا لعبًا يلهى بهم صغارًا ويهملون كبارًا.
فهذا التعامل من النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه من رقة وعاطفة وحنان، وحب أبوي غامر كان لفاطمة وهي في الخامسة والعشرين من عمرها زوجة وأم لخمسة أولاد.
إننا نغفل أحيانًا عن التعبير الواضح بمشاعر الحب الأبوي لأبنائنا وبناتنا الكبار، ويشغلنا عن ذلك ترقب مراسم التوقير والاحترام منهم، فهل يذكرنا ذلك هذا الدرس النبوي الأبوي.
5- ظهر أثر اختصاص فاطمة بهذا الخبر بتهيئتها للمصاب العظيم الذي ستكون أشد الناس فاجعة به، فالمصاب هو في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الأب العظيم الكريم الحفي المحب، ويا لله لفاطمة وهي تنظر بعينيها إلى محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينعي إليها نفسه، ويخبرها أنه ميت في مرضه ذلك، وتعلم وهي تنظر إلى صفحة وجهه المبارك أن هذا آخر العهد به في الدنيا.
لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الذي يخبرها بذلك في حياته ويهيئها لاحتمال المصاب ومواجهة الحدث، فلما توفي صلى الله عليه وسلم كانت فاطمة على الحال الحسنة من الثبات والصبر والاحتساب، فقد كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والموت يتغشاه وهي تقول: «واكرب أبتاه»، فيغالب النبي سكراته وكربه ليقول لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم»، فلما مات قالت: «يا أبتاه، أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه»، ولما دفن ما زادت على أن قالت: «أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب»(11)، ولقد علمت رضي الله عنها أنها ما طابت ولن تطيب لولا أن هذه سنته التي دل عليها أمته، فصلوات الله وسلامه وبركاته على أهل ذلك البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا(12).
سمات الأب المثالي:
أول ما يجب أن يتصف به الأب هو صفة العدل، فالعدل بين الأبناء سيمنع مشكلات كثيرة أن تكون بين الإخوة وبعضهم البعض، وستغلق الباب أمام التفرقة البغيضة التي هي السبب في المشكلات النفسية السائدة في أسرنا الآن.
وكذلك على الأب أن يتصف بالحب والرحمة، فهما من دعائم وأساسات التربية، فالطفل مهما صغر سنه يدرك ماذا تعني البسمة الحانية من أبيه له، ويفرح ويسعد بها؛ بل ويتربى بها، فهو يدرك إذا كان ما يقوم به من سلوك صواب أو خطأ من رد فعل أبيه، فإذا ابتسم واحتضنه عرف أنه على صواب، أما إذا غضب علم أن ما يفعله خطأ، ويحتاج إلى تصحيح.
وأيضًا على الأب أن يخالط أولاده ويتعامل معهم على أنهم على قدر المسئولية، فالأطفال بعد سن الثمانية يميلون لمجالسة الكبار والتكلم والتحدث معهم، لاكتساب خبرات؛ لذا على الأب ألا يمنعه من الجلوس بحجة أن هذه الجلسة جلسة كبار، فإن لم يتعلم من الكبار ومجالستهم فممن سيتعلم؟
ويقال إن الابن يفطم من أمه بعد حولين، ويفطم من الأب عند موته، أي الأب، فالأب هو عماد وظهر الابن في تلك الحياة، فهو ليس مجرد مُربٍّ؛ بل هو ربان سفينة حياة أبنائه، يتحول من شخص عادي إلى قدوة في كافة مناحي الحياة، فإما أن يكون جديرًا بذلك الدور وإلا فالخسارة فادحة.
ولا تنسَ الدعاء واللجوء إلى الله والتضرع له لإصلاح أولادك واستقامتهم على الجادة والصواب، وليكن قدوتك في هذا الأمر الأنبياء والصالحين، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران:38]، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15](13).
***
_________________
(1) أخرجه ابن حيان (4491).
(2) الأبوة والأمومة في القرآن، رابطة العلماء السوريين.
(3) التفسير القرآني للقرآن (6/ 1146-1147).
(4) أخرجه ابن ماجه (144).
(5) أخرجه البخاري (707).
(6) أخرجه ابن ماجه (313).
(7) أخرجه البخاري (3623).
(8) أخرجه مسلم (2449).
(9) أخرجه مسلم (543).
(10) أخرجه الترمذي (3774).
(11) أخرجه البخاري (4462).
(12) عاطفة الأبوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، موقع: طريق الإسلام.
(13) الأب الحاضر الغائب، موقع: المسلم.