logo

اصبري، فهذا قضاء وقدر


بتاريخ : الخميس ، 30 محرّم ، 1437 الموافق 12 نوفمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
اصبري، فهذا قضاء وقدر

كانت متميزة في دراستها، متفوقة في حياتها العملية، ذات همة عالية في مساعدة والدتها، تمتلك مهارات كثيرة في ترتيب المنزل وإعداد الطعام، حتى إن والدتها لتتباهى بها في كل محفل وعند كل وليمة، اتسمت من بداية شبابها

بسداد الرأي وقوة الحجة، فكان كل من في البيت يحرص دائمًا على أخذ مشورتها ورأيها الشخصي في مجريات الأحداث.

حتى إن والدها يحرص دائمًا على جلبها في صفه إذا نشب بينه وبين والدتها أي شجار، ولا يصعد المشكلة إذا تحاملت عليه ولامته على صنيعه، فكان يقدرها ويحترم مشاعرها، فهي ابنته ومصدر فخره واعتزازه.

ثم ارتفعت منزلتها بين أسرتها وعائلتها بعد ذلك، حين نجحت في الثانوية ودخلت كلية من كليات القمة، التي عجزت قامات كثير من شباب وفتيات العائلة عن الالتحاق بها.

كانت تشعر أن الدنيا كلها ملكها، وأنها تعيش في هذه الدنيا ملكة متوجة على عرش، تنتظر ذلك الأمير على هذا الحصان الأبيض، الذي سيطير بها إلى عنان السماء، محلقًا بها في سحاب السعادة، ودخلت في سن الزواج، ثم طال انتظارها لهذا الأمير، وبدأت الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فلم يتقدم أحد لخطبتها، رغم أن صديقاتها ورفيقاتها وقريباتها بدأن في دخول القفص الذهبي، واحدة تلو الأخرى.

ثم دخلت على أعتاب الثلاثين، وبدأت كلمة عانس تتردد في خاطرها وفكرها كثيرًا، ثم أخذت تسأل نفسها لماذا؟ لماذا أنا عانس؟ بأي ذنب وأي جريرة؟ وليت الأمر انتهى عند ذلك؛ بل إن صديقاتها ورفيقاتها أصبحن يحترسن منها، ويتخوفن منها على أزواجهن، لأنها امرأة بدون زوج.

وأصبحت أي مناسبة عرس بالنسبة لها كمأتم خاص بها، يذكرها بذلك الزوج الذي لم يأت بعد، وأصبحت كلمة "العقبى لكِ" كخنجر تطعن به، ويغرز في قلبها، وتتمنى أنها لم تكن في هذا العرس أو هذا (المأتم) بالنسبة لها.

فهي كلما رأت زوجين يسيران في الطريق متعلقين ببعضهما، وأمامهما طفل يلعب، وهو في أمان لشعوره بوالديه يحرسانه ويرعيانه، كان هذا المشهد يشعرها دائمًا بالغربة والوحشة، وأنها أحيانًا لا تنتمي لهذا الكوكب، كانت إذا جلست بين السيدات المتزوجات فهي دائمًا وأبدًا صماء لا تتحدث؛ لأنهن يتحدثن دائمًا عن أمور الزواج، وغيرتهن على أزواجهن، ومشاكل الأولاد، وغير ذلك، كل هذا كان يجعلها تشعر حقيقة أنها غريبة.

في الحقيقة هذا حال كثير من البنات العوانس اللاتي لم يتزوجن بعد، وقد تقدمن في أعمارهن، فهن يُصبْن بحالة من الانطوائية، وبعض السلوكيات النفسية العدوانية تجاه السيدات المتزوجات، وخاصة قريناتهن، فهي تشعر أنها قد تزوجت وتركتها وحدها؛ بل إنها قد تفكر في الماضي، وتقرأ الأحداث الفائتة على أن صديقتها كانت تبحث عن ذاتها فقط، وكانت تظهر نفسها حتى تقدم لها الخطاب وتزوجت، وهكذا يأخذ التفكير لدى الفتاة التي لم تتزوج منحنًى آخر تمامًا، فهي تنظر إلى الحياة بنظرة تشاؤمية، وترى أن المجتمع الذي تعيش فيه هو مجتمع ظالم.

نعم قد يكون للمجتمع الذي تعيش فيه الفتاة، التي تأخر زواجها، يد فيما وصلت إليه، ففي مثل مجتمعاتنا يُنظر إلى المرأة السمراء نظرة دونية بعض الشيء، فهو مجتمع يعشق المرأة الشقراء والبيضاء، وكذلك ما يمر به المجتمع من أزمة للبطالة، وحالة اقتصادية متردية تمامًا، وكذلك ازدياد تكاليف الزواج ونفقاته، مما يثقل كاهل أي شاب يريد العفاف، وهو حديث عهد بمسئولية الحياة.

وقد يكون السبب هو عضل الفتاة عن الاقتران بمن تراه مناسبًا، وقد حذر المولى عز وجل أولياء المرأة من ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].

ورغم كل ما سبق، فإنه ينبغي للفتاة، التي لم يكتب لها الزواج بعد، أن تعلم أنها مبالغة في كل هذا الشعور السيئ تجاه من حولها، فما يحدث لكِ أخيتي ما هو إلا قدر وابتلاء، ومحنة كسائر المحن، فمن الذي استقامت له الحياة؟، ومن الذي عاش في حياته سعيدًا دائمًا على دروب الهناءة والراحة؟!

إن لكل إنسان محنته وبلاءه، فكم من مريض أغلى أمانيه أن يرد الله له صحته، وكم من مدين أعلى أمانيه أن يقضي الله دينه، وكم من فقير يرجو من الله أن يسد فاقته، وكم من سجين يدعو الله أن يفك سجنه، وكم من خائف يدعو الله أن يؤمن روعته، وكم من غريب تمنى أن يرجعه الله إلى أهله وبيته.

بل هل كل من تزوج فهو سعيد؟ لا، فهناك الزوج البخيل، والزوج الشاك في زوجته دائمًا، وهناك الزوج ضعيف الشخصية، والزوج المدخن والمدمن، والزوج الحقود، والزوج الذي لا ينفق على أهل بيته ويتركهم يتكففون الناس؛ بل إن هناك من الزوجات من تبيت ليلتها تدعو على زوجها أن يقبض الله روحه، ولا يستيقظ من نومه، حتى تستريح من ضربه المبرح، وإهانته، وألفاظه الجارحة الخادشة للحياء.

إن المؤمن يعيش بين قضاء وقدر، بين سراء وضراء، بين عسر ويسر، فليس عليه إلا تسليم لقضاء الله وقدره، والرضا بما قسمه المولى عز وجل، فإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له.